بقلم جون ألترمان

يُشاع في أوساط التدريبات الشرطية أنّك لا يجب أن تسحب مسدسك إلا حين تكون جاهزاً لاستخدامه. لكن يبدو أنّ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يُلوّح بسلاحه في ليبيا، حيث هدّد يوم الأحد 21 يونيو/حزيران بالتدخُّل شرق ليبيا في حال تجاوزت القوات المتمركزة غرباً مدينة سرت على الساحل الأوسط. غير أنّ السيسي لا يتكلم من وضعية قوة هنا، إذ إنّ ليبيا تبدو أشبه بفخ له على الأرجح، وليس نقطة انطلاقٍ إلى النصر.

وفي السنوات الأخيرة، اختفت ليبيا ومصر من قائمة الاهتمامات الأمريكية، إذ بدت مشكلات الشرق الأوسط عصية على الحل على الكثيرين، ولا تستحق إهدار الأرواح والأموال الأمريكية من أجلها. وحتى لو اتفقنا على هذا الرأي، فإنّ أيّ مشكلةٍ تُواجهها مصر تظل مشكلةً بالنسبة للولايات المتحدة، حيث إنّ سكان مصر، وموقعها الجغرافي، وثقلها الثقافي هي أمورٌ تجعل منها قوةً نافذة في مجالات تُثير اهتمام أمريكا حول العالم، بدءاً من مكافحة الإرهاب ووصولاً إلى منع انتشار الأسلحة. ولا عجب في أنّ روسيا والصين تستثمران في تقوية علاقاتهما مع مصر.

وبالنسبة لليبيا، فقد غرقت البلاد في مستنقع الفوضى منذ اندلاع الانتفاضات العربية قبل نحو عقدٍ من الزمن، إذ سقط الديكتاتور معمر القذافي بعد 42 عاماً على رأس السلطة، تاركاً خلفه القليل من المؤسسات ومجموعةً من الشبكات الإجرامية التي تُهرّب اللاجئين والأسلحة وأي شيء يُمكنها الحصول عليه. وظهرت حكوماتٌ متنافسة بمرور الوقت، حيث جاءت حكومة غرب البلاد نتيجة مفاوضات الأمم المتحدة التي سعت إلى حل المطالبات السياسية والاقتصادية في عام 2015، ثم تمخّضت الحكومة الشرقية من رحم برلمانٍ مُنتخب رفض اتفاقية الأمم المتحدة وتحالف مع خليفة حفتر، رجل القذافي السابق الذي انشق وصار عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية، ثم عاد إلى ليبيا واضعاً السلطة نصب عينيه.

وأثبت حفتر أنّه دبلوماسي بارع، إذ نجح في الفوز بدعم روسيا، ومصر، والإمارات، وحظي أحياناً بإشادة فرنسا والرئيس ترامب أيضاً. ويعتمد في اعتراضه على الحجة القائلة إنّه الوحيد القادر على إنقاذ ليبيا من مستنقع الفوضى وغياب القانون، إذ انتشرت الجماعات الجهادية، وتجار البشر، والمهربون في كافة أنحاء البلاد، وكان العالم بحاجةٍ إلى إحلال النظام في ليبيا، والحفاظ على النفط أيضاً، وهو القائد الذي يستطيع تحقيق ذلك.

لكن حفتر لم يكُن بارعاً في العسكرية بقدر براعته في الدبلوماسية، إذ تخلّت عنه قواته (وعادت إليه ثم انشقت من جديد في بعض الأحيان) بتغيُّر الظروف. ورغم المساعدات الأجنبية واسعة النطاق فإن مسيرته لم تكُن متساويةً في كافة أنحاء البلاد، إذ فشلت جهوده للاستيلاء على طرابلس غربي ليبيا. وكان الأمر الأكثر إضراراً بمصالحه هو أنّ جهوده منحت أعداءه دعماً تركياً كبيراً، مما زادهم قوةً وشجاعة، واستطاع حفتر أن يُقاتل، ولكنّه عجز عن الفوز، وكان يفقد الأراضي باستمرار.

ومع تراجع احتمالات انتصار حفتر بدأت الدول التي دعمته في مراجعة مواقفها، إذ يبدو أنّ الإمارات تبحث عن قيادةٍ بديلة، بينما يبدو أنّ روسيا تسحب دعمها رغم سياستها الانتهازية داخل ليبيا. كما يبدو أنّ فرنسا اكتشفت قبل فترةٍ طويلة أنّ حفتر ليس قوياً بما يكفي ليكون زعيماً جيداً، في حين يبدو أنّ دعم ترامب الذي أعرب عنه في مكالمة هاتفية، في أبريل/نيسان 2019، لحفتر قد تبخّر أيضاً.

وهذا يترك السيسي معلّقاً بحفتر، ولا شكّ أنّ مصالح السيسي هنا على المحك أيضاً؛ إذ يعمل عشرات الآلاف من المصريين في ليبيا، وكان مئات الآلاف يعملون هناك في الماضي (وربما في المستقبل)، في حين أنّ غياب القانون داخل ليبيا ينتقل عبر حدودها مع مصر. علاوةً على التحيّز المثير للجدل الذي تزعم فيه مصر أنّ حكومة طرابلس مليئةٌ بأعضاء جماعة الإخوان المسلمين؛ إذ اقتلع السيسي الإخوان المسلمين من السلطة بالقوة في مصر عام 2013، وما يزال يرى في الجماعة تهديداً وجودياً.

لذا، رسم خطاً لا يجب تجاوزه على الرمال عند سرت، وسوف يتدخّل في حال اقتربت قوات حكومة طرابلس منه.

وربما يأمل السيسي أنّ التهديد بالتدخّل سيُسرِّع عملية تقسيم ليبيا، ولن يكون تقسيم ليبيا سيئاً بالنسبة لمصر وفقاً لبعض الحسابات، إذ سيمنح مصر دولةً صديقة على حدودها، ويسمح للمصريين بالتدفّق عائدين إلى ليبيا لدعم صناعة النفط الليبية، كما سيُعيد ذلك تأكيد سمعة مصر بوصفها قوةً دبلوماسية وعسكرية إقليمية، بعد سنوات من تراجع مكانتها.

لكن التدخّل المصري يُمثّل مقامرةً كبيرة، إذ تُمثّل الثروة النفطية جزءاً من أسباب جاذبية ليبيا للتدخّلات الخارجية، وتقسيم البلاد سيُحوِّل تقسيم الغنائم النفطية إلى رياضةٍ دموية. وتاريخ جنوب السودان المأساوي مؤخراً هو مثالٌ مؤلم على أنّ التقسيم قد يُفضي إلى نتائج سيئة أحياناً.

والأمر المُروِّع بالقدر نفسه هو الأداء العسكري المصري؛ إذ حاربت مصر تمرّداً في شمال سيناء لمدة عقدٍ تقريباً دون تحقيق نصرٍ مُقنع. وبات السكان المحليون في شمال سيناء ينظرون إلى القوات المصرية على أنّهم غزاة من وادي النيل. ولن نُفاجأ في حال كان موقف الليبيين -تجاه قوةٍ عسكرية قادمة من الشرق- مماثلاً.

وأخيراً، يجب على مصر أن تتذكّر ما حدث مع غزة؛ إذ انتقل الجيش المصري إلى قطاع غزة عام 1948 في أعقاب تأسيس دولة إسرائيل، وتظاهر المصريون في البداية بأنهم جاؤوا لتحرير البلاد والدفاع عن الفلسطينيين ضد انتهاكات الدولة الصهيونية التوسّعية، لكن المصريين بغضوا غزة سريعاً، كما بغض الفلسطينيون مصر، وخسرت مصر غزة في حرب 1967، لكن المشاعر لم تتغيّر؛ إذ اشتكى المصريون طيلة عقود من التهريب والأنشطة غير القانونية التي تأتي من غزة، وتذمّروا لأنّ القيادة الفلسطينية لا تتبع أوامرهم. وفي النهاية شنّت مصر حملةً صارمة على الشريط الحدودي الممتد بطول 12 كم، مع عداءٍ متزايد لحكومة حماس التي تحكم غزة. وانتهى زمن النوايا الحسنة بين الطرفين.

ويبدو أنّ السيسي يُراهن على أنّ التلويح بسلاحه سيُحوّل مصر إلى صانعة ملوك في شرق ليبيا، ويُبرهن على أنّه الزعيم الأبرز في شمال إفريقيا، ويُعيد مصر إلى مكانتها الطبيعية في قلب الأحداث العالمية؛ إذ تمتلك مصر أكبر جيش في إفريقيا، ويبدو أنّ المشير السابق في القصر الرئاسي بالقاهرة متحمّسٌ لإحراز نصرٍ سريع.

ولكن المُرجّح على أرض الواقع هو أنّ السيسي سيتعثّر في مستنقعٍ يسهل دخوله، ولكن يصعب الخروج منه. ولن يكون تدخُّله أنيقاً بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولن يُحافظ جيشه على أداءٍ قوي طوال الوقت، وربما يستمر الاحتلال اللاحق لسنوات. 

وبدلاً من التمسُّك بجهود حفتر العسكرية الفاشلة، يجب على السيسي أن يتجاوزه وينظر إلى القيادة التي تستطيع تسوية الحرب الأهلية الليبية. وربما يكون ذلك أقل إرضاءً لغرور القائد العسكري السابق، لكن مصر لن تُحرِز نصراً في ليبيا عبر فوهات البنادق.

***

جون ألترمان ـ مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية

_______________

مواد ذات علاقة