بقلم أنس القماطي و بين فيشمان

في 21 آب/أغسطس، أصدر الزعيمان السياسيان للفصيلين الرئيسيين في الحرب الأهلية الليبية – رئيس “حكومة الوفاق الوطني” فايز السراج ورئيس “مجلس النواب” في شرق ليبيا عقيلة صالح – بيانين منفصلين أعلنا فيهما وقف إطلاق النار وتجميد المواقع العسكرية المحيطة بسرت والجفرة. وجاءت هذه الخطوة بعد جهود دبلوماسية مكثفة قامت بها ألمانيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة.

وسيتطلب الكثير من شروط الاتفاق مزيداً من المفاوضات، لكنها تستلزم حتى الآن إقامة منطقة منزوعة السلاح في وسط ليبيا ورفع الحصار النفطي الذي كلّف البلاد 8 مليارات دولار حتى الوقت الحاضر. كما دعا صالح إلى إعادة تشكيل “المجلس الرئاسي” ونقله من طرابلس إلى سرت، بينما دعا السراج إلى إجراء انتخابات وطنية في آذار المقبل.

ونتجت الإعلانات عن حالة االجمود التي سادت البلاد بعد أن قامت القوات المتحالفة مع “حكومة الوفاق الوطني” بالتقدم حتى أطراف مدينة سرت في حزيران/يونيو، ومنذ ذلك الحين، صعّدت مصر وتركيا تهديداتهما بالقيام بعمل عسكري مباشر، مما دفع الغرب إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية لتجنب حربٍ إقليمية.

والخطوة التي تكتسب أهمية خاصة في هذا السياق هي حلول عقيلة صالح محل قائد المنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر في المفاوضات. فالأطراف الداعمة لحفتر في كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة ومصر فقدت ثقتها به بعد فشل هجومه ضد طرابلس الذي دام أربعة عشر شهراً في أيار/مايو الماضي. إلا أن المتحدث باسم حفتر فيما يُسمّى بـ “الجيش الوطني الليبي” ردّ على الاتفاق الجديد لوقف إطلاق النار برفض بيان السراج، وتعهّد بالبقاء في سرت، وتجاهل تماماً البيان الذي أصدره صالح بموازاة بيان رئيس الوزراء، وإشارته إلى انقسامات عميقة في شرق ليبيا وإثارته تساؤلات حول من يملك السلطة على القوات المقاتلة التابعة لـ “الجيش الوطني الليبي”. ولم يكن صالح محاوراً دبلوماسياً موثوقاً به في الماضي ولا يزال يخضع لعقوبات أمريكية لعرقلته “الاتفاق السياسي الليبي” لعام 2015. وهكذا، بينما يتم تهميش حفتر على الساحة السياسية في الوقت الحالي، إلّا أنه لا يزال بإمكانه أو غيره من قادة المنطقة الشرقية تقويض وقف إطلاق النار.

ما الذي سيترتب على نزع السلاح؟

يبدو مفهوم نزع السلاح من وسط ليبيا أكثر سهولة مما سيكون عليه على أرض الواقع. ولا يزال يتعين التفاوض على العديد من التفاصيل من قبل “اللجنة العسكرية المشتركة 5+5” التي انبثقت عن مؤتمر برلين في كانون الثاني/يناير وتضم خمسة ممثلين عسكريين من كل جانب. وبادئ ذي بدء، يتعين على الجانبين تحديد النقاط المحددة التي يجب أن تنسحب إليها القوات، وكيف سيميزان بين القوات العسكرية وغير العسكرية في البيئة التي تمزّقها الميليشيات في ليبيا، وما هي ترتيبات الأمن الداخلي التي ستُتخذ في سرت والجفرة (وكان بيان السراج قد أشار إلى احتمال انتشار قوات الشرطة من كل جانب في الجبهتين).

لكن المسألة الأكثر إشكالية هي الترتيبات الأمنية حول منشآت النفط المجاورة، والتي تشمل الآبار وخطوط الأنابيب ومحطات التصدير التي تحاصرها قوات حفتر منذ كانون الثاني/يناير. فبعد انسحاب قوات “مجموعة فاغنر” –  وهي وكالة تعاقد روسية عسكرية خاصة – الموالية لحفتر من طرابلس في أيار/مايو، انتقلت هذه القوات إلى الجفرة واتخذت مواقع في الهلال النفطي في سرت وجنوباً في الحقل النفطي في الشرارة. وبينما أشارت تصريحات السراج وصالح إلى السيادة الليبية وخروج المرتزقة الأجانب بشكل عام، إلّا أن المسؤولين في “المؤسسة الوطنية للنفط” ربطوا هذه القضايا صراحةً بأمن النفط كشرط مسبق لاستئناف الصادرات.

وحالما يضع الليبيون شروطاً محددة للمنطقة المنزوعة السلاح، سيتعين على المجتمع الدولي الاضطلاع بدور مهم في مراقبتها وتنفيذها. ويعني ذلك مشاركة نشطة من قبل الولايات المتحدة المترددة و “الاتحاد الأوروبي” المنقسم تقليدياً. وعلى وجه الخصوص، سيتعيّن على الجيش الأمريكي توسيع نطاق الصور التي تنشرها “القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا” عن النشاط الروسي في ليبيا، بينما سيتعيّن على الأوروبيين إنشاء آلية لرصد الانتهاكات المحتملة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” موارد إضافية للإشراف على بعثة المراقبة على النحو الذي وافقت عليه “اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5” هذا الربيع، ويجب تعديل ولايتها وفقاً لذلك عند تجديدها في أيلول/سبتمبر. ولا يزال المجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي منقسمين بشأن السياسة المتعلقة بليبيا، لذا يجب أن تبدأ المفاوضات حالياً حول كيفية معالجة الانتهاكات المحتملة لـ “المنطقة المنزوعة السلاح”. يجب أن تكون موسكو جزءاً من هذه المحادثات، على الرغم من استمرارها في إنكار مصالحها العسكرية في ليبيا وعلاقاتها بعمليات “مجموعة فاغنر” هناك.

التوافق الاقتصادي

فيما يتخطى الترتيبات الأمنية، فإن الهدف الرئيسي الثاني لوقف إطلاق النار هو رفع الحصار النفطي. وكان حفتر قد أغلق في البداية موانئ النفط في الشرق كجزء من استراتيجيته لتجميد الأموال من “حكومة الوفاق الوطني” والرد على اتهامات بالفساد ضد “البنك المركزي الليبي” ومحافظه صادق الكبير. وفي الواقع، كان جزء من الدافع وراء هجوم حفتر الطويل الأمد للسيطرة على طرابلس هو انتزاع السيطرة على “البنك المركزي”.

ومن أجل تهدئة موقف حفتر من الفساد المتصوَّر، عمل مسؤولون من “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” والولايات المتحدة طوال أشهر على وضع الترتيبات اللازمة لإجراء تدقيق مالي في “البنك المركزي” وتوحيد المؤسسات المالية الموازية في ليبيا، التي تشهد انقساماً منذ عام 2014 (على الرغم من بقاء جميع المؤسسات الوطنية المعترف بها في طرابلس). والجدير بالذكر أن السراج وصالح اتفقا على الاحتفاظ بعائدات النفط في “البنك الليبي الخارجي” – وخارج “البنك المركزي” – إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق سياسي. وبالتالي، إذا طال أمد المفاوضات السياسية إلى أجل غير مسمّى، فسيؤدي ذلك إلى تضوّر البلاد جوعاً من الأموال التي تمس الحاجة إليها للتعافي من الحرب، ومعالجة حالة الطوارئ الناجمة عن فيروس كورونا، وإصلاح النقص المستشري في الطاقة، وتلبية الاحتياجات الإنسانية الأخرى.

توسيع الدور الأمريكي

بعد أكثر من عام من الجهود الضئيلة نسبياً لوقف هجوم حفتر، زادت واشنطن انخراطها الدبلوماسي في تموز/يوليو. ووفقاً لبيان صادر عن “مستشار الأمن القومي” الأمريكي روبرت أوبراين في 4 آب/أغسطس، اتصل العديد من القادة الأجانب بالرئيس ترامب مباشرة لطلب دعمه للمواقف المتنافسة بشأن ليبيا، مما دفع على ما يبدو البيت الأبيض للإعلان عن سياسة “الحياد النشط” و “المشاركة الدبلوماسية بزاوية 360 درجة مع أصحاب المصلحة الليبيين والخارجيين عبر دائرة الصراع”. وساعدت المحادثات الأمريكية اللاحقة مع القادة الليبيين والجهات الفاعلة في المنطقة – والتي شملت زيارات قام بها السفير ريتشارد نورلاند إلى القاهرة وأنقرة – في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.

ومع ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أن تدع الزخم يتلاشى، لأن بإمكان عدد من التحديات المعروفة أن تعكس بسهولة أي تقدم يتم إحرازه في الأيام والأسابيع المقبلة. على سبيل المثال، يظل السراج وصالح ضعيفين سياسياً في الداخل. ففي 23 آب/أغسطس – بعد يومين من إعلان وقف إطلاق النار الواعد – نزل المتظاهرون إلى شوارع طرابلس لانتقاد رئيس الوزراء و”حكومة الوفاق الوطني” بسبب سوء تقديم الخدمات. ووفقاً لذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تشجّع “اللجنة العسكرية المشتركة 5+5” على العمل سريعاً لوضع شروط “المنطقة المنزوعة السلاح”. كما ينبغي أن تنصح “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” بشأن أفضل السبل لحماية المنطقة والمنشآت النفطية المحلية.

وهناك خطر كبير آخر يتمثل في إمكانية تحوّل الترتيبات الأمنية المؤقتة وبسهولة إلى صراع مجّمد طويل الأمد إذا توقفت المفاوضات السياسية المصاحبة، مع فرض “المنطقة المنزوعة السلاح” حدوداً مصطنعة تدفع ليبيا أقرب إلى التقسيم. فتقسيم البلاد وفق مناطقها التاريخية (المعهودة ) هو اقتراح خطير يتجاهل الكثير من العوامل المحلية والطائفية التي تؤجج الحرب. بالإضافة إلى ذلك، من شأن الصراع المجمد أن يشجع مؤيدي حفتر في مصر وروسيا والإمارات على الضغط من أجل [الحصول على] مناطق نفوذ دائمة وتطبيع مواقفهم خارج “المنطقة المنزوعة السلاح”، وبالتالي منع “حكومة الوفاق الوطني” أو الحكومة اللاحقة من السيطرة الكاملة على البلاد. وعلى المدى الطويل أيضاً، يمكن أن تؤدي “المنطقة المنزوعة السلاح” إلى الإضرار بتركيا، الداعم العسكري الأساسي لـ “حكومة الوفاق الوطني” – على سبيل المثال، قد تصبح اتفاقية ترسيم المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة في البحر الأبيض المتوسط ​​الموقّعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ضعيفة بشكل متزايد إذا ظلت المناطق الساحلية التي يغطيها الاتفاق خارج سيطرة طرابلس.

وربما الأهم من ذلك، أن واشنطن لا يمكنها التركيز فقط على وسط ليبيا بينما تتجاهل التعزيز المستمر للمعدات والأفراد العسكريين في شرق البلاد (من قبل روسيا والإمارات) وغربها (من قبل تركيا). إن وجود روسيا في وسط ليبيا هو ليس سوى امتداد لوجودها العسكري واللوجستي الأوسع نطاقاً في شرق البلاد، والذي يشمل الأفراد المتمركزون في “قاعدة الخادم الجوية” التي شيدتها الإمارات. يجب على المسؤولين الأمريكيين الاستمرار في فضح الأنشطة الروسية في ليبيا، وتحدّيهم مباشرة من واشنطن، وليس فقط من مقر “القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا” في ألمانيا. يجب عليهم أيضاً الضغط على حليفتي الولايات المتحدة، أنقرة وأبو ظبي، لكي تتفقا بصورة متبادلة على وقف عمليات نقل الأسلحة إلى الجانبين المتنافسين خلال محادثات وقف إطلاق النار، لا سيما بالنظر إلى الفعالية المحدودة لآلية إنفاذ الحظر البحري لـ “الاتحاد الأوروبي” المعروفة بـ “عملية إيريني”.

إنّ سجل ليبيا الحديث الحافل باتفاقات وقف إطلاق النار الفاشلة وتراجع الثقة في صنع السلام يمنح واشنطن حافزاً إضافياً لاغتنام هذه الفرصة واستعادة مكانتها كوسيطٍ موثوق به. ويتطلب ذلك جهوداً دبلوماسية متواصلة من قبل البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، إلى جانب الدعم الموجه من قبل عناصر من وزارتي الخزانة والدفاع الأمريكيتين لزيادة فعالية العقوبات وكشف انتهاكات حظر الأسلحة. وقد حان الوقت أيضاً لكي تُوافق واشنطن على [تعيين] ممثل خاص جديد للأمم المتحدة في ليبيا، وهو المنصب الذي ظل شاغراً منذ استقالة غسان سلامة في آذار/مارس.

***

أنس القماطي هو مؤسس ومدير “معهد صادق”، أول معهد فكري للسياسة العامة في طرابلس.

بين فيشمان هو زميل أقدم في معهد واشنطن والمدير السابق لشؤون شمال إفريقيا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي.

_____________

مواد ذات علاقة