بقلم السنوسي بسيكري

استقبل السيسي وفد القبائل الليبية، وعبر هالة إعلامية وظهور ذي بهرج أعلن أنه سيدخل ليبيا عسكريا بطلب منهم، وليطمئن جموعا كبيرة من بينهم شيوخ وأعيان قبائل قلقون من الورقة المصرية الجديدة في ليبيا، أعلن أنه سيخرج من ليبيا بأمر منهم.

بالقطع لم تكن الزيارة طوعية، فالسياسة المصرية، التي تتسم بالتخبط، اتجهت إلى ورقة القبائل وشيوخها لفتح مساحات للمناورة داخل ليبيا بعد أن ضاقت عليها السبل بالفشل في التعويل على الاجسام السياسية والعسكرية، من برلمان وحكومة مؤقتة وجيش.

لماذا القبائل ولماذا الشيوخ؟

رهان القاهرة على البرلمان والجيش التابع له ودعمها الكبير لهما أوصلها إلى مأزق أفقدها الأوراق التي كانت تتصور أنها من خلالها يمكن أن تؤمن استقرارها والحصول على جزء من الكعكة عبر الاستفادة من الثروة الليبية التي أعلن ساسة ونخب مصرية أن مصر حرمت منها لعقود.

صار برلمان طبرق جسما بلا روح بعد سلسلة من الممارسات الخاطئة والتي كان من نتائجها سلبه الشرعية وتجيير مواقف من تبقى من أعضائه، الذين لا يتعدى عددهم الـ30 عضوا، لمصلحة رئيسه أو لخدمة مشروع حفتر.

أما الجيش التابع للبرلمان فقد أدى تهور وعنترية قائده إلى هزيمة لم تفقده حضوره في الغرب الليبي فحسب، بل سلبته النفوذ في الجنوب، وخلخلت قاعدته في الشرق، وكان من أهم تداعياته تملص الأطراف الإقليمية والدولية من دعمها لحفتر وذلك بعد فشل مغامرته في طرابلس والكشف عن انتهاكات وجرائم خطيرة أصبحت محط الاهتمام دوليا.

مخطط القاهرة أحبط بدعم تركي لحكومة الوفاق المتآمر عليها من قبل حلف إقليمي مصر شريك فيه، وفشل الجيش والمليشيات الأجنبية في مواجهة الحلف، فصار الاتجاه إلى القبائل كمحاولة أخيرة لتعظيم التحديات أمام الوفاق المدعومة تركياً.

القبائل والعمق الاستراتيجي لمصر

القفز إلى المنتظم الاجتماعي الليبي عامة، والبرقاوي خاصة، ومحاولة اللعب على وتره وتوظيفه في التدافع والاستقطاب الإقليمي والدولي أمر خطير، وأشبه ببرميل البارود القابل للاشتعال والانفجار في حقل ملغوم الشرر يتطاير في كل جنباته.

أخبرني من أثق في معلوماتهم أن السلطات المصرية تتحرك بحيوية داخل المكونات الاجتماعية في الشرق المصري، وبعض مناطق وجود القبائل التي لها امتداد في ليبيا، والغرض هو حفزهم للمشاركة في أي خطوة تقدم عليها القاهرة تتعلق بالتدخل في ليبيا.

ولأن ملف القبائل المصرية ذات الامتداد في ليبيا، أو التي كان لها وجود في برقة، شديد التعقيد وشديد الحساسية، ويشكل تهديدا لقبائل برقة، لجأت القاهرة إلى التعبئة ضمن المنتظم الاجتماعي القبائلي الليبي والبرقاوي في محاولة لاستخدامه كأداة ضغط في هذه المرحلة، ووسيلة لخلط الأوراق في مرحلة لاحقة.

المنتظم القبلي والتشويش على المنتظم المدني

يتفق كل أو جل من عارضوا العدوان على طرابلس أن من بين أهداف حفتر وحلفائه الإقليميين عسكرة الدولة والقضاء على الأجسام السياسية والاجتماعية والعسكرية التي تتطلع إلى قيام دولة مدنية يحكمها الدستور ويخضع فيها الجيش لسلطة مدنية منتخبة.

وقد كان من أهم نتائج فشل مغامرة الاستيلاء على السلطة بالقوة في العاصمة أن ترسخ الخيار الديمقراطي أكثر، وتراجع مشروع العسكرة وحكم الفرد، فاتجه عرابو العدوان إلى اللعب على وتيرة القبيلة والقبلية بشكل مباشر والدعوة إلى فرضها كرائد لأي تحول أو انتقال أو تسوية للأزمة الليبية، فدعا قادة إقليميون القبائل لتصدر تسوية الأزمة، واتخذت القاهرة خطوات عملية لتعبئة المنتظم القبلي ليفرض واقعا يحقق مصالحها بعد أن فشل البرلمان والجيش التابع له في تحقيق ذلك.

ارتباك السياسة المصرية تجاه ليبيا يعود لفترة سيطرة ضباط حركة يونيو مطلع خمسينيات القرن الماضي على مقاليد السلطة، فالعسكر في مصر بقيادة عبدالناصر رأوا، في فترة من فترات حكمهم، في النظام الملكي صدى للرجعية والعمالة للاستعمار، ثم اضطروا للتعامل مع الدولة الوليدة لأسباب عدة منها نجاح الملك الراحل في منع الهيمنة المصرية، وأخرى تتعلق برغبة النظام المصري في التعاون والتنسيق سياسا واقتصاديا بعد أن صارت ليبيا غنية بثرواتها النفطية.

تبدل اتجاه الضغط والتجاذب ما بعد إدريس وعبدالناصر، فقد سعى القذافي إلى فرض أرادته وتمرير رؤيته بصفته “أمين القومية العربية” ووريث الزعامة الناصرية، وبحكم طبيعة القذافي العنيفة تحول التجاذب إلى مواجهة وقطيعة امتدت خلال فترة حكم السادات وردح من حكم مبارك، ولم يتخل القذافي عن ازدرائه للنظام المصري وقيادته إلا بعد وقوعه في مأزق العزلة والملاحقة من قبل الأطراف الدولية. ولتصبح المصالح هي الفيصل في تحديد طبيعة العلاقة، فالأموال الليبية عرفت طريقها إلى الاقتصاد المصري في شكل استثمارات، مقابل الدعم والوساطة المصرية في مواجهة الضغوط الخارجية والتنسيق الأمني لمواجهة تهديد الجماعات الجهادية.

مصر تسعى لملء الفراغ السياسي

الاتجاه العام للسياسة المصرية بعد ثورة فبراير تغير بفعل الفراغ السياسي وما تبعه من فوضى أمنية ومشاكل اقتصادية كانت لها انعكاساتها الكبيرة على مصر، وبرزت مقاربة الوصاية والتي أسهم في الترويج لها نخبة سياسية وحتى فكرية حركها الشعور بحرمان مصر من ثروة ليبيا وضرورة استغلال هذه الثروة بأي شكل.

تحدث بهذه المقاربة ساسة وإعلاميون وخبراء مصريون، وسلكت هذه الرؤية طريقها إلى دوائر القرار بعد مجيئ السيسي إلى الحكم في 2013م ثم تمرد حفتر على المنظومة الشرعية في 2014م، ليقع التحالف بين الطرفين ويضع النظام المصري كل آماله على حفتر في تحقيق غايته.

لقد كان الدعم المصري لحفتر كبيرا، إذ لم يقف حفتر على رجليه ويصبح رقما صعبا في المعادلة العسكرية والسياسية الليبية إلا بفضل الرعاية المصرية والتي سبقت الدعم الاماراتي بمرحلة، حتى أن حفتر صرح أنه إذا اتخذت مصرا قرار ضد مصلحة ليبيا فسيدعمه.

قد نتفهم الموقف المصري الداعم للبرلمان الذي عين حفتر قائدا عاما للجيش وذلك بُعيد انتخابات 2014م، لكن القاهرة تفانت في الرهان على حفتر والذي كان على حساب استقرار البلاد وضد خيارات الشعب ومصادم للسلطة الشرعية المعترف بها دوليا، المتمثلة في حكومة الوفاق وذلك بعد توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015م.

ارتباك وتناقضات النظام المصري تجلت ما بعد العدوان على العاصمة، فالقاهرة التي سعت للتوفيق بين السراج وحفتر، وهو توفيق منحاز مبعثه اقتراب السراج من جبهة طبرق وثقته في الدور المصري كوسيط، تورطت في العدوان على طرابلس ودعمه طيلة الاثني عشر شهرا.

النظام المصري هو الذي احتضن كافة الفاعلين السياسيين والإعلاميين والنشطاء ليكونوا حربة في صدر الوفاق، وهو الذي أقنع حفتر بفكرة تقاسم الثروة كورقة ضغط وكذريعة لاستمرار الحرب بعد أن فشلت حجة محاربة الإرهاب وتفكيك المليشيات، والهدف هو تأمين حصة من الثروة يمكن أن يكون لمصر منها نصيب في شكل استثمارات ومشاريع الإعمار.

ذروة التخبط المصري في ليبيا

إعلان القاهرة مثل ذروة التخبط المصري والعنوان الرئيسي للفشل، فقد جاء الإعلان بغرض احتواء ارتدادات هزيمة قوات حفتر في الغرب وما قد يلحق ذلك من تطورات في حال تقدمت قوات الوفاق صوب الحقول والموانئ النفطية.

إعلان القاهرة أراد وقف تصدع جبهة الشرق، ومعالجة الخلاف بين عقيلة صالح وخليفة حفتر، إذ أن انهيار الجبهة الشرقية سيكون طامة كبرى لنظام السيسي، فظهر عقيلة وحفتر متوافقين في القاهرة بعد أن وصل الخلاف بينهما إلى حد اتهام بعض أنصار عقيلة حفتر بتدبير محاولة اغتيال للأول.

أيضا أراد النظام المصري أن يحرك ماء السياسة الدولية الراكد بعد أن أخذت الأطراف الدولية موقف المتفرج من هزيمة قوات حفتر في الغرب، وتتحمل القاهرة وزر ذلك بمشاركتها في دفع حفتر لرفض اتفاق موسكو ـ أنقرة في ديسمبر وما تبعه من مقررات وقرارات عقب اجتماع برلين.

أراد نظام السيسي بمبادرته الالتفاف على مجريات الأحداث العسكرية بمخاطبة المجتمع الدولي بأن من يرفض وقف إطلاق النار ويستمر في العدوان هما حكومة الوفاق وحليفتها تركيا، وليس حفتر، وأن القاهرة، بالفعل وليس بمجرد القول، تسعى إلى تغليب السياسة على الاقتتال.

التحدي أمام إعلان القاهرة لم يقتصر على المضمون الذي لم يعترف بالتطورات الحقيقية على الأرض ولا يقيم للحكومة المعترف بها دوليا وزنا، التحدي يكمن في فشل القاهرة في إقناع دول الجوار الليبي وفي مقدمتها الجزائر، فضلا عن الأطراف الدولية، بالمبادرة، ووجدت القاهرة نفسها في مواجهة واشنطن التي تحفظت بشكل صريح على المبادرة واعتبرتها تغريدا خارج السرب.

مأزق النظام المصري اليوم في لجوئه إلى روسيا لضمان مصالحه في ليبيا، وهو ما يضعه في مواجهة الولايات المتحدة، ولا خيار له لتفادي غضب واشنطن إلا أن ينقلب على سياسته السابقة ويقترب من حكومة الوفاق، ليخرج من مغامرته صفر اليدين.

أعتقد أن مناورات القاهرة لن تتوقف، وإذا استطاع النظام المصري أن يعيق أي اتفاق لا يضمن له موطأ قدم في رسم ملامح حاضر ومستقبل ليبيا فلن يتردد في الأخذ به ولو أدى ذلك إلى التحريض على تقاسم السلطة والثروة أو حتى تقسيم البلاد.

***

السنوسي بسيكري ـ مدير المركز الليبي للبحوث والتنمية

___________

مواد ذات علاقة