بقلم أحمد قاسم حسين

أعلنت حكومة الوفاق الوطني الليبية، المدعومة من الأمم المتحدة، وقفَ إطلاق النار في جميع أنحاء ليبيا، وأصدر رئيسها فايز السراج تعليماتٍ إلى القوات التابعة لحكومته مفادها الالتزام الفوري بوقف إطلاق النار، وإنهاء جميع العمليات القتالية في جميع أنحاء الدولة.

الجزء الثاني

من خلال نظرة فاحصة إلى المشهد العسكري في ليبيا، نخلص إلى أن القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني، والفصائل المتحالفة معها، ليس لديها القدرة العسكرية على تحقيق وبسط سيطرتها على سرت والجفرة، والاستمرار في التقدم شرقًا للسيطرة على المنطقة الممتدة من الهلال النفطي إلى الحدود المصرية.

ويمكن إرجاع ذلك أساسًا إلى البنية العسكرية لقوات حكومة الوفاق الوطني، فهي ليست جيشًا نظاميًا، بل إنها مزيجٌ من بقايا الجيش الليبي، ومجموعة من الفصائل المتحالفة في طرابلس ومحيطها؛ إذ يوجد في المنطقة الغربية عدد كبير من الكتائب المسلحة ذات المشارب الأيديولوجية والسياسية والجهوية المختلفة، ويوجد فيما بينها خلافات وتناقضات كثيرة وصلت إلى حدِّ الاحتراب، على نحو يجعل رَصْد خريطة تحالفاتها وأسباب تحركاتها الميدانية أمرًا صعبًا.

كما تميزت علاقتها بحكومة الوفاق بالتوتر؛ فتارة تكون قريبة منها، وتارة أخرى تدخل في نزاع وخلاف سياسي معها. لذا، فإنّ أقصى ما تطمح إليه قوات حكومة الوفاق، بعد دحر قوات حفتر، هو الدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها والحفاظ عليها.

إضافة إلى أن مغامرة حفتر في المنطقة الغربية مثّلت درسًا مستفادًا لقوات حكومة الوفاق الوطني؛ فقد أخفق حفتر في بسط سيطرته على طرابلس ومحيطها، على الرغم من محاولاته الحثيثة المتعلقة ببناء تحالفات قبلية – جهوية سهّلت آنيًّا سيطرته على بعض المناطق، وكذلك الدعم الكبير، العسكري والمالي والسياسي، من جهة الإمارات والسعودية ومصر، واستعانته بمرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية، وعناصر من قوات الدعم السريع السودانية التابعة لمحمد حمدان دقلو (حميدتي).

وبناءً عليه، يدرك طرفَا الصراع في ليبيا أن بسط السيطرة على ليبيا هدفٌ بعيد المنال؛ فالدولة الليبية هشة فاقدة القدرة على ممارسة مهمّات الحكم الأساسية ووظائفه، وفاقدة أيضًا القدرة على تأسيس علاقة ذات معنى وإيجابية مع المجتمع، كما أنها تعرّضت لهزّات داخلية شديدة أدّت إلى انهيار معظم مؤسساتها؛ ما تسبب في استياء شعبي واسع في الأقاليم الثلاثة التي تشكل ليبيا؛ برقة، وطرابلس، وفزان.

لقد قاد الصراع الدائر في ليبيا إلى استنزاف أصول الاقتصاد الليبي ومقدراته، وتراجعت إيرادات النفط على خلفية تدني الإنتاج، وساهمت معارك السيطرة على الهلال النفطي في ازدياد تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد؛ إذ قدرت المؤسسة الوطنية للنفط خسائر ليبيا بنحو 9 مليارات دولار أميركي من جرّاء إغلاق حقول ومنشآت نفطية من جانب قوات تابعة لحفتر منذ كانون الثاني/ يناير 2020، في بلد معظم إيراداته من قطاع النفط.

وأصبح المواطن الليبي يفتقد أبسطَ مقومات الأمن والاستقرار، ويعاني أزمات شحّ المياه وانقطاع التيار الكهربائي، وشبه انهيار في النظام الصحي بسبب أزمة كورونا؛ إذ شهدت ليبيا تفاقم الوضع الوبائي خاصة في مدينتَي طرابلس ومصراتة، وكذلك الجنوب، وفق بيانات المركز الوطني لمكافحة الأمراض، وهو ما يعرض شرعية طرفَي الصراع الليبي للخطر.

في هذا السياق، جاءت دعوة وقف إطلاق النار انطلاقًا من ثقة طرفي الصراع بعدم قدرتهما على الحسم بالقوة؛ فلا حكومة الوفاق الوطني في طرابلس قادرة على ذلك، ولا مجلس نواب طبرق المدعوم من حفتر لديه القدرة العسكرية على تحقيق النصر الكامل، وهذا ما قد يمثل أرضية مناسبة للعودة إلى مسار الحل السياسي، ويسهم في الوقت ذاته في عقلنة حسابات الأطراف المحلية في ليبيا، في ظل تقاطع مصلحة رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، من خلال القبول بوقف إطلاق النار.

ثالثًا: مواقف القوى الدولية والإقليمية

لا يخفى حجم التدخلات الدولية والإقليمية في مسار الأزمة الليبية من خلال الدعم العسكري والسياسي الذي تقدمه العديد من الدول إلى الفرقاء الليبيين. وتسود حالة من التناقض في مقاربات تلك الدول لحل الأزمة الليبية، وتوجد مؤشرات عديدة على حالة عدم التوافق فيما بينها تجاه مسار الأحداث في ليبيا.

دوليًّا، لم تُظهر الولايات المتحدة علامات التأثير الفعلي في مسار الأزمة الليبية يتناسب مع حجمها وثقلها بوصفها قوةً عظمى، وبدا الموقف الأميركي تجاه ليبيا غير مبالٍ؛ ما ساهم في زيادة حجم اللاعبين الدوليين والإقليميين، ومن بينهم حلفاء لواشنطن (تركيا، ومصر، والإمارات، وفرنسا، وإيطاليا)، وفي تعقيد المشهد الليبي.

وفي حين لم تُبدِ إدارة الرئيس دونالد ترامب أي اهتمام في تحقيق تسوية سياسية، فإن إدارته رحّبت ببيانَي وقف إطلاق النار، على غرار ترحيبها بمبادرات وبيانات صدرت حول الأزمة الليبية، ودعت جميع الفصائل في ليبيا إلى دعم المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة، من أجل وقف إطلاق نارٍ مستدام والموافقة على العودة الفورية إلى المفاوضات السياسية التي تسهّلها الأمم المتحدة.

أما الاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من تأييده وقف جميع الأنشطة العسكرية في جميع أنحاء ليبيا، وتشديد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة والأمنية، جوزيف بوريل، على مغادرة جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب الموجودين في ليبيا، واستئناف عملية التفاوض في إطار عملية برلين التي تقودها الأمم المتحدة، فإن بروكسل لم تستطع تقديم مبادرة سياسية متكاملة عبر المؤتمرات التي تناولت الشأن الليبي في عدد من عواصم ومدن دول الاتحاد الأوروبي (باريس، وباليرمو، وبرلين)؛

ذلك أن التنافس الفرنسي- الإيطالي على النفوذ والسيطرة في ليبيا مثّل عاملًا حاسمًا في عدم قدرة الاتحاد، بوصفه منظمة دولية، على تحقيق تقدم في مسار الأزمة الليبية.

وقد اكتفى الاتحاد بالحفاظ على مقاربة أمنية بحتة تجاه الأزمة الليبية، من خلال ضبط حدود ليبيا الجنوبية والشمالية والسيطرة عليها؛ بهدف ضبط الهجرة غير النظامية وما يرتبط بها من تهديدات أمنية وتداعيات اقتصادية، باعتبارها أولوية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء.

وفي ظل غياب الدور الأميركي، وارتباك في الدور الأوروبي، دخلت روسيا على خط الأزمة الليبية من خلال دعمها قوات حفتر، وهي ترى في وقف إطلاق النار مصلحة لها من خلال حفاظها على نفوذها في إقليم برقة، ثمّ إنّ روسيا، في هذه الفترة، لا تطمح إلى تصعيد علاقاتها بتركيا، وهو أمر حيوي بالنسبة إلى دور روسيا في سورية، حيث بدد الجانبان، التركي والروسي، خلافاتهما بشأن الأزمة الليبية في مطلع عام 2020، من خلال مباحثات مطولة بين مسؤولي الدولتين حول الأزمة الليبية.

وكانت نتائج هذا التنسيق دعوة روسيا طرفَي النزاع في ليبيا إلى محادثات في كانون الثاني/ يناير 2020، لكن من دون توصلٍ إلى اتفاق بينهما.

إقليميًّا، تسعى كل من مصر والسعودية والإمارات، من خلال تقديم كامل الدعم السياسي والعسكري لحفتر، إلى الحفاظ على الوضع القائم حاليًّا، وتثبيت خطوط المواجهة مع قوات حكومة الوفاق الوطني في سرت والجفرة بعد هزيمة حفتر في طرابلس ومحيطها.

أما تركيا، الحليف السياسي والعسكري لحكومة الوفاق الوطني، فهي راضية عن التقدم العسكري الذي حققته قوات الوفاق والفصائل المتحالفة معها.

وبناءً عليه، لا توجد مصلحة لدى تركيا ومصر لرفع مستوى المواجهة العسكرية استنادًا إلى تقديراتهما القوة العسكرية لحلفائهما في ليبيا، ولا سيما أن رفع مستوى هذه المواجهة بين قوات الوفاق وقوات حفتر في سرت ومحيطها سيتطلب من تركيا ومصر، ومن يساند الأخيرة (الإمارات والسعودية)، زيادة الدعم المالي والعسكري لحلفائهما.

وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من التأزم في العلاقات بين مختلف الأطراف، ولا  سيما أنها في أسوأ مراحلها نتيجةً للاختلافات تجاه قضايا عديدة في المنطقة، أهمها التصعيد بين تركيا من جانب، وقبرص واليونان وإسرائيل ومصر من جانب آخر، بشأن الحقوق الاقتصادية في شرق البحر المتوسط.

لذا، لا تطمح تركيا إلى مزيد من التصعيد في المرحلة الحالية في الساحة الليبية، وخصوصًا أنها حققت هدفين استراتيجيين من تدخلها في الشأن الليبي؛ هما اتفاقية تعيين حدود المناطق الاقتصادية الخالصة، والامتياز المحتمل لاستخدام قاعدة مصراته البحرية.

كما أن مصر، الداعم العسكري والسياسي الرئيس لحفتر، راضية أيضًا عن الحفاظ على خط المواجهة الحالي والسيطرة الكاملة لقوات حفتر على منطقة الهلال النفطي؛ فمصر لا تريد الزج بوحدات جيشها في صراع طويل الأمد، وهو ما سيكون له تداعيات على نظام الحكم السلطوي الذي يعتمد على نحو أساسي على إحكام قبضة الجيش على كافة النشاطات الاقتصادية والسياسية في الدولة.

وبناءً على ذلك، تُعدّ الإمارات الفاعل الوحيد الذي يمكن أن يكون غير راضٍ عن الهدنة، وهي التي تجد في التقسيم الفعلي للبلاد السبيل الأمثل لتعزيز مصالحها الاقتصادية.

خاتمة

على الرغم من وجود مجموعة من العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تدفع نحو تثبيت خطوط المواجهة ووقف العمليات العسكرية، فإنها لا تدل على أننا سنكون أمام تسوية سياسية وحل للأزمة الليبية، ونتبيّن ذلك من خلال صياغة كل طرف لبيانه على نحو يتمسك بمقاربته لحل الأزمة الليبية.

لذا، فإن الدعوة إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار ترتبط بالحسابات السياسية والعسكرية للطرفين المتصارعين في ليبيا؛ فمن غير المرجح أن تتمكن حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ومجلس النواب في طبرق من إقناع الفصائل والكتائب المسلحة بتسليم أسلحتها لتشكيل جيش موحد وقوة أمنية، وتخفيف التوتر في خطوط المواجهة الجديدة في سرت ومحيطها.

من ناحية أخرى، يرتبط وقف العمليات العسكرية في ليبيا بالتحولات في المشهد الإقليمي والدولي؛ إذ لا يمكن أن يتمَّ تنفيذٌ فعليٌّ لوقف إطلاق النار في ليبيا من دون كف يد القوى الإقليمية والدولية، فعليًّا، عن التدخل في الشأن الليبي، وإفساح المجال لجهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، كي تتواصل مع القوى السياسية والعسكرية في ليبيا؛ لفتح حوار شامل يفضي في نهاية المطاف إلى اتفاقية تسوية تؤسس لمرحلة انتقالية، على غرار توقيع الاتفاق السياسي الليبي في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015، في مدينة الصخيرات المغربية، الذي جاء بتوافقٍ نسبيٍّ بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، داعمٍ للعملية السياسية في ليبيا.

***

أحمد قاسم حسين ـ باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مدير تحرير دورية “سياسات عربية”، عمل مدرسًا مساعدًا في كلية العلوم السياسية – جامعة دمشق، حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة فلورنسا – إيطاليا. تتركز اهتماماته البحثية في نظريات العلاقات الدولية.

____________

المركز العربي للأبحاث والدراسات

مواد ذات علاقة