لا شك أنّ لكل حرب هدفا سياسيا من خوضها وإلا تصبح عملا عبثيا، ومع الجمود العسكري الحالي وتوقف القتال على تخوم مدينة سرت مفتاح الهلال النفطي، اندفعت روسيا بمرتزقتها بقوة نحو المنشآت النفطية بات يعزز فرضية لعبها على ورقة النفط، لكن قوات الوفاق الوطني تبدو من جانبها عاقدة العزم على استكمال بسط نفوذها على كامل التراب الليبي.

الجزء الثاني

ثانيا: البديل الروسي ومستقبل حفتر

أ – الضغط الروسي

باتت روسيا على قناعة بأن حفتر انتهى سياسيا بعد هزيمته العسكرية، وتتشبث حاليا بحل سياسي يتقدمه رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح وتنكر علاقتها بـمرتزقة شركة “فاغنر” الذين توظفهم الإمارات وتوفر لهم رواتبهم الشهرية.

بل ذهبت موسكو أبعد من ذلك في مناورتها العسكرية فاستقبل وزير خارجيتها سيرغي لافروف، عقيلة صالح وأعلمته أنها تعمل مع الجانب التركي لوقف إطلاق النار في ليبيا وما عليه إلاّ قبول ذلك.

ويجري الحديث عن سيطرة “الفاغنر” على النفط، تحت غطاء ميليشيات حفتر، أي إعطاء الضوء الأخضر للروس وتمكينهم للتحكم في قوت الليبيين.

ومن المؤكد أن الولايات المتحدة لن تقبل الخطوة الروسية التي أعدّتها بمثابة الاعتداء المباشر على سيادة ليبيا وازدهارها، وبالتالي لا يمكن الوثوق في الدور الروسي، فهي التي تخلت عن القذافي بعد الوعود بحفظ مصالحهم وشركاتهم، ومن الممكن إعادة نفس السيناريو، مع ما يروج منذ سنوات عن محاولات روسية لإعادة سيف القذافي، لواجهة المشهد الليبي بطريقة يضمن مصالحهم القديمة ويعيد ماء وجههم المفقود زمن الثورة.

كما أن استهداف قاعدة الجفرة مؤخرا يعبّر عن رسالة قوية أرادها الأتراك والوفاق إرسالها، مفادها أن التصعيد سيزيد من تحسين شروط التفاوض مقابل الرهان الروسي الفرنسي المصري على عقيلة صالح بدل حفتر بغطاء أمريكي للتقليص من الدور الروسي المتنامي والممتد للنفط.

وباتت الإدارة الأمريكية تراهن على الدور التركي كقوة عسكرية تحتل المرتبة الثانية في الحلف الأطلسي، يمكن التعويل عليها في مواجهة التواجد العسكري الروسي، مع عدم ثقة الأمريكان في قدرة فرنسا على هذا الدور الذي انفضحت فيه ببنغازي ثم غريان، خاصة مع إدراكها أن السلاح التركي تفوّق على السّلاح الفرنسي في جبهات القتال.

ب – مستقبل المتمرّد

لم تعد فرنسا ولا روسيا على قناعة ببقاء، المتمرّد العسكري حفتر في صدارة المشهد ولم يعد “رجل ليبيا القوي”، كما كانتا تعتقدان حسب إعلام البلدين، وقد أدرك حفتر ذلك، فعاد مجددا إلى مسلسل التفويض بدعوى التظاهر “ضد التدخل التركي في ليبيا وانتصارا لقائد الجيش الوطني حفتر”.

لكن تبيّن للجميع أن ذلك لا يعدو إلاّ أن يكون إعادة لنفس مسرحية التفويض الأولى منذ انقلابه قبل ستة أعوام، ثم المسرحية الثانية التي عمّقت الشرخ بينه وبين رئيس البرلمان عقيلة صالح عندما طالب حفتر باسقاط اتفاق الصخيرات.

ناهيك عن فضيحة المظاهرات الأخيرة التي جرت تحت التهديد بعد انتشار فضيحة منع المحامية حنان البرعصي من الخروج من ساحة التظاهر.

كما يمكن فهم مبادرة دول الجوار، لرئيسي تونس قيس سعيّد والجزائر عبد المجيد تبّون في جزئية منها، ضمن إطار التخلّص من حفتر وإنهاء مشروعه، حيث أكدا على دور القبائل الليبية في الحل الليبي – الليبي، والحاجة لشرعية جديدة في لعبة لإخراج حفتر والسراج والإبقاء على صالح. وهذا الحل يبدو بعيدا عن الواقع من زاوية نصرة الجانب الشرعي.

لقد اختفى حفتر من المشهد تقريبا ماعدا بعض الظهور الباهت الذي بدا فيه مجردا من الرتب العسكرية، بينما في إعلان القاهرة برز بمظهر المصلح بعد تخريب العاصمة، كما ظهر قبيل أيام بعد لقائه بطبرق وزير خارجية اليونان، الذي رحب بمبادرة عقيلة صالح لتشكيل مجلس رئاسي جديد.

ومع فشل حفتر في تحريك الشارع في بنغازي لدعمه، والإقناع بأنه ما يزال يحظى بتأييد قوي، كعادة حلف حفتر في إطلاق بالونات التخويف والترهيب، لجأوا مؤخرا، إلى مزاعم وجود تنظيم “داعش” وتوظيف الإرهاب، كما فشلوا من قبل في العدوان على طرابلس رغم توفر الفوضى حينها كبيئة للإرهاب يهرعون كما في كل خسارة عسكرية إلى تفريخ الفزّاعات.

والآن مع رغبتهم في تجميد جبهة سرت ظهرت محاولات لزرع “داعش” في مدينة الزاوية غربا بمزاعم وجود خلايا نائمة لإبراز أحقيّتهم بمقاومة الإرهاب وصواب مهاجمتهم للمدن وقبل ذلك أحبطت قوات الوفاق محاولة تفجير في مصراتة في مخطط لإرباك المشهد السياسي وإدخال الفوضى بعد فشل ضم كل الغرب الليبي لمناطق سيطرة حفتر.

وهاهم الآن يلجأون إلى الخطة “ب“، وهي بث الفوضى، وإشاعة الإرهاب، وتحريك خلايا المداخلة، واللعب على وتر الاغتيالات وزعزعة الاستقرار، بعد فشل اقتحام طرابلس. وخاصة بعد اعتراف المنتظم الدولي وعلى رأسه الأمين العام أنطونيو غوتيريش الذي أكد دعمه لـحكومة الوفاق الليبية، واستعداد المنظمة الأممية للمساعدة في الجهود المبذولة لضمان المساءلة حول المقابر الجماعية التي عثر عليها في ترهونة، مركز القوى الأجنبية المناصرة للعدوان على مدن الغرب بما فيها العاصمة.

كذلك، بعد استئصال قوات البنيان المرصوص لداعش منذ سنوات في سرت، ولا تعدو هذه التكتيكات إلا أن تكون عمليات استخباراتية تنفذها دول عسكرية مجاورة، وقد ثبت في الماضي وجود تعاون في هذا المجال.

ونذكر قبل ثلاث سنوات كانت سفارة إيطاليا قلب قوسين أو أدنى من تفجير عنيف لولا نجاح الأمن في تفجير سيارة عن بعد قبل وصولها لهدفها.

وكنتيجة لعدم الاطمئنان وانعدام الثقة في معسكر التمرد على الاتفاق السياسي، لحد الآن يبدو أن حكومة السراج قد حزمت أمرها نحو سرت والهلال النفطي وجنوبا نحو أوباري وفزان وحقل الشرارة لاقتلاع ورقة النفط، بالمناورة أو المشاورة مع تركيا أو بالحرب وبصندوق الذخيرة على حد عبارة الناطق باسم حفتر، فمن اكتسب ورقة النفط فقد قلب الطاولة على غريمه.

وستمثل سياسيًّا، عملية انتخاب ليبيا نائبا لرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة للدورة الخامسة والسبعين التي تترأسها تركيا، ضربة قاسمة لمعسكر المتمّرد، سياسيا ومعنويا في نطاق حشد الدعم الخارجي للحكومة المعترف بها دوليا.

لكن في انتظار ذلك ومع اخفاقات الجناح العسكري والسياسي لحلف حفتر، تبقى مسألة انتفاضة أهل برقة ضد حفتر واردة طالما أنه تخلّى عن الجميع، وتخلّى عنه الجميع، ماعدا الامارات وحدها، لذلك ضغطت على السيسي لجمعهما عندما دعا ل”إعلان القاهرة” لوقف إطلاق النار، لكنها فشلت وها هي فرنسا تتنصل هي الآخر تاركة إياه وحده، كما ذكرنا آنفا.

وقبل الحديث عن أي بديل لحفتر فإن القوى المتخندقة في حلفه، لم يعد يهمّها سوى النفط، وهنا يمكن تصديق حديث البعض عن خبراء توجّه فرنسيين إلى منطقة راس لانوف بالهلال النفطي محمّلين بمعدّات سيطرة وتشويش منها طائرات بدون طيار ومنصّات دفاع جوّي كالتي تم تدميرها في قاعدة الوطية من طرف الوفاق، بهدف ضمّ مواقع النفط، وتقول جهات رفضت الكشف عن اسمها.

إن أولئك الخبراء استقروا في فنادق وبعضهم في المنطقة السكنية براس لانوف، ومن هنا فلا غرابة أن تَقبل فرنسا قادم الأيام أو تشجّع أي دعوة تنادي بتقسيم ليبيا، وهي الفكرة الأسوأ المرفوضة من كل فرقاء الأزمة والمنطقة ككل، رغم تشجيع النظام في مصر على فكرة الفيدرالية، نظرا لمصالحه الضيقة في الشرق الليبي من ذلك توطين ملايين المصريين في واحة الجغبوب، ومطامع في الذهب الأسود، وهي معلنة وقد صرح بها السيسي من منبر الأمم المتحدة.

هذا كله في انتظار موقف حكومة السراج من القبول باستئناف الحوار مع الرجل الجديد عقيلة صالح، الذي يبدو مقبولا من قبل رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري خلال تلميح مؤخرا، بقوله إن عقيلة منتخب شرعياًّ.

مما يوحي بالقبول به لكن دون الجزم قبل استيضاح مواقف جميع الرؤى الأخرى، في ظل عزم أطراف على إيجاد ضمانات حقيقية من طرفي النزاع لتحييد النفط والمؤسسة الوطنية للنفط، والمصرف المركزي وحكومة في “منطقة خضراء” آمنة ومحصنة ترضي الطرفين ربما تكون في مدينة سرت المتنازع عليها حاليا والتي قامت قوات “فاغنر” بتلغيمها مثل جنوب طرابلس مع انتشار المرتزقة داخلها وفي المحطة البخارية وإقامتهم في مدينتها السكنية، مما ينذر بمعركة كسر عظام كبيرة إذا تم اقتحامها.

الخاتمة

رغم موت حفتر عسكريا وسياسيا حسب معاملة داعميه السابقين له، لم ينقطع تمسك السيسي بخيط دخان، في المصالحة الأخيرة وإعلان القاهرة لإيجاد مخرج للرجل من ورطته الدولية عبر جمعه بعقيلة صالح، ثم كلمة السيسي في حشد عسكري على الحدود مع ليبيا للتهديد من مغبّة الاقتراب من سرت والجفرة، مما ساهم في جمود عسكري مستمر لليوم دون اعتبار قصف قاعدتي الوطية والجفرة كما تمت الإشارة، إلى ذلك تعمل حكومة السراج على إيجاد بديل حقيقي للحوار بعيدا عن التيار الفيدرالي الذي يدفع نحو التقسيم.

وكما هو معلوم فإن فرنسا خرجت من المتوسط ومن عملية مراقبة حظر السلاح على ليبيا لصالح تركيا، وهذا ما أعلنته باريس بعد حرب تصريحات كبيرة مع أنقرة، ثم تنصلت من دعم حفتر، والآن تركته مجرّدا من كل النياشين، بينما روسيا ماتزال تتمسّك بعقيلة كبديل أمام ضغط الإمارات.

ومع انكسار الجمود العسكري مؤخرا حول محور سرت الجفرة، فمن المحتمل تحرّك تركيا قريبا نحو معاقل النفط، الورقة الضامنة والرابحة والمتحكمة في كل المشهد الليبي.

كذلك فإن تغيّر الموقف الأوروبي وموقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن باستثناء روسيا المالكة لحق النقض، صارت كل الدول تدعو للتسوية السياسية وإخراج المرتزقة الروس “الفاغنر” ووقف إطلاق النار ووقف التدخل الأجنبي.

لكن هل ستقبل الوفاق الجلوس مع عقيلة بدل حفتر أم ستظهر مبادرات أخرى من دول أخرى داعمة تعيد تدوير حفتر أو ربما تطرح خيارا جديدا.

***

مختار غميض (صحفي تونسي)

_____________

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

مواد ذات علاقة