بقلم روبرتوورث (ترجمة سارة قريرة)

قد لا يحظى محمد بن زايد بنفس الشهرة التي يحظى بها نظيره السعودي محمد بن سلمان، لكن ولي عهد الإمارات فرض نفسه كأقوى شخصية سياسية في الشرق الأوسط، هدفها فرض رؤية مستبدة لمستقبل بلاده والمنطقة.

الجزء الثاني

منعطف 11 سبتمبر/أيلول

غيرت أحداث 11 سبتمبر/أيلول حياة بن زايد، حيث أظهرت حجم الخطر الإسلامي ومدى إنكار العالم العربي له. وأخبرني بن زايد كيف استمع باندهاش في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من تلك السنة إلى حاكم عربي كان في زيارة لأبيه في أبو ظبي، وهو يصف تلك الهجمة بكونها عملا من الداخل ساهمت فيه وكالة المخابرات المركزية أو الموساد. بعد رحيل الزائر، سأل زايد ابنه عن رأيه في الموضوع فأجاب: “أبي، لدينا أدلّة”.

وفي خريف تلك السنة، اعتقلت قوات الأمن الإمارتية حوالي 200 إمارتي و1600 أجنبي كانوا ينوون السفر لأفغانستان للالتحاق بتنظيم القاعدة، من بينهم ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا سينفذون عمليات انتحارية.

بعيد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، قام بن زايد بمراجعة جميع نقاط ضعف بلده أمام الخطر الإرهابي. تقول مرسيلا وهبا، التي عينت كسفيرة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية في الإمارات تلك السنة: “أظن أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول جعلته يعيد النظر في الوضع الداخلي للبلاد لتقييم أهم المجالات، من التعليم حتى الاقتصاد. وقد عبرت السلطات الإمارتية تلك المرحلة بطريقة جد منهجية”.

كوّن بن زايد فريقا يعد إخوته وأهم مستشاريه، وعملوا جاهدا -وفق وهبا- لسدّ جميع الثغرات. فقاموا بتسجيل جميع دكاكين الحوّالات [حيث يتم تحويل المال من بلد لآخر] التي يستعملها عادة الإرهابيون، ووضعوا أجهزة اتصال راديو قصيرة المدى على جميع سفن الداو التي كانت تجوب بحر الخليج، وشرعوا في البحث على أفضل طرق لمراقبة الشبكات الإماراتية للتجارة والتمويل المترامية الأطراف.

كان الهدف من كل هذا القبض على الإرهابيين الذين يعبرون من الإمارات، لكن الخطر الإرهابي في الداخل كان حقيقيا كذلك. ففي السنوات الموالية، نجحت السلطات الإمارتية في إفشال عدد من العمليات الإرهابية التي كانت تخطط لها مجموعات جهادية، لا سيما عملية تفجير ثلاث سيارات أمام نزل بخمسة نجوم سنة 2005.

في نفس الوقت، شن بن زايد حربا على الفكر الإسلامي. كان العديد من الإسلاميين في الإمارات ينتمون إلى جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي، التي أسست في السبعينات وكانت بمثابة الفرع المحلي لمنظمة الإخوان المسلمين. وكان من بينهم آلاف الأجانب، أغلبهم مصريون، استقبلهم البلد قبل عقود لسد احتياجاته ليد عاملة مثقفة وموظفي مكاتب. في بادئ الأمر، رحّبت العائلات الحاكمة ببروز حركة الإصلاح واعتبروها مجرد مجموعة دينية. لكن في التسعينات، جعل الإسلاميون من وزارتي التعليم والعدل “دولة داخل الدولة”، وفق العبارة التي استعملها الصحفي الإماراتي سلطان القاسمي، من خلال منهجهم في توزيع المنح الدراسية ودفعهم بالقضاة في اتجاه أكثر تدينا.

رؤية دينية متسامحة

أذن بن زايد بتسريح مدرسين إسلاميين وإعادة كتابة شاملة للمناهج الدراسية. وقد روى لي أغلب الإماراتيين الذين أعرفهم حكايات صادمة عن معلمين في الصفوف الإعدادية كانوا يمجدون الجهاد المسلح ويصفون لهم فساد الكفار.

أما المناهج التي كانت من تحرير الإخوان، فقد كانت تتسم بالتعصب، حتى في مجالات مثل التاريخ والرياضيات، كأن يكتبوا مثلا: “لو فرضنا أنك قتلت ثلاثة يهود وأبقيت على اثنين، ما هو المجموع؟”

تقدم اليوم المعاهد الإمارتية دروسا في مادة الأخلاق مستقلة عن الدراسات الدينية، وهو أمر لم يكن لأحد أن يتخيله في ماض قريب. وقد فعل بن زايد الكثير ليحصر الدين في الدوائر الخاصة، كما أعطى منبرا لرجال دين محترمين ومعتدلين، من بينهم متصوفون مهمون مثل علي الجفري وعارف علي نايف وحمزة يوسف وعبد الله بن بيّه -وهو موريتاني المولد وأحد أكبر علماء السنّة المعاصرين ويترأس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي. كما اعتزمت الإمارات تصدير نموذجها الإسلامي الخاص من خلال برامج تدريب للأئمة في الخارج، ومن بينهم آلاف الأفغان.

كان أغلب عناصر حركة الإصلاح يعيشون في شمال الإمارات، وخاصة في رأس الخيمة التي تقع على مسافة أقل من ساعة بالسيارة، شمال دبي. تختلف رأس الخيمة عن مدن الجنوب الأكثر ثراء، إذ لا تعد ذلك الكم من ناطحات السحاب والمراكز التجارية، كما أنها غير عصرية.

وكانت حركة إصلاح تعبّر نوعا ما من خلال اختيارها هذا المكان مركزا لها عن استنكارها للثقافة الرأسمالية الجامحة التي كانت تزدهر في المدن الإماراتية الكبرى. وكانت في كثير من بياناتها العامة تندد بوجود حانات ومومسات متاحة للجالية الأجنبية المتفاقمة. لكن في المدة الأخيرة، شرع الناطقون باسم الحركة في الترويج لثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانوا يفعلون ذلك بلا شك لجلب التعاطف الغربي مع قضيتهم.

رأى المستشرقون والديبلوماسيون في الغرب بقبول هذا النوع من الإسلاميين، وكانوا على يقين أن أفكارهم ستصبح أكثر اعتدالا بمجرد اندماجهم في الحياة السياسية. وكثيرا ما يقدم الحزب الإسلامي التونسي النهضة كمثال لما يمكن أن يحدث عندما يحظى الإسلاميون بفرصة لأخذ منعطف تقدمي. فحركة النهضة فرع من تنظيم الإخوان المسلمين، لكنها حكمت مع حزب مدني، وقد قلّل قادتها من بُعدها الإسلامي ليجعلوا منها حزبا أشبه بالنسخة العربية للمسيحيين الديمقراطيين في أوروبا.

استبداد ليبيرالي مجتمعيا

دخل بن زايد فعلا في نقاش مع إسلاميي الإمارات، وهو يؤكّد بأن التجربة برهنت استحالة منحهم أي ثقة. فبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، التقى بن زايد بعناصر من حركة إصلاح وحثهم على العودة إلى بيت الطاعة. وقد اقترح عليهم صفقة أول الأمر، مفادها أن بوسعهم مواصلة أعمالهم الخيرية، شرط البقاء بعيدا عن السياسة، فأجابوه بلائحة من المطالب.

وقد انتهى المطاف إلى طريق مسدود بعد اجتماع سنة 2003 بدا فيه موقف بن زايد أكثر تشددا. حتى أنه -كما جاء في تسريب من ويكيليكس- صرّح أمام فريق أمريكي جاء في زيارة سنة 2004: “نحن في حرب ثقافية مع الإخوان المسلمين في هذا البلد”. كما أنه أخبر مجموعة من الديبلوماسيين الذين جاؤوا في زيارة للإمارات سنة 2009 أن الفكر الإسلامي استهوى أحد أبنائه، فتوخى طريقة الرد ذاتها التي استعملها زايد معه، إذ أرسل نجله إلى أثيوبيا مع بعثة الصليب الأحمر، حتى يرى أن لغير المسلمين أيضا قيم أخلاقية.

لم يكتف بن زايد بقمع الإخوان، بل كان يعمل على مشروع أكثر طموحا وهو بناء دولة ستهين الحركات الإسلامية جمعاء، من خلال نجاحها حيث أخفقت تلك الحركات. لن يبني بن زايد ديمقراطية غير ليبيرالية (بالمعنى المجتمعي للكلمة) كما في تركيا، بل قرر إرساء عكس ذلك، أي حكما مفردا مطلقا (أو أوتوقراطية) ذا بعد مجتمعي ليبيرالي، على نموذج ما فعله لين كوان يو في سنغافورة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

كانت نقطة الانطلاق إصلاح الوظيفة العمومية في أبو ظبي، والتي كانت تشكو من نفس المعضلات التي تشهدها الدول العربية الأخرى، من عدم النجاعة ودور شبكة العلاقات الشخصية والعائلية في الحصول على المناصب المنشودة. ويعود هذا البعد إلى جزء من الموروث الناصري في الخمسينات والذي تم نسخه في بلدان أخرى.

جمع بن زايد مجموعة من الشباب الموهوبين وأذن لهم بقلب البيروقراطية رأسا على عقب. وفي السنوات الموالية، قام هؤلاء بإعادة هيكلة الوظيفة العمومية، حيث طُرد عشرات آلاف الموظفين وتم توظيف آخرين. وقد تراجع عدد العاملين في حكومة أبو ظبي بين 2005 و2008 من 000 64 إلى 7000 شخص.

وفي الأثناء، شرع بن زايد في استغلال احتياطات رأس المال الهائلة لإمارة أبو ظبي لبناء اقتصاد لا يعتمد على النفط. وقد نجح بفضل صندوق ثروة سيادية جديد يدعى “مبادلة” في جلب شركات مصنعة وخلق مواطن شغل ساهمت في تدريب السكان المحليين. وصقل بن زايد صورته التقدمية من خلال توظيف نساء في مكتبه، ناهيك عن أن 86% من العاملين في مركز الطيران والفضاء في العين هم عاملات.

في زياراتي الأولى للإمارات العربية المتحدة سنة 2007، سمعت الكثير يشتكون من التداعيات الاجتماعية للتغيير المفاجئ الذي شهدته البلاد من الفقر إلى ثروة هائلة، فكانوا يتحدثون عن فتور السكان وانهيارات عصبية ومشاكل عزلة واضطرابات شتى. في إحدى زياراتي الأخيرة، سمعت على الأقل عشر قصص عن شباب خامل عادوا من مخيمات التدريب نشيطين ومستعدين لتحمل المسؤولية والقيام بالمهام اليومية بأنفسهم. كما أن هذا البرنامج شجع على اختلاط أشخاص من مختلف الإمارات والطبقات الاجتماعية، وهو أمر كان يحدث نادرا في الماضي.

تداعيات حرب اليمن

دمرت الحرب اليمن، لكن أثرها لم يكن هينا أيضا على الإمارات، إذ قتل أكثر من 100 إمارتي في المعارك. وقد يبدو هذا العدد ضئيلا جدا مقارنة بالكم الهائل من القتلى اليمنيين، لكنه من ناحية الخسائر البشرية يجعل هذه الحرب الأغلى ثمنا في تاريخ الإمارات.

لكن في نفس الوقت، يُرجّح أن وجود أبناء أو أقارب بن زايد وأغلب أمراء الإمارات الست الأخرى في الجبهة -وإصابة بعضهم بجروح بليغة- ساعد السكان في تقبل هذه الحرب. وقد التقيت سريعا زايد بن حمدان -ابن أخ محمد بن زايد وصهره- وهو اليوم يجلس في كرسي متحرك بعد أن أصيب في عموده الفقري بعد سقوط المروحية التي كان على متنها في اليمن سنة 2007.

في 2009، اتخذ بن زايد قرارا سيعزز من قدرته على ممارسة نفوذه خارج حدود بلده، إذ استضاف اللواء مايكل هندمارش -الزعيم المتقاعد لقيادة العمليات الخاصة في أستراليا- ليساعده على إعادة هيكلة الجيش الإماراتي. وكان بن زايد قبل ذلك قد طلب من هندمارش أن يساعده على إيجاد ضابط إماراتي لهذه المهمة، لكن يبدو في الأخير أن هندمارش قد راقه فاختاره لهذا الدور.

لن يقبل أي بلد آخر من الشرق الأوسط بتسمية شخص غير عربي مسؤولا على جوهرة المملكة. لكن مع حلول سنة 2009، أصبح بن زايد يمسك بالدولة بقبضة محكمة. كما أن الإمارات الست الأخرى تضررت من الأزمة المالية -خاصة دبي- وفقدت من استقلاليتها عن أبو ظبي التي تظل أكبر وأغنى إمارة في الاتحاد. وقد منح بن زايد هندمارش -الذي لقّب الأمير بـ“الزعيم”- دعمه التام وكل المال الذي يحتاجه، الأمر الذي أثلج صدر هندمارش بعد سنين من العقبات البيروقراطية في الجيش الأسترالي. ولم تثر الإمارات ضجة كبيرة حول دور هندمارش، مراعاة للحساسيات العربية، لكنه حافظ على مركزه وكان دوره أساسيا في جعل القوات الخاصة الإماراتية اليوم من بين الأفضل في العالم.

امتعض بن زايد كثيرا من حديث إدارة بوش عن الترويج للديمقراطية وتداعياتها، لا سيما من فكرة إنشاء أحزاب طائفية في العراق والفوز الانتخابي لحماس في غزة. وفي 2009، شعر بن زايد كذلك بأجندة ترويج للحرية في خطاب أوباما البارز في القاهرة، لا سيما عندما تحدث الرئيس الأمريكي السابق عن “بداية جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمسلمين حول العالم”. وقد أخبر ديبلوماسيا أمريكيا أنه يخشى أن يكون هذا الخطاب “رفع من مستوى التوقعات في العالم العربي”.

المساهمة في الانقلاب المصري

ثم كان الربيع العربي. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد ساندت الرئيس المصري حسني مبارك -وحكاما مستبدين من طينته- طيلة عقود، وعاملت الإخوان المسلمين كمتعصبين خطرين. رغم ذلك، قبلت إدارة أوباما بانتخاب الرئيس الإسلامي محمد مرسي في 2012 -على عكس بن زايد. وفي بداية سنة 2013، دعمت الإمارات حركة “تمرّد” الشعبية المتفاقمة ضد مرسي.

وقد تلت ذلك مظاهرات واسعة في 30 يونيو/ حزيران، تلاها الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز الذي خول لعبد الفتاح السيسي الوصول إلى السلطة. ووعدت الإمارات العربية المتحدة وحلفاؤها من بلدان الخليج بدفع المليارات لدعم الحكومة الجديدة.

لم يتحدث المسؤولون الإماراتيون عن دورهم فيما حصل، لكن الديبلوماسيين الذين تحدثت إليهم متأكدون من أن الإمارات كانت قد تحدثت إلى السيسي قبل الانقلاب وبينت شروط دعمها له. وقال ديبلوماسي سابق إن “أسبابا عدة تدل على أنه [أي بن زايد] خطط للانقلاب. وهو إنجاز كبير بالنسبة لبلد صغير من منطقة الخليج أن يطيح بحاكم مصري لوضع الرجل الذي يريد”.

قد يكون بن زايد قد منع مصر من أن تصبح جمهورية إسلامية -أو هكذا يرى الأمر. لكن قساوة السيسي كانت واضحة منذ البداية (ويمكننا الجزم أن هذا الأمر لا يزعج كثيرا بن زايد، إن لم نقل بتاتا).

في منتصف شهر أغسطس-آب 2013، قتل الجيش المصري قرابة ألف شخص خلال اعتصامين مساندين للإخوان في القاهرة بحسب تقارير هيومن رايتس ووتش. وكانت الحكومة في نفس الوقت تقمع معارضين مدنيين، علاوة على كون السيسي أكثر استبداد من مبارك. تسبب هذا الانقلاب في بروز توترات بين دولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تراوح بصعوبة بين معارضة السيسي لكونه رئيسا غير ديمقراطي وبين التعامل معه (لم يعبّر ترامب عن هذا التحفظ فيما بعد، إذ كان يمازح السيسي بتلقيبه بـ“ديكتاتوره المفضّل”).

البقية في الجزء الثالث

نشرت مجلة نيويورك تايمز هذا المقال في نسخته الأصلية تحت عنوان «Mohammed bin Zayed’s Dark Vision of the Middle East’s Future»، بتاريخ 9 يناير/كانون الثاني 2020. .

***

روبرت وورث كاتب وصحفي في مجلة نيويورك تايمز، نشر سنة 2011 كتابا عن ثورات الربيع العربي “غضب من أجل النظام” والذي فاز بجائزة لاينل غلبر.

____________

أورينت 21

مواد ذات علاقة