بقلم الفيتوري شعيب
منذ اندلاع ثوراث الربيع العربي، ابتداء بتونس ومصر، وليس انتهاء بسورية، لحقت ليبيا بهذا الركب لتكون ثورة فبراير في 2011 ثورة ضد الطغيان والاستبداد والفساد، والتي أطاحت عهدا من الديكتاتورية والطغيان، حكم البلاد واستولى عليها أربعة عقود متتالية.
وما إن بدأت هذه الثورة تضع لبناتها في بناء الدولة، حتى بدأ عرّابوا الثورات المضادّة في الداخل والخارج الكيد لها من كل جوانبها، السياسية والاقتصادية، بل وحتى الاجتماعية، ليصل هذا الكيد والتضييق إلى قوت المواطنين، وعلى حساب معيشتهم. تلك مسارات المرحلة السابقة من عمر الثورة الليبية، وأبجدياتها، بكل اختصار ووضوح.
لم تكن تلك السنوات من عمر الثورة كافية لإنقاذها من عبث المفسدين، والمصلحجيين في الداخل، وعبث أعداء الثورات العربية من الخارج وتدخلهم. والناظر إلى ذلك بكل تجرّد يرى من الطبيعي أن يحدث ما حدث في هذه المرحلة من عمر الثورة، لعدة عوامل، أبْرِزها:
أولاً: لم تكن ثورة فبراير محصورةً في أشخاص مُعينين، ولا أسماء ولا قيادات سياسية، ولا حتى عسكرية محدّدة ومعروفة، وإنما كانت شعبيةً بامتياز، حتى أنه، في أحيان كثيرة، يكون أصحاب السياسة تبعاً للشارع ومتطلباته، لاالعكس، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، مرّت الحياة السياسية في ليبيا لأربعة عقود ونيف إلى تصحّر على المستويين، السياسي والقيادي، في البلاد.
ثانياً: منذ بدء العملية السياسية والمرحلة الانتقالية بعد نجاح الثورة، وتَغَلُبها على النظام السابق في 2011، سارت هذه العملية في جو من التشتت والتخبط، نتيجة الضعف الذي تعاني منه النخب التي لم تفلح في نبذ خلافاتها وتغليب المصلحة العليا للبلاد؛ بل نراها على النقيض من ذلك، حيث كرّست الصراعات السياسية والاختلافات التوجهية، ابتداء من التجربة السياسية الأولى بعد الثورة المتمثلة في المجلس الوطني الإنتقالي، الذي شكّل في خضم الثورة لإدارة شؤون البلاد، وليس انتهاءً بالمؤتمر الوطني العام في 2012، والبرلمان من بعده في 2014، وصولاً إلى اتفاق الصخيرات والمجلس الرئاسي المنبثق عنه في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
ثالثاً: التدخلات الخارجية السلبية، والأجندات الأجنبية، الإقليمية منها والدولية التي يُذكيها المحور الداعم للثورات المضادّة التي أنتجت الاختلاف والتنازع السياسي الحاد، وصولاً إلى الاقتتال، تحت جلابيب مختلفة من التوجهات والمتناقضات التي في حقيقتها محاولة العودة إلى حكم العسكر والفرد، وطمس الثورات العربية ككل، وليبيا جزء من ذلك؛ بل وساهمت هذه الأجندة، الإقليمية منها والدولية، في ضرب وحدة الصف الليبي ككل، لينتج عنه مشروع انقلابي على الثورة، امتداداً للخريطة المرسومة له من المحور الداعم للثورات المضادّة، وامتداداً للانقلابات الأخرى في المنطقة.
رابعاً: استثمار الفساد وإيجاده عبر لوبيات مختلفة ساهم في تفاقم الأوضاع في الداخل، في ظل انعدام الخدمات الأساسية في البلاد، الأمر الذي قد تكون المراحل الانتقالية المتتالية سببا في ذلك من جهة أو أخرى، وكذلك عدم استقرار الوضع السياسي في البلاد، ناهيك عن وجود أرضية مسبقة لهذا الفساد، سواء من الناحية المؤسساتية أو حتى الفردية الشخصية.
وبالتالي، تقريرا لما سبق، تمرّ الثورة بمنعطفاتٍ خطيرة تنهش في كيانها، ابتداءً من محاولة الانقلاب عليها عبر مشروع انقلابي مكتمل الأركان، والفساد الذي استشرى في بعض مكوّناتها.
وكذلك محاولة تغييب القاعدة الدستورية، وتجديد المراحل الانتقالية بآلياتٍ مختلفة، ليس الغرض منها الوصول إلى استقرار دائم في البلاد في أحيانٍ كثيرة، بقدر ما هو محاولة لصنع واقع جديد بآليات خارجية، الدولية منها والإقليمية، لفرض واقع يخدم تلك المصالح لا أكثر، الأمر الذي يفترض على الثورة، بمفهومها الصحيح والشامل، أن تحقق مصالحها، أيضاً، عبر هذا المسار، باعتبار أن نجاحها لا ينفكّ عنه في الواقع.
كما أن هذا التوجه لا يعني، بالضرورة، إقفال الباب نحو التجديد في هذه الثورة داخلياً، خصوصا وأنها مرّت بمرحلة مخاضٍ كبيرة، سياسية وعسكرية، يمكن من خلالها إعادة روح الثورة بمنهج حقيقي يكافح الفساد ويبني الدولة، في ظل وجود شركاء دوليين يدعمون مسار الثورات العربية ومناهضة الاستبداد، وكذلك تفعيل الاتفاقيات التي تخدمها، داخلياً وخارجياً، كما هو الحال في الاتفاقية الليبية التركية الموقعة من حكومة الوفاق الوطني وتركيا، والتي لعبت دوراً كبيراً ومهماً، بل ومفصليا، في دعم مسار الثورة وضد عسكرتها.
وفي المجمل، مُقومات تصحيح الثورة أو حتى تجدّدها قائمة، خصوصا في ظل المطالبات الشعبية بالإصلاح، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطن، ناهيك عن تعثر العملية السياسية في البلاد، والاستقطاب الحاد بين مكونات البلاد، وانقسامها على نفسها، وغياب تام للدستور، أو حتى مراحل إيجاده، خصوصا أن المراحل الانتقالية ستطول أكثر ربما، وإن وجدت تفاهماتٍ بين المجلس الرئاسي والبرلمان المنقسم أخيرا تظل تفاهماتٍ تتجاذبها المصالح الدولية والإقليمية، لا تبنى عليها سياسة دائمة للبلاد، يمكن التعويل عليها في بناء الدولة بروح الثورة، لا روح الانقلابات العسكرية.
*********
هل ثمة أفق لحل سياسي في ليبيا؟
بقلم عمر كوش
بعد إعلان رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في طرابلس فائز السراج، ورئيس البرلمان في طبرق عقيلة صالح، وقف إطلاق النار في ليبيا، تطرح أسئلة كثيرة تطاول ممكنات تثبيت هذا على الأرض، وما سيبنى عليه من ترتيبات، وهل سيفتح هذا الإعلان أفقاً للحل السياسي في ليبيا، بما يفضي إلى إنهاء سنوات من الحرب والصراع على ليبيا وفيها، أم أن الأمر يقتصر على تهدئة مؤقتة، غايتها تأمين تصدير النفط الليبي؟
بداية، يتعلق الأمر بالخطوات التي ستتخذها الأطراف المحلية المتصارعة لتنفيذ وقف إطلاق النار، وما سيترتب عليها من خطوات سياسية، لكن الأهم هو التوافق في مواقف الدول المتدخلة في الشأن الليبي، ووجود إدارة لديها للتفاهم وتجاوز خلافات المصالح والأجندات والإستراتيجيات، خصوصا أن إعلان وقف إطلاق النار جاء ثمرة مبادرة أميركية، وبعد اتصالات ومشاورات كثيرة، بين مسؤولين من الدول المتدخلة في الشأن الليبي، وضغوط مُورست على القوى والأطراف المحلية المتقاتلة للقبول بها.
وتنهض المبادرة الأميركية على تحويل مدينة سرت والجفرة إلى مناطق منزوعة السلاح، وإعادة فتح المنشآت النفطية في منطقة الهلال النفطي للإنتاج والتصدير، والانخراط في مفاوضات سياسية، هدفها إنهاء الصراع والانقسام السياسي، وتحديد آليات من أجل توزيع عائدات الصادرات النفطية مع مراقبة أممية لأوجه صرفها وتوزيعها.
أخذت المبادرة الأميركية طابعاً دولياً وتراعي توازن القوى الدولية في ليبيا
ولكن الترحيب الدولي والإقليمي الذي استقبل به الإعلان عن وقف إطلاق النار لا يشي بأن الطريق باتت سهلة أمام انطلاق عملية سياسية جديدة، خصوصا أن ترحيب بعض الدول اقترن بضرورة استئناف إنتاج النفط الليبي وتصديره، بينما المطلوب هو عودة أممية من أجل رعاية حوارات الأطراف الليبية، والوصول بها إلى توافق وطني، وفق مرجعية ومحددات واضحة، سواء على أساس اتفاق الصخيرات الذي وقع في أواخر 2015 أو مخرجات مؤتمر برلين مع القيام بالتعديلات المطلوبة التي تصب في مصلحة الشعب الليبي، وليس في مصلحة الدول المتدخلة في الشأن الليبي، وممارسة الضغوط الكافية لإجبار القوى المسلحة على الالتزام بوقف إطلاق النار وتثبيته بشكل دائم، وبالتالي يتطلب ذلك تحولاً واضحاً في مواقف القوى الإقليمية والدولية في اتجاه التركيز على الحل السياسي، والضغط على كل الأطراف، وخصوصا التي تدعمها، من أجل القبول بالخيار التفاوضي والحل السياسي، وأن لا تستمر في تقديم الدعم لتلك الأطراف.
وإن كانت القوى المتصارعة في ليبيا قد وصلت إلى قناعةٍ تقضي بضرورة الانخراط في عملية تفاوض سياسية، نتيجة صعوبات المواجهة العسكرية وتكلفتها الباهظة ومحاذيرها، فإنها لا تقرّ بضرورات الالتزام بالحل السياسي مخرجا وحيدا للوضع الكارثي في ليبيا، بل لا تزال ترغب في حلّ تفصله على مقاسها ومقاس داعميها، وهو أمر متعذّر، ولا يمكن تحقيقه. وعليه نسمع أصواتا يؤكد فيها كل طرف على مكاسبه ومصالحه، وليس على مكاسب الليبيين عموماً.
لذلك دعت البعثة الأممية إلى “الإسراع في تطبيق توافقات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، والبدء بترحيل جميع القوات الأجنبية والمرتزقة الموجودة على الأراضي الليبية”، وهو أمر يصعبُ على الأطراف الليبية تحقيقه، ما لم تتعاون معها القوى المتدخلة في ليبيا، وبشكل خاص في مسألة إخراج المرتزقة، وفي إمكانية إخلاء مدينتي سرت والجفرة من السلاح، حيث لا تزال روسيا تصرّ على وجود مرتزقة فاغنر في مناطق حقول النفط والموانئ ومنطقة الجفرة، على الرغم من ترحيبها بإعلان السراج وعقيلة صالح عن وقف إطلاق النار.
لذلك تحاول تغيير رهانها على اللواء المتقاعد خليفة حفتر (أعلن متحدث باسمه استخفافا بالإعلان) الذي تلقى هزائم كبيرة، من أجل الحفاظ على وجودها ونفوذها العسكري في ليبيا، بغية تحقيق مصالحها وأهدافها.
انخراط الأطراف في التفاوض لا يعني الإقرار بضرورات الالتزام بالحل السياسي مخرجا وحيدا للوضع الكارثي في ليبيا
ولا يبتعد الأمر كثيراً عن باقي المتدخلين في الشأن الليبي، وخصوصا تركيا ومصر وفرنسا وإيطاليا وسواها، لكن ما يجعلها تنخرط في المبادرة الأميركية هو عدم قدرة أي منها على إدارة الصراع وحدها، إلى أمد طويل، وغير قادرة على تحمل مزيد من الأثمان بمغامرات خارجية. كما أن الحسابات الاقتصادية للدول المتدخلة في الشأن الليبي لا تمكنها من إضافة خسائر في جبهات خارجية في هذه الظروف التي تعاني اقتصادات معظم الدول من صعوبات وأزمات عديدة.
إضافة إلى أن ذلك كله تزامن مع عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى ليبيا، لمواجهة الحملة الروسية القوية، الهادفة إلى توسيع مناطق النفوذ في القارّة الأفريقية، والتي تجسّدت ليس فقط عبر الاهتمام المتجدّد بالملف الليبي، بل بممارسة ضغوط قوية على قادة وزعماء الأطراف المحلية المتصارعة، وعلى القوى الإقليمية والدولية، من أجل حثها على التخلي عن نياتها التوسعية في ليبيا.
وبالتالي، فإن ممكنات وآفاق حل سياسي في ليبيا يجسّدها انحراط أطراف دولية، مثل تركيا وروسيا وألمانيا، إلى جانب الولايات المتحدة، ما يعني أن المبادرة الأميركية أخذت طابعاً دولياً، وتراعي توازن القوى الدولية في ليبيا، ومعها التوازنات في مناطق شمال أفريقيا وشرقي المتوسط، وتعقيدات الوضع في ليبيا.
لذلك المأمول هو أن تقرّ فعلاً الدول المتدخلة في ليبيا بانتفاء الحلّ العسكري، وأن تفتح المبادرة الأميركية باباً أمام إمكانية انخراط جميع الأطراف في حوار سياسي حقيقي، يأخذ في الحسبان مختلف المسارات الطبيعية للأزمة الليبية، وسبل الاتفاق بينها وممكناته، وبشكل يضمن تحويل الإعلان عن وقف إطلاق النار إلى تثبيته الدائم، والوصول إلى توافقات سياسية، تفضي إلى حلّ سياسي دائم، يلبي طموحات الشعب الليبي وينهي معاناته.
____________