تشهد ليبيا، في هذه الأيام، مشهدًا ضبابيًا وجمودًا عسكريًا رسم مسارًا أوحد للحرب الحالية، عنوانه: «الانتصاراتُ وحدها لا تكفي».

هي معادلة تصب لصالح الجنرال المهزوم خليفة حفتر الذي خسر في ثلاثة أسابيع فقط الغرب الليبي، بينما ما زالت قواته تزداد ضراوة، أمام عجز حكومة الوفاق عن تنفيذ تهديدها الذي أطلقته قبل 50 يومًا باقتحام مدينة سرت، مفتاح الشرق الليبي، والطريق الواصل إلى حقول النفط الاستراتيجية.

وبينما أعلنت فيه تركيا حشد قواتها استعدادًا لاقتحام مدينة سرت، كان الجيش المصري يُنفّذ محاكاة للحرب في ليبيا قرب حدوده الغربية، تزامنًا مع حصوله على الضوء الأخضر من برلمان طبرق الموازي للتدخل العسكري لحماية المدينة تحت غطاء شرعيٍ ورسميٍ في حرب الوكالة.

يشرح التقرير التالي لماذا تعقدت الأبعاد السياسية حول سرت تحديدًا؟ وما يريده كل طرف دولي منها، وتأثير مصر في المشهد بعد تهديدها بالتدخل العسكري.

سرت وقاعدة الجفرة على رأس شروط التفاوض

أطلق حفتر في أبريل (نيسان) العام الماضي، معركة إسقاط العاصمة الليبية طرابلس، إلا أنّ المعادلة انقلبت رأسًا على عقب بتوقيع حكومة الوفاق اتفاقية أمنية مع تركيا في ديسمبر (كانون الأول) في العام نفسه، وبعد 14 شهرًا من الحرب، مُني الجنرال الليبي بهزيمة مدوية بدأت بخسارته المدن المطلة على الساحل الغربية، مرورًا بقاعدة الوطية الاستراتيجية، وأخيرًا بالانسحاب من مركز عملياته في مدينة ترهونة، جنوب شرق طرابلس.

ما مصير حقول النفط الليبية الآن؟

وفق المستجدات العسكرية الأخيرة، لا يتبقى لحفتر في وسط ليبيا سوى مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية الاستراتيجية، وسقوطهما يعني تلقائيًا سقوط الجنوب، وحينها ستكون المنطقة الغربية والوسطى والجنوبية في قبضة حكومة الوفاق، مما يعني أنّ النفوذ السياسي لحفتر سيصبح كما كان قبل صعوده في شهر سبتمبر (أيلول) عام 2016. رغم التعهدات الأولية التي أطلقتها حكومة الوفاق لحلفاء حفتر، بأن التحركات العسكرية لا تتضمن التقدم في الشرق الليبي بعد الاستحواذ على قاعدة الجفرة ومدينة سرت، لأنّ بقاءها خارج السيطرة يُهدد مكتسبات المعركة ومستقبل التفاوض بالنسبة لجانب الوفاق.

على الجانب الآخر، اشترطت تركيا، حليفة حكومة الوفاق التي غيرت مجرى الحرب لصالحها، انسحاب قوات حفتر من سرت والجفرة من أجل التوصل إلى هدنة، وذلك مقابل عدم التصعيد بعملية عسكرية حتمية لاقتحام المدينة.

الشرط الذي فرضته تركيا للبدء في المفاوضات السياسية، اعتبرته قوات شرق ليبيا لا سبيل لتحقيقه عمليًا بموازاة استمرار الحشد العسكري على أطراف المدينة، وهو ما دفع روسيا لتسليم حفتر الشهر الماضي 14 طائرة حربية من طراز ميج 29 استعدادًا للمعركة المرتقبة، بحسب اتهامات القيادة العامة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم).

تزامن الاتهام الأمريكي مع تقريرٍ نشرته وكالة «رويترز» بتجنيد روسيا مئات المرتزقة السوريين للقتال في ليبيا لصالح حفتر، لكنّ تحركات القاهرة بدت أكثر علانية مع تهديدٍ مباشرٍ لحكومة الوفاق باعتبار مدينة سرت والجفرة «خطًا أحمر» لن تسمح مصر والدول الداعمة للجنرال الليبي بسقوطها.

وفي ظل تجاهل طرفي الصراع الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، تتخبط الولايات المتحدة في لعب دور حاسم في الصراع الليبي. بينما قاد انسداد الموقف السياسي بين كافة أطراف الصراع لنهايةٍ حتمية لا مفرّ منها، طالما أنّ الجميع اتفق على عدم التفاوض.

بعدما رفضت حكومة الوفاق الدعوة التي أطلقها رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح لوقف إطلاق النار وطرح مبادرة جديدة تشمل لقاءً قريبًا يضم كافة أطراف الصراع، بدأ حفتر في استغلال ورقة النفط في محاولة لفرض شروطه؛ وبعد نحو 24 ساعة من إعلان المؤسسة الليبية للنفط رفع القوة القاهرة وإعادة فتح المواني النفطية بعد إغلاقها منذ بداية العام، قرر حفتر إغلاقها مرة أخرى ضمن سياسة امتلاك أوراق القوى لفرض شروطه في التفاوض.

تحركت مصر أيضًا لمطالبة الأمم المتحدة بعدم تسجيل مذكرة التفاهم بين تركيا والسراج، بينما كان البرلمان الليبي التابع لطبرق يمنح الضوء الأخضر للتدخل المصري، لتنطلق بعدها بساعاتٍ تصريحات المتحدث باسم قوات حفتر الذي أعلن فيها تحركات كبيرة للوفاق صوب مدينة سرت والجفرة، بدءًا لمعركة من المقرر أن تُحدد مصير مصالح تسع دول تتقاتل داخل ليبيا.

لماذا يتقاتل الجميع على سرت؟

حين اندلعت الثورة الليبية في فبراير (شباط) عام 2011، حرص العقيد الليبي معمر القذافي على إبقاء مدينة سرت التي وُلد فيها بعيدة عن تداعيات الثورة وتطوراتها، وهو الدور الناجح الذي ساعد المدينة في تحولها إلى قلعة حصينة صمدت أمام الثوار وهددت حراكهم، على عكس كافة مدن الساحل التي سقطت بما فيها العاصمة طرابلس.

تحولت المدينة لاحقًا إلى عاصمة ليبيا في سبتمبر (أيلول) عام 2011 قبل شهرٍ من مقتل القذافي، وفشلت قوات مصراتة المدعومة من حلف الناتو في إخضاعها بسبب استماتة القوات المدافعة عنها، وكانت المدينة نفسها هدف تنظيم الدولة الإسلامية عام 2016، حين فرض سيطرته الكاملة عليها لمدة عامين.

وخلافًا للموقع الجغرافي الذي تحظى به المدينة، كونها تقع في المنتصف بين عاصمتي النزاع الليبي بنغازي، وطرابلس؛ فهي تحظى بأهمية اقتصادية نظرًا لأنها بوابة العبور إلى أهم أربعة مواني نفطية في البلاد (رأس لانوف، البريقة، السدرة، الزويتينة)، التي تصدر 80% من النفط، و60% من الصادرات الليبية.

وبعيدًا عن دعم حفتر، فالرغبة الروسية في منع سقوط سرت تكمن في رغبة روسيا في إقامة قاعدة عسكرية دائمة في الجفرة على غرار قاعدة «حميميم» في سوريا، إضافة إلى قاعدة بحرية أخرى في سرت الساحلية تضمن لها موطئ قدم في شمال أفريقيا، والوصول عبر الجهتين – سوريا وليبيا – إلى شرق البحر المتوسط، حيث الدول التي تتصارع على الطاقة من جهة، ولتهديد حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهةٍ أخرى ردًّا على تهديدات «الدرع الصاروخية» للناتو بالقرب من حدودها الغربية.

سقوط سرت يهدد أيضًا مصالح فرنسا البحرية، كونها الدولة الوحيدة التي لا تخفي دعمها السياسي لحفتر، ولا عداءها العلني لتركيا، وسبق لأنقرة أن طلبت رسميًا من حكومة الوفاق الحصول على إذن بالتنقيب في شرق البحر المتوسط، لتكون ضمن استراتيجية تركية انتهجها أردوغان منذ سنوات في خطة لتوسيع دور أنقرة الإقليمي في الشرق الأوسط، سواء كان سياسيًا، أو دبلوماسيًا، أو اقتصاديًا، وعسكريًا.

أما بالنسبة للإمارات، فسقوط سرت الساحلية يمهد الطريق لخسارة أبو ظبي مواني شرق ليبيا، وتسيطر حاليًا على مينائي طبرق وبرقة، وتضع خطة السيطرة على مواني البحر المتوسط عبر شركة مواني دبي، وهي التطورات التي تُنهي أطماع الإمارات الاقتصادية لصالح تركيا في ظل تسريبات تحدثت عن توقيع عن اتفاقيات اقتصادية وعسكرية لم تُعلن بعد.

بالنسبة لمصر، فلا يمكن أن تسمح بسقوط سرت، كونها مفرق العبور إلى قلعة حفتر في الشرق الليبي في بنغازي التي اختارها الجنرال الليبي لتكون عاصمته ومقر عملياته العسكرية نتيجة قربها الجغرافي من الحدود المصرية، فالقاهرة هي الحليف العربي الأول لحفتر التي وفرت دعمًا جويًا علنيًا خلال معارك شرق ليبيا، ثم رسمت الخطة العسكرية للسيطرة على الجنوب الليبي وصولًا إلى طرابلس.

وعبر الحدود الشرقية، عبرت المدرعات المصرية التي أنتجتها مصر حصريًا مع شركة تسليح أمريكية، ومن خلال المطار الدولي والميناء، زوّدت الأردن والإمارات الجنرال الليبي بأسلحة وعتادٍ إلى جانب نقل جنود وعسكريين باستمرار في محاولة لمنع اختلال موازين القوى في المعركة.

ومع إصرار تركيا على خوض معركة سرت، قرر برلمان طبرق الذي يحظى بشرعية دولية تنفيذ تهديده، ومنح مصر سلطة التدخل العسكري على غرار ما فعلته الوفاق، لكن الخُطوة نفسها ما زال يُنظر لها بالتشكيك، كون المواجهة بين تركيا ومصر تستند لاعتبارات سياسية وعسكرية أخرى.

هل يشكل دخول مصر تهديدًا كبيرًا للوفاق؟

بالتزامن مع التحركات العسكرية الأخيرة في محيط سرت ودعوة برلمان طبرق لتدخل القاهرة، نشر معهد «فورين بوليسي ريسرتش» تقريرًا حول قدرة الجيش المصري على القتال في الميدان الليبي.

تتمثل أولى العقبات التي تمنع مصر من خوض حربٍ علنية في الخوف من أية سيناريوهات فاشلة تقضي على الصورة النمطية التي نمَّاها الجيش محليًا باعتبارها قوة عسكرية، والتي يستمد منها إحساسًا بالشرعية السياسية، بحسب المعهد الذي اعتبر أنها على الأرجح ستتدخل رمزيًا بدل الانخراط الكامل، وستفضّل ترك الدفاع عن سرت والجفرة للإماراتيين والروس.

ومن وجهة نظرٍ عسكرية، فالبحرية المصرية قد تتعرض لهجومٍ محتمل إذا اقتربت من السواحل الليبية نظرًا لوجود قطع بحرية تركية مرابضة، وبينما كانت طول خطوط الإمداد نقطة ضعفٍ لحفتر في معركته غرب طرابلس، فإن حكومة الوفاق لن تستطيع شنّ معركة مضادة في الشرق الليبي للسبب نفسه الذي يمنع تدخل قوات برية مصرية دون تجاوز مخاطر التعرض للاستنزاف، وهو السبب الذي دفع معركة سرت للتأخر حتى الآن إلى نحو شهرٍ ونصف من ترتيب أوراق كل طرف.

أيضًا، لن يتمكن سلاح الجو المصري من توفير غطاء جوي طويل المدى بسبب طول المسافة وضعف قدراته في إعادة التزود بالوقود في الجو، إضافة إلى عدم امتلاك حفتر أية قواعد جوية في غرب ليبيا عقب سقوط قاعدة الوطية، وهو ما يجعل وصول قوات برية أو بحرية أو جوية إلى غرب ليبيا بصورة دائمة عملية شبه مستحلية.

بالعودة إلى معركة سرت المرتقبة، فتركيا نفسها تواجه أزماتٍ ميدانية أبرزها وجود قاعدتي الجفرة والخادم، إضافة إلى منظومتي الدفاع الجوي من نوع «بانتسير» الروسية الصنع التي وصلت مؤخرًا إلى سرت، والتي يُنسب لها إسقاط 70 طائرة تركية من دون طيار من نوع «بيرقدار»، لذا فالطيران التركي الذي حوّل مسار معركة طرابلس، لن يكون بمقدوره الاقتراب من الشرق الليبي خوفًا من الوقوع فريسة سهلة للقواعد الجوية من جهة، والدخول في منطقة وصاية مصرية محظورة من جهة أخرى.

رغم العقبات التي تواجه كل طرفٍ في المعركة المرتقبة، إلا أنّ حكومة الوفاق أعلنت استعدادها لدخول المدينة خلال الساعات القادمة في وقتٍ بثت فيه قوات حفتر صورًا لتعزيزاتها المتجهة إلى سرت، ومن المقرر أن تغير تلك المعركة تحديدًا خريطة الصراع الليبي.

_____________

مواد ذات علاقة