بقلم صلاح الدين الجورشي

عادت ليبيا من جديد للبحث عن معالجة سياسية سلمية عن أزمتها التي طالت وأوقعتها في خطرين من الحجم الكبير: الاقتتال الأهلي من جهة، والتدخل الخارجي من جهة أخرى.

فالبيان الذي صدر عن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ومجلس النواب في ليبيا؛ عن وقف العمليات العسكرية لقي ترحيبا واسعا من قبل المجتمع الدولي، وزكته دول عديدة من بينها تونس ومصر.

يعتبر الإعلان خطوة جديدة ونوعية نحو تحقيق سلام دائم في هذه البلاد التي لم تعرف الهدوء منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، إذ سرعان ما دب الخلاف بين الليبيين رغم الانتخابات التي تمت، وأدت إلى إنشاء برلمان ومجلس رئاسة وحكومة.

لم ينجح الليبيون في السيطرة على فوضى السلاح، حيث تشكلت عشرات المجموعات المسلحة في غياب جيش وطني موحد ومهيكل لحماية البلاد والمساعدة على بناء دولة جديدة.

وهو الأمر الذي استغله اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي سارع بتكوين قوة عسكرية، وقرر بمقتضاها أن يخوض حربا بهدف توحيد البلاد والتخلص من خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم الاسلاميون بمختلف عناوينهم ولافتاتهم، مستعينا في ذلك بأطراف إقليمية ودولية كارهة للإخوان المسلمين إلى جانب تحقيق مآرب أخرى.

لكن الهجوم الذي قام به حفتر على العاصمة طرابلس، والذي كاد أن يحقق أهدافه، فتح الباب أمام سيناريو مفاجئ لم يكن أحد يتوقعه.

غيّر التدخل التركي العسكري السريع الخارطة الميدانية، وأعاد الوضع تقريبا إلى ما كان عليه قبل الهجوم على طرابلس. وبقطع النظر عن الاتفاق الاستراتيجي الذي وقعه السراج مع أردوغان والذي وفر للأتراك مجالا حيويا في قلب البحر الأبيض المتوسط، فإنه لا أحد ينكر أن التدخل التركي غيّر مجرى الأحداث داخل ليبيا، ودفع بالجميع نحو مراجعة حساباتهم والقبول بالواقع الجديد.

استفادت أنقرة كثيرا من التدخل العسكري الروسي في ليبيا، فمن جهة استعملته كورقة للضغط على حفتر وحلفائه مما جعله يدرك بأن مغامرته العسكرية فشلت وفقدت جاذبيتها، بعد ان أدت إلى فشل ذريع ميدانيا، كما أن توغل روسيا داخل التراب الليبي أرعب الولايات المتحدة الأمريكية ودول الحلف الأطلسي؛ التي رأت في هذا التوغل تهديدا مباشرا لقلب أوروبا.

هذا ما يفسر الدعم الأمريكي الذي تلقاه أردوغان من الرئيس ترامب ومن عواصم أوروبية عديدة، عندما دخل بقوة إلى الساحة الليبية، وهو ما جعل فرنسا تقف عاجزة أمام أنقرة رغم مساندتها القوية لحفتر وحلفائه، وهي تحاول الآن ملاحقة الأحداث وتسعى لكي يكون لها دور في التسوية القادمة. فلولا المساندة الأمريكية القوية لأردوغان لما جازف هذا الأخير بإرسال جزء من قواته إلى ليبيا.

كان من المتوقع أن يتوقف الهجوم المعاكس عند مدينة سرت، ولو حصل العكس وتقدمت قوات حكومة الوفاق المدعومة تركيا لغرقت البلاد في حمام دم، ولاستعاد حفتر رمزيته، ولقي دعما واسعا من أطراف وجهات عديدة. لهذا استبدلت الحرب بأسلوب آخر، بعيدا عن منطق السلاح.

ما يجب العمل من أجله الآن هو الإسراع في الانتقال إلى تسوية سياسية دائمة، ولا يكون ذلك إلا من خلال الرجوع إلى الشعب الليبي عبر تنظيم انتخابات حقيقية ومستقلة وشفافة.
يجب أن يقول الليبيون كلمتهم، وعلى نخبهم تجاوز الحسابات الضيقة وتجنب الاحتماء بالخارج، والتخلص من وهم السلاح والاعتقاد في قدرته على إنهاك الخصم وإلغائه.

منطق العنف مدان، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف وتعميم الفوضى، ومضاعفة الخسائر في الأرواح والعتاد.

في هذا المنعرج الحاسم على التونسيين بمختلف مواقعهم أن يتجندوا لالتقاط هذه الفرصة، وأن يتوقفوا عن التناحر فيما بينهم لدعم هذا الطرف على حساب الطرف المقابل انطلاقا من رهانات أيديولوجية تجاوزها الزمن.

الجدل الآن حول مدى صحة الموقف التركي من عدمه مضيعة للوقت، وإهدار للفرصة المتاحة الآن لتغيير مجرى الأحداث داخل ليبيا.

المطلوب اليوم هو إدامة وقف اطلاق النار، وتحويله إلى سلام دائم يحمي ليبيا والليبيين من الاقتتال وضياع البلد وتبديد الثروة الوطنية.

تونس رابحة من السلام في ليبيا وخاسرة من مواصلة الحرب والاحتراب. فما آلت إليه الأوضاع هناك ساهم بشكل واضح وملموس في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تطحن تونس حاليا.

كانت ليبيا في حالة السلم وخلال المراحل السابقة بمثابة الرئة الثالثة للدورة الاقتصادية التونسية، وعندما توقفت هذه الرئة أصيبت تونس بالاختناق وفقدان المناعة.

فالطبقة السياسية بمختلف مكوناتها، وفي المقدمة المؤسسات العليا للدولة في تونس مطالبة بأن تتحرك بأقصى درجات السرعة من أجل توحيد الصف الليبي حول التسوية السياسية، والعودة إلى الآليات الديمقراطية والتوافقات الاجتماعية.

عندها يتم إنقاذ ليبيا من جهة، وإسعاف الانتقال الديمقراطي في تونس من مخاطر يصعب أن تواجهها لوحدها، من جهة أخرى.

********

السراج.. مبادرة تفاجئ الجميع.. هل تكلل بالنجاح؟

بقلم السنوسي بسيكري

فاجأ رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، أنصاره قبل خصومه ببيانه الذي يعلن فيه الوقف الفوري لكل العمليات القتالية في كافة ربوع ليبيا، غير أن أثر المفاجأة تلاشى تدريجيا بعد رد رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، ببيان يكاد يكون متطابقا مع بيان السراج، والفروقات ربما تكون شكلية لذر الرماد في عيون أنصار حفتر.

مضامين المبادرة

بيان السراج، الذي بدا وكأنه صِيغ على عجل واشتمل على نقاط جدلية ومبهمة، تضمن أربع نقاط جوهرية هي:

ـ وقف القتال واعتبار سرت والجفرة مناطق منزوعة السلاح تأمنها الشرطة من الجانبين.

ـ تحويل عوائد بيع النفط إلى حساب جديد في المصرف الليبي الخارجي وعدم المساس بها إلى أن يتم التوافق السياسي.

ـ اعتبار المؤسسة الوطنية للنفط هي المسؤول عن إدارة النفط وتأمين الحقول والموانئ.

ـ اعتبار مقررات برلين هي قاعدة التسوية السياسية والاتفاق بين الطرفين المتنازعين.

وبالرجوع إلى بيان عقيلة صالح فإنه لم يخالف ما عرضه السراج وأضاف إعلان القاهرة إلى مقررات برلين، داعيا اتخاذ سرت مقرا للمجلس الرئاسي.

مبادرة تتبع خطى المقاربة الأمريكية

من اليسير جدا اكتشاف أن مضمون مبادرة فايز السراج وعقيلة صالح أمريكي، وبالرجوع إلى بيانات السفارة الأمريكية وتصريحات السفير الأمريكي خلال الأسبوعين الماضيين يتبين أن المقترح الأمريكي قائم على اعتبار سرت والجفرة مناطق منزوعة السلاح، وأنه من الضروري استئناف ضخ النفط ووضع ترتيبات مالية تضمن الشفافية وعدالة توزيع الايرادات العامة.

ردود فعل تثير الانتباه

أعلنت جميع الدول المعنية بالشأن الليبي، خاصة الداعمة لطرفي النزاع، موافقتها على المبادرة، وهي سابقة لم تقع منذ اندلاع الصراع في ليبيا عقب ثورة فبراير 2011م، ويمكن تفسير ذلك إلى اصرار واشنطن على إنجاح مقاربتها، ذلك أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية تخضع للنفوذ الأمريكي أو تحرص على أن لا تصادمه، والاستثناء هي روسيا التي جاء ترحيبها عبر دبلوماسي وليس ببيان من الحكومة.

المبادرة تدفع حفتر خطوة للخلف

موافقة الأطراف الخارجية الداعمة لحفتر، خاصة الاقليمية منها، على المبادرة يشير إلى دفع حفتر إلى الخلف، ذلك أن مشروع حفتر كان ولا يزال عسكريا، وارتمى في حضن الروس في تحدي مباشر للأمريكان، فكان أن ضغطت واشنطن، وضغطها يعني معاقبة حفتر ونزع القيادة السياسية منه بعد أن كان الأبرز في المشهد والمفاوض المباشر للسراج في كل اللقاءات التي سبقت حربه على طرابلس، ولا يعني هذا إخراج حفتر من المشهد، والقصد ضبط نفوذه وليس إنهاء وجوده.

هل ستنجح المبادرة ويحقق الأمريكان التوافق؟

المبادرة تواجه تحديات داخلية وخارجية، فالسراج فاجئ أنصاره وكان الأولى به أن يطرح مضامين بيانه على الجبهة العريضة التي صمدت أمام العدوان على طرابلس لأكثر من عام ودحرته.

بالمقابل، يبدو أن عقيلة صالح اختار أن يمضي بعيدا عن نفوذ ورغبة حفتر وهذا له تبعاته خاصة إذا وجد حفتر من يسانده من الداخل والخارج لتعكير صفو الخطة الأمريكية.

خارجيا، فإن غاية واشنطن من الخطة عزل روسيا ودفعها للخروج من المشهد الليبي وإنهاء وجودها في منطقة تشكل تهديدا لواشنطن عبر قواعدها في أوروبا وتحديا للناتو الذي لا يزال يؤسس عقيدته على العداء لروسيا.

والسيناريو الأرجح أن تقبل موسكو فعليا بالمبادرة ذلك أنها في حال مصادمتها ستواجه ليس فقط الاتراك، بل الناتو ممثلا للولايات المتحدة وأوروبا، وساعتها لن تجد دعما من مصر أو الإمارات أو السعودية التي أعطت موثقا لواشنطن أن تلتزم بالخطة الأمريكية، ووفقا لهذا السيناريو فإن موسكو تحصلت على مكاسب لم يعلن عنها بعد ضمن المخفي من الخطة الأمريكية، دون استبعاد سيناريو الضغط الروسي والمناورة التي قد تعني مواجهات هنا وهناك.

الأهم من ذلك هو توفير ضمانات منع اندلاع مواجهات ذلك أن التوتر هو سيد الموقف بين الطرفين، وأن تبديل الوضع إلى وئام وسلام يتطلب عملا سياسيا مضنيا قد يتعثر وقد يتأخر وذلك لأن الملفات محل الخلاف كبيرة والآراء حول معالجتها متباينة جدا.

______________

مواد ذات علاقة