بين مقاومة الشعوب وتوازنات الأنظمة

يتراوح موقف محور الثورة المضادة في المغرب العربي بين نقيضين، يستهدفان ترويض المغاربيين.

الطرف الأول للنقيض يتمثل في حرب أهلية مستعرة في ليبيا، كانت في طريقها للنهاية بعد اتفاق (الصخيرات) استضافت المغرب فعالياته ورعته الأمم المتحدة، لكنه برغم إرساء الأوضاع المؤسسية التي تكفل نجاحه، فإنه لم يحقق استقرارا، بسبب تدخل محور الثورة المضادة الذي أغرق شرق ليبيا بالمال والسلاح، وأمد التمرد الليبي بتحالف دولي استخباراتي، كما زوده بمرتزقة من جنسيات شتى في محاولة لجعل ليبيا عبرة مثل اليمن.

الجزء الأول

على النقيض من ذلك، تقف الجزائر التي تشير الدعاية الخليجية إلى أن محور الثورة المضادة يخطط لتدفقات رأسمالية إليها ستفتتح بعشرة مليارات دولار، إذا ما بدا لدى القيادة الجزائرية استعدادها للمشاركة في إدارة الملف الليبي لصالح المحور الإماراتي السعودي. وبين النقيضين، تقف المغرب بسياسة خارجية رصينة، في حين تقف تونس مهتزة.

ويعاني كلاهما من ضغوط وتدخلات وحملات تشهير، تستهدف جرهما للمربع الذي تؤخر الجزائر قدما وتقدم أخرى، وهي تقف على شفيره.

وبينما تتباين المواقف الرسمية لهذه الدول، توجه الشعوب في دول المغرب العربي الأربع رسائلها لمحور الثورة المضادة. فما ملامح هذه الرسائل؟ الدراسة الحالية تقدم إجابة عن هذا السؤال.

أولا: الحالة التونسية

أ. خلافات تونس مع محور الثورة المضادة: على الرغم من صمت القيادات التونسية حيال تدخلات إماراتية عدة في الشأن التونسي، فإن التدخلات الإماراتية في تونس، ومساعيها لزعزعة مؤسسات الدولة، وشيطنة حركة النهضة، وإثارة الفوضى، واضحة للعيان، حتى مع تجنبنا ما أشارت إليه الحسابات الإلكترونية التي تسرب – استباقا – خططا خاصة بمحور الثورة المضادة.

يتفق المراقبون على أنه لا يمكن الفصل بين عملية استهداف تونس والتوازنات في ليبيا، حيث تعمل الإمارات على توجيه السياسة التونسية من أجل لعب دور نشط في الحرب الأهلية بليبيا، والحد من نشاط تركيا في المنطقة، وضرب الحركات الإسلامية أو الديمقراطية.

الضغوط الإماراتية لا يمكن عزلها – لدى قطاع واسع من المراقبين – عن اهتزاز الدور التونسي في ليبيا، أو وصفه بــ”المحتشم غير الفاعل” في سياق مغاربي مضطرب، وإن بدا هذا الدور في لحظة من اللحظات مساندا للشرعية الليبية، وهو ما تبدى من الدعاية التي ارتبطت بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تونس العاصمة، لكن الرئيس التونسي قيس سعيد حرص على نفي هذه الصورة بوضوح، معلنا أن بلاده لن تصطف مع أي من الطرفين المتصارعين في ليبيا. وهو الأمر الذي أكد مراقبون أنه سبب استبعاد تونس من مؤتمر برلين الخاص بتسوية الأزمة الليبية.

غير أن الموقف غير الواضح لرئيس الجمهورية التونسي يخالفه موقف واضح لرئاسة مجلس نواب الشعب (البرلمان التونسي) راشد الغنوشي، الذي زار تركيا في يناير /كانون الثاني 2020، وهنأ رئيس الحكومة الشرعية الليبية فائز السراج بعدة مناسبات كان أبرزها التهنئة بتحرير “قاعدة الوطية”، وهما المسلكان اللذان عرضاه لحملات سياسية وإعلامية ضخمة، استهدفت أولاها عزله من منصبه.

كما استهدفت أخراها سحب الثقة منه كرئيس لمجلس نواب الشعب، وهما ردا الفعل اللذان لم يصادفا أغلبية لدى نواب البرلمان، رغم أن الكتلة البرلمانية لـ”حركة النهضة التونسية” لا تتجاوز 25% من أعضاء المجلس (54 من بين 217 مقعدا).

ومع عدم تحدث مصادر موثوقة عن الأنباء المتعلقة بخطة الانقلاب التي أشيع عن اكتشاف أوراقها في “قاعدة الوطية”، فإن التدخلات الإماراتية في الشأن الداخلي التونسي سبق لها أن تضمنت ترتيب انقلابين، أولهما ضد الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي، عام 2018، وذلك سعيا إلى تنصيب وزير الداخلية لطفي براهم كرئيس للبلاد، على غرار ما حدث مع الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، وهي الواقعة التي أقيل على إثرها “براهم” بزعم فشله في منع الهجرة غير الشرعية، ما أدى لغرق مركب به مهاجرون توانسة.

هذه المحاولة اعتبرها مراقبون حلقة في سلسلة حلقات لترتيب انقلابات أخرى عبر نشر الفوضى، عقابا للباجي السبسي على تحالفه مع “حركة النهضة. جدير بالذكر أن الحكومة التونسية تكتمت كذلك على المحاولة الانقلابية في 2018، رغم التظاهرات الشعبية. وسبق أن أشرنا للانقلاب الثاني ضد رئيس “مجلس نواب الشعب”.

ورغم أن التعامل الإماراتي مع تونس يبدو تدخلا بصورة سياسية “فجة”، مقارنة بنهج الإمارات في المغرب والجزائر، فإن هذا لم يمنع من استخدام “الذباب الإلكتروني” كذلك، ضمن سياقات توظيفه المعروفة في الإمارات. وبعيدا عن الهجوم السياسي، فإن “اللجان الإلكترونية” المحسوبة على محور الثورة المضادة تُوسِّع هجماتها على قطاعات شعبية، ومن بينها النساء.

كان من أبرز الحملات التي أشيعت في هذا الإطار حديث هذه اللجان عما أسموه طفرة “البغاء التونسي” الذي يتنامى في الإمارات، ويزحف على إمارتي: دبي والفجيرة بصورة خاصة، وتصوير المرأة التونسية على أنها الأخطر على الأخلاق الخليجية. وقد تجاوز هذا المسار في الحالة التونسية مدخل “اللجان الإلكترونية”، ووجد طريقه للعالم الحقيقي، مع حظر “الإمارات” سفر التونسيات على متن رحلات “طيران الإمارات”. وكان طبيعيا – مع كل هذه الملابسات – أن يثور الحس الشعبي التونسي ضد الإمارات.

ولا تنحو العلاقات بين تونس والسعودية نفس المنحى الذي تأخذه السياسة التدخلية الإماراتية، إذ ما تزال حبال الاتصالات والتنسيقات موصولة، وبخاصة مع أزمة “فيروس كوفيد 19″، لكن كان لافتا أن تونس لم تنخرط في الجولات السياسية لقادة مغاربة إلى المملكة السعودية في مطلع 2020، سواء زيارة وزير الخارجية المغربي برفقة مستشار العاهل محمد السادس، أو حتى زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبونز

هذه الزيارات هي التي رجح مراقبون أنها تأتي لكسر محاولات عزل المملكة، وترك مسافة بينها وبين الإمارات، فيما يرجح آخرون أن غياب تونس يرجع لعدم وجود تصور واضح للسياسة الخارجية التونسية تجاه الأزمات الإقليمية التي يثيرها محور الثورة المضادة.

ب. الروح الشعبية التونسية ضد محور الثورة المضادة: كانت جولة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حوالي قمة مجموعة العشرين، حافلة بخمس محطات أساسية للاحتجاج، بعضها سبق القمة، وبعضها لحق القمة، وكان بعضها خلال القمة نفسها، وهو ما يكشف عن تخطي الاحتجاج ضد “مبس” الساحة العربية ليعم العالم.

خلال زيارة “مبس” إلى تونس، على هامش اتجاهه للأرجنتين للمشاركة في قمة مجموعة العشرين، جوبه “مبس” بمظاهرات تونسية حاشدة، خلال اليومين 26 و27 نوفمبر /تشرين الثاني 2018، أي يوم الزيارة واليوم السابق عليه.

رفع المتظاهرون لافتات حملت عدة شعارات، كان من بينها “تونس ليست للبيع“، و”الشعب يريد طرد بن سلمان“، “بن سلمان مجرم حرب” و”قاتل أطفال اليمن“. كما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وسمان، كان أحدهما: “لا أهلا ولا سهلا“، أما الآخر فتمثل في “# بن_منشار_يرجع_من_المطار“.

في حين دعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ومؤسسات مدنية لإلغاء هذه الزيارة التي لم تدم أكثر من 4 ساعات، ووضعت قيادة النقابة الوطنية للصحفيين على واجهة مقرها بالعاصمة صورة عملاقة لسعودي يحمل منشارا مع عبارة “لا لتدنيس أرض تونس الثورة“. وكانت منظمات مجتمع مدني أخرى قد شاركت في الدعوة للتظاهرات، من بينها “الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”، و”جمعية النساء الديمقراطيات”.

وفي رسالة مفتوحة للرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي، عبرت نقابة الصحفيين عن “استهجانها لزيارة ولي العهد السعودي، كونه خطرا على الأمن والسلم في المنطقة والعالم، وعدوا حقيقيا لحرية التعبير”، معتبرة الزيارة “اعتداء صارخا” على مبادئ الثورة.

وفي نفس السياق، رفعت جمعية النساء الديمقراطيات صورة على مقرها بالعاصمة التونسية، تجسم سعوديا يحمل بيده سوطا مع عبارة “جلاد النساء ليس مرحبا به“. وهو تنويه إلى عدد من المعتقلات السعوديات في سجون المملكة، واللاتي تسرب خبر الاعتداء عليهن بالسياط، والتعذيب بالكهرباء، وبلغ الأمر حد تهديدهن بالاغتصاب.

غير أن الموقف من الحريات ومن السياسة التدخلية لقيادات محور الثورة المضادة، لم يكن المحرك الوحيد للاحتجاجات، فقد كانت القضية الفلسطينية، ومساعي “مبس” للتطبيع مع الكيان الصهيوني باعثا آخر لهذه التظاهرات.

ففي هذا السياق، نظمت عدة جمعيات مدنية وشخصيات سياسية وقفة احتجاج للتعبير عن رفضها للزيارة، والتنديد بابن سلمان بسبب سعيه للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

ولم يكن ما فعلته كل من الإمارات والسعودية باليمن خارج حسبان قطاع واسع من التونسيين، بحكم الانتمائين العروبي والإسلامي العابرين لحدود “سايكس – بيكو”. حيث صرح الرئيس الشرفي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، مختار الطريفي، لوسائل إعلام تونسية بقوله: “نطلب من حكومتنا ورئاسة الجمهورية عند إصراره على استقبال محمد بن سلمان أن يقول له ما يجب أن يقال بصوت عال، وهو أننا نرفض هذا العدوان على اليمن، ونرفض انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، ونرفض انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية وغيرها”.

كما صرح المدير الإقليمي للمغرب الكبير بالشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، رامي الصالحي: “طالما أن السعودية متورطة في عملية مقتل خاشقجي وما يقع في اليمن وفي غير اليمن.. نحن نرفض هذا رفضا مطلقا”.

ومن جهة ثانية، تكاد الإمارات تكون محورا في كل تظاهرات التونسيين، سواء الداعية لإصلاحات داخلية أو الخاصة بدعم أي من الشعوب العربية، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.

غير أن أبرز الحشود التونسية ضد الإمارات، ما شهدته تظاهرات يونيو /حزيران 2018، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي أشرنا إليها سابقا، حيث اندلعت تظاهرات واسعة للتنديد بـ”التدخل في شؤون تونس”، والرافضة لـ”محاولة الانقلاب الإماراتية الفاشلة”.

الأخبار تسربت للشارع التونسي بعد التقرير الذي نشره موقع “موند أفريك” الفرنسي عن اجتماع “سري” جمع وزير الداخلية التونسي المُقال لطفي براهم ورئيس المخابرات الإماراتي في جزيرة “جربة” جنوب شرق تونس قبل شهر من اندلاع هذه التظاهرات.

أبرز التجمعات كانت في العاصمة، في شارع الحبيب بورقيبة، قبالة وزارة الداخلية التي تزعَّم وزيرها المحاولة الانقلابية، وردد المتظاهرون شعارات عديدة على غرار “تونس.. تونس حرة.. حرة والانقلابي على برة“، و”لطفي براهم يا جبان يا عميل العربان“.

ووصف المتظاهرون حكام الإمارات بـ”عربان الثورة المضادة“، داعين إلى حماية البلاد من المكائد التي تتربص بها، وطالبوا برحيل السفير الإماراتي من تونس، وبمعاقبة لطفي براهم الذي أصبح “يمثل خطرا على أمن البلاد واستقرارها، ومسار ثورتها ومكاسب ديمقراطيتها”، بحسب تصريح الرئيس التونسي الأسبق “المنصف المرزوقي”.

وبينما كانت الإمارة الخليجية تتقدم لتونس بعرض مساعدة في مواجهة “فيروس كوفيد 19″، كان التونسيون يحذرون حكومتهم من الاصطفاف معها في الحرب الأهلية الليبية.

ومن أهم المؤشرات المعبرة عن الروح الشعبية الرافضة لنفوذ الإمارات في تونس كذلك، موقف النواب التونسيين من حملتي عزل وسحب الثقة من رئيس “مجلس نواب الشعب” التونسي راشد الغنوشي، وهما الحملتان الممولتان إماراتيا، حيث رفض نواب المجلس الحملتين، رغم أن الكتلة البرلمانية لـ”حركة النهضة التونسية” لا تتجاوز 25% من أعضاء المجلس (54 من بين 217 مقعدا).

______________

مواد ذات علاقة