بقلم فكتور شلهوب

استضافت “منظمة التراث التركي” في واشنطن، وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، الثلاثاء، في ندوة عبر الفيديو، حول “استراتيجية الأمن القومي التركي والتطورات الأخيرة في المنطقة”.

قدّم الجنرال السابق لمحة عن الموضوع، تناولت أبرز محطات سياسة أنقرة الخارجية، من سورية إلى ليبيا، مروراً بحلف شمال الأطلسي “ناتو”، وآيا صوفيا، ونزاع أذربيجان – أرمينيا، وانتهاء بجائحة كورونا والعلاقات مع الولايات المتحدة.

في الملفات الإقليمية، عرض إجمالاً ما هو معروف من الموقف، وخصوصاً في ما يتعلّق بالتدخل في سورية وليبيا.

شرح الدواعي والحيثيات “التي اضطرت تركيا إلى خوض المواجهة على ثلاث جبهات” (سورية والعراق وليبيا)، والتي تنطلق من حق أنقرة في “الدفاع عن حدودها وشعبها”، مع التركيز على “الإرهاب الكردي” حسب وصفه، الموزع في بلدان المنطقة “تحت أسماء وهمية”. وهكذا كانت إشارته إلى الدور التركي في ليبيا، الهادف إلى “حماية وحدة أراضيها وسيادتها الوطنية”.

في توصيفه للعلاقات مع واشنطن، حرص الوزير على مسك العصا من المنتصف، بين التعبير عن الارتياح وبين التلميح إلى الإشكالات، مع شيء من الترجيح للشق الأول. وكأنه أراد توسيع مساحة التلاقي على حساب مجالات التعارض. بدأ في رده على السؤال بالتنويه “بتاريخ العلاقات بين البلدين” ولو اعتراها خلل أحياناً.

كما أشاد بالتقارب بين أنقرة وواشنطن في قضايا مشتركة مثل “مواجهة الإرهاب وفيروس كورونا”، وبما يدل على متانة “الشراكة بيننا”، لكنه حرص في ذات الوقت على الاعتراف بوجود خلافات، مع التلميح إلى عدم رضا تركيا عن ردّ الكونغرس عليها بعقوبات بحقها، “بعد أن رفض الاعتراف بالوقائع”، محذراً بصورة مبطّنة من أن ” لغة التهديد لا تنفع في حلّ القضايا”.

وغمز من زاوية تجاهل واشنطن لطلب تركيا باسترداد رجل الدين فتح الله غولن “الذي ما زال يقيم في الولايات المتحدة”، والمتهم بحسب أنقرة بالتخطيط لانقلاب 2016. والمعلوم أن هذا الملف ساهم في تفاقم التوتر بينهما.

في هذا السياق، يُذكر أن وزارة الخارجية الأميركية أصدرت، الاثنين، بياناً بمناسبة مرور “ألف يوم على توقيف القيادي المدني ورجل الأعمال الخيرية عثمان كافالا”، دعت فيه الحكومة التركية “لتنفيذ التزاماتها بقواعد العدالة والقانون، وإطلاق سراحه، وحل قضيته بصورة شفافة وعادلة وسريعة “.

نبش هذه القضية، وفي هذا الوقت وهذه الصورة، أثار التساؤل، سيما وأنه يأتي على خلفية علاقات متذبذبة، وفي لحظة بروز الدور الروسي في ليبيا، في حين تلتزم إدارة ترامب بالصمت حيال هذه الأزمة.

كان الاعتقاد السائد، ومنذ فترة، أنّ “تركيا حليف صعب في منطقة متغيرة المصالح”. وفي الآونة الأخيرة، بدا لجهات أميركية أنّ “السياسات التركية الجازمة في المنطقة من شأنها تعميق الفجوة ” بين واشنطن وأنقرة، والتي توسعت مع شراء أنقرة لشبكة الدفاع الجوي الروسي “إس-400”.

لكن الواقع أكثر تعقيداً. فالظروف تبدلت والحسابات تغيّرت، وقد تكون الساحة الليبية، بالإضافة إلى مستجدات واعتبارات أخرى، بوابة لترميم العلاقات التركية – الأميركية وردها إلى حالها السابق، الذي اهتز في السنوات الأخيرة. فواشنطن، حسب هؤلاء المتابعين، “انزعجت من الدور الروسي في ليبيا”، والرئيس التركي “لا يأتمن لبوتين لا في ليبيا ولا في سورية”، وبذلك تقاطعت المصالح في ليبيا بعد أن أدى التدخل التركي إلى انقلاب الموقف ضد اللواء المتقاعد خليفة حفتر.

سبقت ذلك مؤشرات تعزز الاعتقاد بوجود برودة في العلاقات الروسية – التركية، مقابل بوادر تقارب بين أنقرة وواشنطن، منها إلغاء اللقاء الدبلوماسي التركي – الروسي في إسطنبول، في يونيو/ حزيران الماضي، وتواصل التأخير في تفعيل نظام إس-400″ الصاروخي الروسي الذي اشترته أنقرة. كما لوحظ في المدة الأخيرة تزايد شراء تركيا للغاز الأميركي المسيّل. وهناك قرار اتخذته إدارة ترامب قبل أيام، ترددت حوله شائعات في واشنطن، بأنه جاء خدمة لأنقرة، وتمثل في الإطاحة بمدعي عام منطقة جنوب نيويورك الذي كان يقترب من إدانة بنك تركي تعامل مع إيران خلافاً للعقوبات.

كلّ ذلك مع بعضه، وضع في خانة التقارب التركي – الأميركي الجديد “الذي تفضله تركيا في هذا الوقت من التأزم الاقتصادي العالمي” الذي يمكن التعويل فيه على واشنطن أكثر من موسكو.

العلاقات الأميركية التركية عرفت الكثير من التأرجح في المدة الأخيرة. المداراة المتبادلة لعبت دورها في لجم التدهور، كما ساهم تفاهم ترامب – أردوغان في ضبطه. وضع قد لا يستمر على هذه الحال إذا فاز المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأميركية جو بايدن، الذي يعطي الأفضلية للحسابات الأمنية الخارجية قبل الاقتصادية، كما هو حال الكونغرس المتشدّد مع تركيا بسبب تقاربها، ولو التكتيكي، مع موسكو.

********

التوتر الأوروبي – التركي في البحر المتوسط

بقلم د. خطّار أبو دياب

ستكون منطقة البحر المتوسط حبلى بالتحديات الإستراتيجية في السنوات المقبلة، وهناك العديد من العوامل التي تتجمع لتفجير الأزمات فيه .

كادت الحرب تقع بين تركيا واليونان في 21 يوليو الحالي، لولا جهود (وضغوط) اللحظات الأخيرة التي بذلتها المستشارة أنجيلا ميركل والجنرالات الأميركيين. وفي نفس الوقت يسود التوتر على الجبهة الليبية مع مخاطر اندلاع نزاع مصري – تركي. وفي الحالتين، تجد أوروبا نفسها منغمسة أو معنية بصراعات النفوذ والطاقة في البحر الأبيض المتوسط.

يتصاعد التوتر الأوروبي – التركي على أكثر من محور وستكون لرهانات الأطراف الأوروبية وتركيا انعكاساتها على تشكيل المشهد الاستراتيجي الجديد في المتوسط.

منذ اندلاع الموجة الأولى من الهزات أو التحولات العربية في العام 2011، شهدنا تغييرات كبيرة من حيث نوعية اللاعبين وموازين القوى إذ لم يعد المتوسط “بحيرة أميركية” أو “حديقة خلفية للنفوذ الأوروبي”. على أرض الواقع، من شرق البحر الأبيض المتوسط على الساحل السوري وقبالة قبرص واليونان إلى سواحل ليبيا غربي الأزرق الكبير “البحر الأكثر إنسانية في العالم”، احتدمت الصراعات في سياق التخبط الاستراتيجي للعبة الدولية مع بروز قوى جديدة في المعادلة: تركيا وروسيا، ويتم ذلك على حساب القوى الأوروبية الفاعلة تاريخيا في حوض المتوسط.

في زمن الكسوف الأوروبي على مسرح العلاقات الدولية، تسعى فرنسا بقوة إلى استمرار الحضور الأوروبي الفاعل في المتوسط لأنه يشكل مع غرب آسيا وشمال أفريقيا امتدادا للأمن الاستراتيجي والاقتصادي الأوروبي.

ولذا اعتبر إيمانويل ماكرون أن “أوروبا ترتكب خطأ جسيما في حال ترك أمن شرق المتوسط في يد أطراف أخرى خصوصا تركيا”. وفي نفس السياق تطالب باريس بمعاقبة “منتهكي المجال البحري في شرق المتوسط” وبفرض عقوبات أوروبية على تركيا المتورطة في هذا الانتهاك وفي التدخل الواسع في الشأن الليبي. لكن بالرغم من خلافات تهز حلف شمال الأطلسي وتهدد بمواجهة أطلسية – أطلسية أو أوروبية – أوروبية، لا توجد سياسة أوروبية موحدة أو شبه إجماع حول ليبيا وصراعات شرق المتوسط، وممّا لا شك فيه أن الموقف الأميركي الملتبس والحذر إزاء الدور التركي، يرخيان بظلالهما على عدم تكوين برلين وروما وباريس ولندن مواقف موحدة ومتناسقة.

بيد أن هذه التعقيدات لا تغير القناعات الاستراتيجية عند باريس لمواجهة التوتر مع تركيا خصوصا، لجهة التركيز على إحياء البعد المتوسطي في السياسة الخارجية والدفاعية للاتحاد الأوروبي، مع ما يفرضه ذلك من اهتمام أوروبا بالملفات الجيوسياسية المتوسطية بشكل فاعل لانعكاس ذلك على مصيرها، وحتى لا تتركها لـ”قوى أخرى منافسة” ستكون منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​حبلى بالتحديات الاستراتيجية في السنوات المقبلة حيث إن هناك العديد من العوامل التي تتجمع لتفجير الأزمات فيها: التنافس على تحديد المناطق البحرية والتنقيب فيها، والتوترات بين الدول المجاورة، والملف الليبي، وملفا الهجرة واللجوء، والحصول على الموارد والطاقة. ومن نافلة القول إن تعاظم دور روسيا والقوى الإقليمية المعنية (تركيا ومصر وإسرائيل وكذلك المملكة العربية السعودية وإيران) في “لعبة القوى الجديدة” بالمتوسط وحوله، يمكن أن يدفع أوروبا إلى عدم التسليم بتقرير مستقبل البحر الأبيض المتوسط من دون إسهام أوروبي فاعل.

ومن هنا يأتي تبشير ماكرون بوجوب بلورة “سياسة متوسطية” خاصة بالاتحاد الأوروبي. لكن دون ذلك عقبات ومكائد.

اهتز المشهد المتوسطي في الأشهر الأخيرة على خلفية الملف الليبي، وتدهورت الصلات بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة بسبب النشاطات البحرية التركية ومساعي التنقيب التركي عن الغاز في مناطق متنازع عليها خاصة بعد الاكتشافات الكبرى للغاز منذ 2013 وإنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط” وخط أنابيب ضخم بين اليونان وقبرص وإسرائيل لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا.

وفي تبرير لتصرفاتها وعدم احترامها القانون الدولي للبحار، تذرعت تركيا (التي تفتقد موارد طاقة خاصة بها، لكنها من المصبات المهمة للنفط والغاز) بأن إقصاءها من منظومات التعاون الإقليمي في الطاقة كان متعمّدا. وفي ردّ على ما اعتبره أردوغان فخا قام بالاستناد إلى نظرية “الوطن الأزرق” لتبرير خطط توسعه في المتوسط معتمدا على شمال قبرص وحكومة السراج من أجل تغليف ذلك بشكل قانوني.

وفي هذا الإطار تصرّ أنقرة على استمرار التنقيب في “جرفها القاري” ووفق اتفاقياتها مع قبرص التركية وحكومة الوفاق الليبية غير آبهة بعقوبات أوروبية رمزية أو بتهديد أوروبي بعقوبات أقوى.

وفي هذا الصدد أعلن تكتل النواب المحافظين في البرلمان الأوروبي عن أن “الوقت حان للنظر في فرض عقوبات فعلية على تركيا بسبب إجراءاتها شرق المتوسط وليبيا وتبعا لقرارها بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد”.

لكن الانقسام الأوروبي حول مصالح وأولويات الدول الأوروبية، يعرقل الاتجاه إلى سياسة أوروبية متناغمة ومتماسكة حيال تركيا وبالطبع هناك رغبة في عدم القطيعة مع أنقرة لتشابك العلاقات بينها وبين القارة القديمة وحتى لا ترنو صوب موسكو أو أن تنفذ رغبات واشنطن. وممّا لا شكّ فيه أن الملف الليبي هو الاختبار الأساسي للتوتر الأوروبي – التركي.

في ردّ على المساعي الفرنسية للحدّ من الدور التركي في ليبيا، قالت وزارة الخارجية التركية إن “فرنسا تفقد حياديتها وفرصتها في المساهمة بالاستقرار عبر كل خطوة خاطئة تتخذها في شرق المتوسط”.

ومن الواضح أن أردوغان مغتاظ من الرهان المتوسطي لماكرون ومن التنسيق الاستراتيجي الفرنسي – المصري.

ومع استكمال الاستعدادات المصرية وكلام أنقرة عن “خطة عسكرية ودبلوماسية للتعامل مع احتمال إرسال مصر لجنود إلى ليبيا تستمرّ الضغوط الأميركية والمحاولات الروسية لمنع اندلاع نزاع إقليمي واسع.

وهناك أفكار مثل تحييد « سرت » وجعلها عاصمة مؤقتة، أو إقامة سيطرة دولية على منطقة الهلال النفطي من دون مشاركة تركية أو مصرية. لكن معلومات متطابقة من عدّة مصادر تستبعد الحلّ الدبلوماسي وتخشى المراوحة في المكان بانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية أو التحريك العسكري المفاجئ.

ولذا تركز القاهرة جهودها باتجاه برلين وروما من أجل تصويب موقفها من الجيش الوطني الليبي، في المقابل تخشى فرنسا من أستانة جديدة روسية – تركية، وتعطي أولوية للتنسيق مع مصر، والتواصل مع تونس والجزائر من أجل عدم تحول ليبيا إلى مسرح صراع دولي – إقليمي.

ومن الملاحظ أن واشنطن لا تبدو ميالة للحسم أو الحل السياسي، بل للحفاظ على الأمر الواقع من أجل ضمان احتواء الدور الروسي.

وجعل الأدوار الأوروبية مقيدة بالسقف الأميركي. وهذا ما يمنح أنقرة هامشا من المناورة في تجاذباتها مع الاتحاد الأوروبي.

هكذا يحوم التاريخ على الصلات المتباينة والتقليدية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وتدلل التطورات الأخيرة على أن التجاذبات والتناقضات ستطغى على ما عداها بسبب سياسات “السلطان الجديد” رجب طيب أردوغان وبسبب معادلة القوى الجديدة في المتوسط وعدم صلابة ووحدة الموقف الأوروبي.

____________

مواد ذات علاقة