مؤشرات في اتفاق وقف إطلاق النار بليبيا، واتفاق مصر واليونان على الحدود البحرية، تدل على توجه القاهرة وأنقرة نحو تفاهمات اضطرارية تُجنِّبهما صدامًا يُلحق بهما أضرارًا جسيمة.

الجزء الثاني

سبع سنوات من القطيعة

الحقيقة، أن التوتر في العلاقات التركية-المصرية ليس جديدًا. وبالرغم من جدية، وحدَّة، الخلافات حول المسألة الليبية وترسيم الحدود الاقتصادية شرق المتوسط، لا يمثِّل هذان الملفان سوى حلقة إضافية في علاقات تحث الخطى نحو التدهور والمواجهة منذ انقلاب الجنرال السيسي على رئيسه المنتخب في 2013.

كانت العلاقات التركية-المصرية شهدت تقاربًا حثيثًا في سنوات حكم الرئيس مبارك الأخيرة، وصل إلى حدِّ توقيع اتفاقية تجارة حرة بين البلدين وتدفق الاستثمارات التركية على السوق المصرية؛ حيث توفرت العمالة الرخيصة التي شجعت الرأسمال التركي على تأسيس صناعات خُطِّط لتصديرها إلى السوقين الأوروبية والأميركية.

ولكن تركيا العدالة والتنمية، التي اعتُبرت ديمقراطيتها أحد العوامل التي دفعت نحو اندلاع حركة الثورات العربية في 2011، أيدت الثورة المصرية وعملية الانتقال نحو الديمقراطية بعد إطاحة مبارك.

في 2012، رحَّبت أنقرة بانتخاب د. محمد مرسي رئيسًا، ولم تتردد في تقديم قرض مالي لدعم احتياطيات البنك المركزي المصري. عقد مرسي أكثر من لقاء مع رئيس الحكومة التركية آنذاك، رجب طيب أردوغان، واتخذ عددًا من الخطوات التي أوحت بتوجه نحو تحالف بين البلدين، بما في ذلك عقد مناورات مشتركة بين القوات البحرية، التركية والمصرية.

فوجئت أنقرة بانقلاب يوليو/تموز 2013، واعتبرته عملًا ذا طابع إقليمي ودولي موجهًا ضد تركيا ودورها الإقليمي، وليس عملًا ضد التحول الديمقراطي في مصر، وحسب. ولم تتردد أنقرة في الهجوم على النظام المصري، وإدانة سياساته الداخلية، واعتبار القيادات التي أفرزها الانقلاب غير شرعية.

كما أصدر أردوغان أوامره بإيقاف اللقاءات الرسمية على المستوى الوزاري بين مسؤولي الدولتين. وخلال أسابيع قليلة من وقوع الانقلاب، كانت تركيا تستقبل أعدادًا متزايدة من المسؤولين المصريين السابقين، والنشطين السياسيين المستهدفين من حكومة الانقلاب وأجهزتها، لتتحول مدينة إسطنبول إلى مركز رئيس لنشاطات المعارضة المصرية ضد نظام ما بعد يوليو/تموز 2013.

التصعيد المتبادل في لغة الخطاب بين أنقرة والقاهرة، خشية نظام السيسي من نشاطات المعارضين المصريين في تركيا، وتقديره بأن حكومة أردوغان ليست في وارد القبول بالأمر الواقع الجديد في مصر في المدى المنظور، أوصلت الأمور إلى القطيعة الدبلوماسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، عندما قرر النظام المصري سحب السفير من أنقرة وطلب مغادرة السفير التركي من القاهرة. ولم تلبث مصر السيسي أن اتخذت عددًا من الخطوات التي أوحت باختيارها الوقوف في معسكر الكتلة المناهضة لتركيا ودورها في الإقليم.

عززت القاهرة من علاقاتها مع أبو ظبي والسعودية، وأعادت الدفء إلى علاقاتها مع قبرص اليونانية ومع اليونان، وبدأت اتصالات مع نظام الأسد، واستقبلت وفدًا من حزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا ضد الدولة التركية منذ الثمانينات، وفتحت أبوابها لنشاطات جماعة غولن بعد اتهام الجماعة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة أردوغان في 2016.

وقد شهد العام الماضي، ذروة التصعيد في علاقات البلدين؛ ففي يناير/كانون الثاني 2019، دعت مصر اليونان، وإسرائيل، وقبرص، وإيطاليا، لتأسيس منتدى شرق المتوسط للغاز (كما شارك في اللقاء بصفة مراقب كل من الأردن والسلطة الفلسطينية)، في استبعاد متعمَّد ومحمَّل بالدلالات لتركيا. كما التحقت مصر بالإمارات في تقديم الدعم العسكري والسياسي لمشروع حفتر في السيطرة على ليبيا وهجومه على العاصمة طرابلس.

وربما كانت هذه الخطوات هي التي دفعت إدارة الرئيس أردوغان إلى التحرك المتسارع لدعم طرابلس، وبدء المباحثات مع حكومة الوفاق حول ترسيم الحدود الاقتصادية، من جهة، وتوفير شرعية قانونية للوجود العسكري التركي في ليبيا، من جهة أخرى.

مقاربات أكثر واقعية

بيد أن الصورة التي يطرحها التصعيد الأخير في العلاقات تُخفي مقاربات أكثر واقعية من حكومات الدولتين. فبالرغم من حجم الخلافات الذي يفصل بين رؤية كل من الدولتين لمصالحها ودورها، وبالرغم من أن حجم المخاوف المصرية، سواء من الحرية التي تتمتع بها المعارضة المصرية في تركيا أو من اتساع دور تركيا الإقليمي، يدرك الأتراك والمصريون أن الصدام المباشر ستكون له آثار مؤلمة على وضع الدولتين.

بدون التحرك لتخفيف حدة التوتر، ومنع المزيد من التصعيد، كلتا الدولتين ستخسران، اقتصاديًّا وسياسيًّا. فبقاء مصر إلى جانب اليونان وإسرائيل في النزاع على ثروات شرق المتوسط يعزز من موقف المعسكر المناهض لتركيا؛ والإخفاق في احتواء الخلافات حول ليبيا يمكن أن يفضي إلى صدام عسكري مباشر على الساحة الليبية، تخشى القيادات العسكرية المصرية عواقبه.

الحقيقة، أن اتصالات على مستوى جهازي استخبارات البلدين بدأت مباشرة بعد توقيع تركيا وحكومة الوفاق اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري-الأمني في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

ويبدو أن الجانب المصري، الذي بادر إلى تلك الاتصالات، أراد استكشاف أبعاد التحرك التركي في ليبيا وما يعنيه اتفاق ترسيم الحدود الاقتصادية في شرق المتوسط للمصالح المصرية.

والأرجح أن هذه الاتصالات استمرت بصورة متقطعة طوال الشهور التالية؛ وهو ما أكدته تصريحات وزير الخارجية التركي، في 11 يونيو/حزيران، التي تكررت في 13 يوليو/تموز، وتصريحات الرئيس أردوغان في 14 أغسطس/آب.

فقد أنكر وزير الخارجية المصري، 14 يوليو/تموز، وجود اتصالات رسمية بين القاهرة وأنقرة، ولكن الأرجح أن إنكار سامح شكري قُصد به تطمين حلفاء مصر في الإمارات أكثر منه التعبير عن حقائق الأمور.

وقد لاحظت أنقرة أن الاتفاق المصري-اليوناني حول ترسيم الحدود الاقتصادية في المتوسط حمل عناصر دعم وجهة النظر التركية أكثر من الانحياز المصري لليونان؛ حيث أصرَّت مصر على أن يُبنى الاتفاق على أساس أن حدود اليونان الاقتصادية تبدأ من سواحل أرض اليونان الرئيسة وليس من سواحل الجزر اليونانية؛ كما أحجمت القاهرة عن ترسيم حدود المنطقتين المحيطتين بجزيرتي مايس (التي تبعد 2 كم عن الساحل التركي وما يزيد عن 580 كم عن الساحل اليوناني) ورودس اليونانيتين، وهي المناطق التي تعتبر ذات حساسية كبيرة لتركيا.

في المقابل، وإلى جانب حسابات العلاقات التركية-الروسية، أخذت أنقرة مخاوف مصر في ليبيا في الاعتبار، وعملت على تجميد الهجوم الذي كانت قوات الوفاق تخطط لشنِّه على قوات حفتر في مدينة سرت، داعية حلفاءها في الوفاق إلى محاولة حل مسألة سرت بالطرق السياسية.

كما تكررت تصريحات المسؤولين الأتراك بدعوة مصر إلى حل المسائل العالقة بين البلدين بالتفاوض، وضرورة أن تتوقف مصر عن دعم قوات حفتر، التي لا تتمتع بأي مستوى من الشرعية. بيد أن هناك ما هو أكثر من ذلك.

فقد أكدت مصادر ليبية وتركية، متطابقة، لمركز الجزيرة للدراسات، أن بياني رئيس المجلس الرئاسي للوفاق، فايز السراج، ورئيس البرلمان، عقيلة صالح، في 21 أغسطس/آب 2020، بخصوص الإعلان عن وقف تام لإطلاق النار في عموم الأرض الليبية، اللذين أوحيا باستبعاد أي دور سياسي لحفتر في مستقبل البلاد، وفتحا المجال لاستئناف المسار السياسي لحل أزمة الانقسام بين طرابلس والشرق الليبي، قد وُلِدا من مبادرة أميركية، قادها السفير الأميركي في ليبيا، ريتشارد نورلاند، ومن توافق تركي-مصري.

عمل نورلاند، الذي عبَّر عن دعم واضح لحكومة الوفاق منذ تعيينه سفيرًا في طرابلس، طوال أسابيع على المبادرة، التي يهدف الأميركيون من خلفها ليس لإقرار السلام وإعادة بناء دولة ليبية موحدة، وحسب، بل وإخراج روسيا كلية من ليبيا.

ولكن مبادرة نورلاند ما كان يمكن أن تتقدم بدون موافقة المصريين على استبعاد حفتر، ومنح عقيلة صالح حقَّ تمثيل الشرق الليبي؛ وموافقة أنقرة على استبعاد الخيار العسكري فيما يتعلق بسرت-الجفرة وعلى الاقتراح الأميركي بإعلان المنطقة منزوعة السلاح.

كان وزيرا دفاع تركيا وقطر، اللذان قاما بزيارة مشتركة ولافتة لطرابلس قبل أيام فقط من إعلان بياني السراج وصالح، على عِلْم بالمبادرة الأميركية؛ وقد أرادا من زيارتهما والاتفاقات التي عقداها مع حكومة الوفاق، التوكيد على التزام أنقرة والدوحة المطلق وبعيد المدى بدعم الحكومة الشرعية في طرابلس، على أساس أن التزامًا قويًّا سيحفز الطرف الآخر على اتخاذ موقف أكثر عقلانية في المسار التفاوضي.

تفاهمات الاضطرار

استُقبل بيانا السراج وصالح بالترحيب فور صدورهما من المندوبة الأممية لليبيا، والاتحاد الأوروبي، وألمانيا (التي دعمت التحرك الأميركي من البداية)، وقطر، ومصر.

الموقف التركي أعلنه د. إبراهيم قالن، الناطق باسم الرئاسة التركية. وقد لوحظ أن حديث كالن لم يقتصر على الترحيب بتوافق السراج وصالح، الأوَّلي، ولكنه حمل أيضًا إشارة لمصر، التي أعرب ناطق الرئاسة التركية عن أمله بأن تلعب دورًا إيجابيًّا في ليبيا.

فهل تشهد العلاقات التركية-المصرية تحولًا باتجاه الانفتاح والتوافق؟

الواضح، منذ يوليو/تموز 2013، أن الحكم المصري اختار توجهًا استراتيجيًّا على النقيض من توجهات تركيا الاستراتيجية، سواء فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، أو التحالفات الإقليمية، بغضِّ النظر عمَّا إن كان هذا التوجه يخدم مصالح مصر القومية أو لا.

تنظر مصر لنفسها باعتبارها أكبر الدول العربية، وأثقلها في ميزان القوى، وصاحبة الدور الرئيس في تقرير مصير المنظومة العربية. ولكن نظام السيسي مدين بوجوده واستمراره للدعم الإماراتي-السعودي، وللتأثير الإسرائيلي في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، ويصعب أن يقرر النظام المصري الفكاك من تحالفاته العربية والإقليمية الحالية.

إضافة إلى ذلك، ترى قاهرة السيسي، التي تحاول جاهدة شقَّ طريق لدور مصري إقليمي، أن تركيا المنافس الإقليمي الرئيس لها؛ وأن التحرك التركي في الإقليم يوقد أشواق الديمقراطية والتعددية السياسية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. تركيا، بكلمة أخرى، مصدر قلق كبير لشرعية النظام المصري ورؤيته لعملية الحكم ودور مصر في الإقليم.

ولذا، وحتى إن رفع الرئيس التركي الحظر عن الاتصالات السياسية عالية المستوى بين البلدين، يصعب أن يأخذ نظام السيسي خطوات ملموسة باتجاه بناء توافق مصري-تركي. ما سيحدث، على الأرجح، بناء على تقدير أنقرة والقاهرة العقلاني-البراغماتي البحت لأن مستوى التصعيد في علاقات البلدين بات يُنذر بمخاطر باهظة التكاليف لكلتيهما، هو اقتناع قيادات البلدين بأن الأفضل والأكثر أمانًا احتواء التأزم المتفاقم والتفاهم، ما استطاعت التفاهم، على هذا الملف أو ذاك.

هذا هو المسار الذي تشير إليه وقائع الشهور القليلة الماضية. ولكن المؤكد أن ليس ثمة ما يضمن، على هذا المستوى من التفاهمات، منع اندلاع تصعيد جديد في العلاقات التركية-المصرية، إن انتهى أي من التفاهمات الحالية إلى ما لا يرضاه أحد الطرفين.

______________

مواد ذات علاقة