بقلم خيري عمر

ظهرت، نهاية أغسطس/ آب الماضي، أزمة كامنة داخل حكومة الوفاق الليبية، ما بين رئيس المجلس الرئاسي ووزير الداخلية.

وعلى الرغم من الطابع التقليدي لمثل هذه الخلافات، فإنها، في حالة ليبيا، تعكس أهمية متزايدة، بحيث إنها تضع البلاد أمام نقطة تحوّل في مسيرتها الانتقالية، فقد تؤدي إلى انفراط السلطة وعدم الوفاء بالتزاماتها.

وبشكل عام، هي تتعلّق بمدى قدرة ليبيا على تطوير إمكاناتها ومؤسسيّتها واحتواء النزاعات الداخلية، وأيضاً، القدرة على الاستجابة للمحاولة الجارية في المغرب لتثبيت وقف الحرب وحل الصراع في البلاد.

إزاء الخلاف حول التعامل مع محتجين في طرابلس، صدر قرار بوقف وزير الداخلية، فتحي باشاغا، عن العمل في 28 أغسطس/ آب، لكنه عاد إلى مزاولة مهامه في 2 سبتمبر/ أيار الجاري، بحيث تم احتواء الأزمة في فترة قصيرة، ما يعكس رغبةً مشتركةً في احتواء الخلاف.

وفي سياق الخلاف الداخلي في حكومة الوفاق، تم تعيين وزير للدفاع ورئيس للأركان، فيما اعتبره بعضهم إضعافاً لوزير الداخلية، غير أنه يمكن النظر إليه استكمالا لوظائف الحكومة والتخصيص الوظيفي بشكلٍ يميز بينها والمجلس الرئاسي، فقد لقي رئيس المجلس، فايز السراج، انتقاداتٍ عندما احتفظ بوزارة الدفاع وقت الحرب، باعتباره خلطاً للمهام التنفيذية بالسيادية، بشكل أربك الأداء السياسي.

وبالتالي، يمكن النظر للتعديل الجديد أنه عملية نشر متجانس للسلطة، فهما، وزير الدفاع وقائد الأركان، ضمن الإطار التنفيذي للحكومة، وأيضاً ينتميان إلى خلفية سياسية، تميل إلى وحدة الدولة وتحسين علاقتها مع العالم الخارجي، وتحترم مصالحه.

بين توقيف وزير الداخلية واستطلاع رأيه أمام المجلس الرئاسي، يمكن ملاحظة وجود ميل نحو الرغبة المشتركة في تجنب الوصول إلى انقسامٍ يؤدّي إلى تفكّك الحكومة.

وقد بدا ذلك واضحاً في استجابة باشاغا للمساءلة التي انتهت في وقت مناسب، ولم تؤدّ إلى تصدّع الوضع السياسي، ولعل النقطة المهمة أنه لم تصاحب التوتر القصير الأمد حالاتٌ مماثلة للصراع المناطقي ما بين المكونات المسلحة، والتي كانت تتكلم في السابق متذرّعة بالخطاب المحلي الجهوي، طرابلس للطرابلسيين، ما قد يشير إلى تغير ما في ذهنية تجاوز المواقف التقليدية القائمة على الاستبعاد الاجتماعي.

على أية حال، تجاوزت حكومة الوفاق مشكلة داخلية في وقت قصير، ما يعدّ ملمحاً أساسياً لمرونة التكيف مع التحدّيات الداخلية، لكنه على مستوى التركيبات السياسية على مستوى الدولة، يمكن ملاحظة الفروق ما بين السلطات، من حيث التساند الداخلي، فمن جهة هناك تماسك في المجلس الأعلى للدولة، وأيضاً، زخم مجلس النواب في طرابلس (84 عضواً).

ومن جهة أخرى يبدو الوضع في شرق ليبيا مختلفاً، فهناك تباين واسع بين مكوناتها، كما تبدو متراجعة في تماسكها البنيوي، فمن جهة، تتزايد الفجوة ما بين رئيس مجلس النواب في طبرق و”قائد الجيش”. ومن جهة أخرى، يتراوح عدد الأعضاء المتفاعلين مع جلسات مجلس النواب حول 35 عضواً من إجمالي 188 عضواً، ويتصرّف اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، بطريقة أقرب إلى العصيان والتمرّد على سلطة مجلس النواب.

وقد شكلت مثل هذه الحالات ملامح تعثر المسار الانتقالي.

وهنا، تبدو التحدّيات أمام ليبيا ماثلة في غياب كتلة حرجة مساندة للجهات التنفيذية، وخصوصاً ما يتعلق باختلاف أهداف حاملي السلاح، وهو وضع موروث من فترة ما قبل اتفاق الصخيرات الموقع في 2015، ولم تتم معالجته، ما أدّى إلى هشاشة الجهاز التنفيذي وتدهور السياسات العامة.

ظهرت هذه المشكلات في الجهات الأمنية والعسكرية، وتحولت إلى دوائر نفوذ في المؤسسات العامة.

تدخلنا هذه المناقشات إلى الاقتراب من التحدّيات التي تواجه بناء السلام، ففي شكل أساسي، ورثت حكومة الوفاق حالة منقسمة للجماعات المسلحة، زادت حدّتها، فيما بعد، لتهديد السلطة والمشروع السلمي للدولة.

تفاقمت هذه الانقسامات على خلفية تنامي التطلعات العسكرية لخليفة حفتر، وانقسام البلاد ما بين فرق عدة، يسعى كل منها إلى إثبات جدارته الجهوية، فقد شكلت هذه التناقضات ملامح مرحلة ما بعد “الصخيرات”، بحيث آلت مراميها إلى تعطل السلطة وتشتت المجتمع. 

حالياً، التحدّي الأهم، أن ليبيا، في استئناف المعارك مرة أخرى، سوف تكون أمام جولةٍ طويلة من الحرب الأهلية، بما يعكس، في المقام الأول، تضاؤل القدرة على الاستفادة من ميراث الأزمة وتداعياتها المهلكة.

قد تشجع الهدنة الهشّة على فلتان السلاح، وتدهور حوكمة المؤسسات، فمغايرة حفتر قرار رئيس مجلس النواب تمثل نوعاً من الخروج على “السلطة”، وغياب معايير المسؤولية السياسية.

حتى الآن، لا تبدو هناك مبرّرات قانونية أو سياسية لعدم الالتزام بإعلانات وقف الحرب، سوى أن تكون تعبيراً عن القلق من العزلة. غير أن عدم حدوث انتهاكاتٍ جسيمةٍ منذ إعلان وقف إطلاق النار، 20 أغسطس/ آب الماضي، يمكن تفسيره بعاملين:

الأول، أن تقارب المواقف الدولية تجاه التهدئة ووقف الحرب كشف الغطاء عن الساعين لإشعال المعارك وجعلهم في موضع الرقابة.

والثاني، المكونات المسلحة الليبية وصلت إلى حالة إعياء، وصارت في حالة أقرب إلى الاستسلام لقرار وقف إطلاق النار.

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى تصريحات فريق حفتر محاولة ترويج لمعارك إعلامية، من دون قدرةٍ على تغيير المشهد العسكري أو السياسي.

ولأجل استكمال خريطة الديناميات السياسية، فإنه على مستوى موقف الأحزاب السياسية، يمكن الإشارة إلى اهتزاز البنية الحزبية، لعدة أسبابٍ ليس هنا مجال تناولها.

على أية حال، لقي وقف إطلاق النار ترحيب حزبي “تحالف القوى الوطنية” و”العدالة والبناء”، مع اختلاف في محتوى التناول، فقد ركّز التحالف، في 21 أغسطس/ آب على العوامل الخارجية لتهدئة الأزمة السياسية عبر استكمال مسار برلين. وفي بيان لاحق، 25 من الشهر نفسه، طالب بتسريع الحوار السياسي.

أما من جهة “العدالة والبناء”، فيمكن ملاحظة تطور موقفه إزاء خليفة حفتر، حيث انتقل من رفض أي دور له، حسب بياناته السابقة، إلى مطالبة الجهات الدولية بضبط سلوكه وإلزامه بالاتفاقيات المقبلة، وتوفير ضمانات تمنع الإخلال بها، 21 أغسطس/ آب، ما يشكل انتقالاً نحو السياسات التصالحية.

ولعل النقطة الأكثر أهمية تتمثل في اعتبار الحوار بين مجلسي الدولة والنواب طريقاً للتمهيد للترتيبات الأمنية والتسوية السياسية.

ومنذ بداية العام الجاري، دخل تحالف القوى الوطنية في حالة كسل لا إرادي، بعد تركيز الاستثمارت الدولية على خليفة حفتر بوصفه “رجل الدولة القوي”، ما أدى إلى إفشال محاولات التحالف المتكرّرة لحجز مكان في النطاق السياسي، وهو ما انعكس في التناول المقتضب للأحداث السياسية، فيما يتسع، على الوجه الآخر، تناول “العدالة والبناء” للمشكلات السياسية، بدايةً من وقف الحرب وانتهاءً بعودة النازحين وبناء العلاقات على أساس الاحترام المتبادل لمصالح كل الدول.

وفق المعطيات الحالية، لا تتمتّع الأحزاب السياسية بقدرة كافية لملء الفراغ السياسي. ولذلك تبدو أهمية استصحاب نمطين من الحلول.

الأول، النظر إلى الحاضنة الاجتماعية في المرحلة الانتقالية من وجهة التساند الاجتماعي والسياسي، أرضية لاحتواء الصراع المسلح، وطي مرحلة التنافر بين القبيلة والأحزاب الناشئة.

والثاني، يتمثل في تبنّي سياسة انفتاحية للإدماج المدني والعسكري للمسلحين، بسيرٍ متوازٍ مع المسارت الأخرى، حيث تشير الخبرة السابقة إلى أن تجاهلها ظل مصدراً لعدم الاستقرار والانفلات الأمني.

بشكل عام، قد يساعد تماسك حكومة الوفاق والجهة التشريعية في إحباط محاولات حفتر لخرق وقف إطلاق النار، لكنه لا يعدّ شرطاً كافياً، إذ لا بد من توفر عوامل مساندة داخلياً وخارجياً، في مقدمتها وضوح خريطة طريق للانتقال من التهدئة إلى السلم، واستقرار مواقف البلدان المتضامنة بشأن وقف الحرب.

وفي هذا السياق، تكمن أهمية اجتماعات طرفي الجهة التشريعية الليبية في المغرب في تقديم حلول مستقلة ونزيهة للخروج من الحرب، وهو احتمالٌ تسنده عوامل خارجية وداخلية، تعمل على وقف الاستنزاف المشترك لكل منها.

****

خيري عمر ـ استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .

___________

مواد ذات علاقة