بقلم باسل درويش

نشر موقع “ميدل إيست آي” تحقيقا، أعده دانيال هيلتون، تحت عنوان “حقول الموت في ترهونة الليبية”، حيث كشف فيه عن جرائم الحرب التي ارتكبها مقاتلو قوات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر.

وتاليا نص التحقيق كاملا كما ورد في “ميدل إيست آي”:

الجزء الأول

في مزرعة عائلة هرودة، اختفى عمال الزراعة لتحل محلهم فرق الطب الشرعي، التي يرتدي أفرادها ملابسهم الواقية البيضاء، التي تبدو ناصعة مقارنة بتربة الموقع المغبرة التي يقترب لونها من لون الصدأ. هنا، وهناك، وضعت علامات بالطبشور لتحديد الأماكن التي سيجري حفرها، وكأنك أمام ملاعب كرة قدمة مرعبة. كما ثبتت رايات مثلثة صغيرة على حواف حفر ضحلة، تشير كل واحدة منها إلى مكان تم فيه العثور على جثث.

عن أمواتها تبحث ترهونة، تلك البلدة الريفية الواقعة على مسافة ستين كيلومترا جنوب شرق طرابلس – حيث تكسو أشجار الزيتون تلالا منخفضة مطلة على السهل الساحلي الليبي.

تم على مدى ما يقرب من شهرين ونصف إخراج ما يقرب من ثمانين جثة من الأرض، ستة وخمسون منها كانت مدفونة في مزرعة آل هرودة وحدها. يعتقد المسؤولون أن ثلاثة أضعاف هذا العدد من الجثث ربما مازال مدفونا تحت حقول وبساتين ترهونة.

يقول عمدة البلدة محمد علي القشير: “مازال أمامنا حفر كثير. لا يتجاوز ما تم حفره عشرين بالمائة من هذه المنطقة. أناس من كل الخلفيات تعرضوا للقتل ودفنوا ههنا، بما في ذلك طفل في العاشرة من عمره. نكتشف جثثا جديدة كل يوم. بل إن أحد الرجال تم دفنه هو وسيارته، ويداه مقيدتان بإطار القيادة.”

تبحث فرق التنقيب عن كل ما يشير إلى وجود جثث مدفونة، مثل التغيرات الكيميائية في التربة، وأكوام التراب المكدسة بالقرب، والروائح المنبعثة من المخلفات.

في قبرين من القبور التي عثر فيها على جثث في اليوم السابق، خط الدم والأنسجة المتحللة أشكال الضحايا داخل التربة. بينما تنبعث الروائح الكريهة من الموقع، تقوم فرق الطب الشرعي بنخل التربة بحثا عن فتات عظم أو كومات شعر.

تعيش ترهونة حالة من الصدمة، وتعاني من ندوب عاطفية أعمق بكثير من تلك الصدوع التي يتم شقها في التربة بحثا عن الضحايا.

بلدة ترهونة التي يقطنها ما يقرب من أربعين ألف نسمة، والتي تشتهر بأراضيها الخصبة التي كان المستعمرون الإيطاليون يعظمون قدرها ويفضلها على غيرها معمر القذافي، تم تحويلها على مدى أربعة عشر شهرا إلى قاعدة عسكرية أطلق منها خليفة حفتر، القائد العسكري المهيمن على شرق البلاد، هجومه المنكوب على طرابلس.

مئات المدنيين قضوا نحبهم في القتال الذي دار حول العاصمة الليبية في الفترة ما بين إبريل / نيسان 2019 ويونيو / حزيران 2020، أما في ترهونة فكان الناس يختفون إذا ما ارتكبوا أدنى مخالفة أو أحاطت الشكوك بولائهم.

عندما استولت القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس على ترهونة في الخامس من يونيو / حزيران، اكتشفت مائة وست جثث مكدسة داخل مشرحة المستشفى المحلي. سرعان ما أدركت السلطات أن في البلدة إضافة إلى ذلك العديد من القبور الجماعية، اكتشف منها حتى الآن ثمانية، أضخمها هو ذلك القبر الجماعي الذي وجد في مزرعة هرودة. تعتقد فرق البحث أن العدد الإجمالي قد يرتفع إلى اثني عشر.

يقول قشير، الذي كلفته حكومة الوفاق الوطني بإدارة البلدية المؤقتة بعد الاستيلاء على البلدة، إن الأمر سيستغرق عاما لحفر جميع المواقع المظنونة، وخاصة في ظل عدم توفر معدات أفضل وعدم وصول دعم دولي. وكان أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس قد دعا إلى إجراء “تحقيق شفاف”، ولكن حتى الآن لم يصل من المساعدة إلا النزر اليسير.

قال قشير بينما كان واقفا يتأمل في حفرة عثر فيها مؤخرا على إحدى عشرة جثة: “من الناحية الدينية ليس هذا دفنا كريما. ذلك هو الذي تفعله داعش. إنها أفعال أناس يشوهون الإسلام. أراد القتلة توجيه رسالة مفادها أن مجرد معارضة القتال في طرابلس كان يؤدي إلى الموت. وكل هذا تم بمباركة من حفتر وحلفائه.”

ترهونة: منصة انطلاق حفتر

على مدى خمسة أعوام، كانت ترهونة تُحكم من قبل ثلاثة أشقاء متعطشين للدماء من عائلة الكاني ومن قبل مليشيا الكاني التابعة لهم، والتي تعرف أيضا باسم اللواء السابع.

كانت عائلة الكاني في الأساس عبارة عن رجال عصابات، أقاموا لأنفسهم في ليبيا ما بعد القذافي إقطاعية داخل هذه البلدة الواقعة غربي البلاد. وما لبثوا أن اكتسبوا أهمية جيوسياسية في وقت مبكر من العام الماضي حينما سعى حفتر لاستخدام منطقتهم منطلقا لشن هجومه على العاصمة الليبية.

وكان حفتر، جنرال الحرب المدعوم من قبل الإمارات ومصر وروسيا والذي يقود مجموعة من المليشيات ضمن ما يسمى الجيش الوطني الليبي، يضع طرابلس نصب عينه منذ وقت طويل.

إلا أنه أخذ على حين غرة حينما قررت المجموعات المسلحة في طرابلس ومصراتة التحالف مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا ومؤازرتها بكل قوة، مما أحبط هجومه وقضى عليه عند مشارف العاصمة.

وبينما كانت رحى الصراع تدور، بادرت تركيا إلى ضخ الطائرات المسيرة والمعدات والمرتزقة السوريين إلى ليبيا، مما رجح كفة القتال بشكل حاسم لصالح حكومة الوفاق الوطني وأدى إلى اندحار الجيش الوطني الليبي في يونيو / حزيران من هذا العام.

خلال تلك الشهور الأربعة عشر، حينما كانت ترهونة تعج بألوية الجيش الوطني الليبي وبالمرتزقة، بدأ حلفاء حفتر من عائلك الكاني يرتابون في السكان الذين كانوا يقهرونهم، وكانت العواقب كارثية على أهل البلدة.

ما لبثت النزعات الإجرامية لدى آل الكاني أن تطورت بسبب جنون العظمة والصراع، وأصبح قمع المعارضة – سواء كانت حقيقة أو متوهمة – حدثا يوميا اختفت بسبب عائلات بأكملها.

باتت تذكارات جرائم القتل موجودة اليوم في كل حي تقريبا، وفي كل مزرعة.

توجد قريبا من موقع بناء لم يتم بعد مسحه بحثا عن جثث ضحايا ثلاجة ملقاة ملطخة من داخلها بالدماء الجافة.

وفي مكان آخر، توجد سيارة بيضاء مرشومة بثقوب الرصاص يبدو أن قائدها فقد السيطرة عليها فاصطدمت ببعض الأشجار. إلى جانبها حذاء أسود، زوج من الكعب العالي، وعقدة من الشعر، وذلك كل ما تبقى من أثار ركاب تلك السيارة.

تقاطعات شوارع ترهونة التي تموج الآن بالحركة كانت ذات يوم مسرحا لنقاط التفتيش التي كان ينصبها آل الكاني، حيث تقوم مليشيات الجيش الوطني الليبي بسحب الرجال بشكل تعسفي من سياراتهم بسبب أي مخالفة قد تنسب إليهم، ليكون ذلك آخر العهد بهم.

كان أحد الشوارع قريبا من حقل مفتوح يعرف باسم “مثلث الموت” هو المكان المفضل لتنفيذ عمليات الإعدام بلا محاكمة. وكان بإمكان السكان المقيمين في الأحياء المجاورة مشاهدة عمليات القتل.

معظم الجثث التي وجدت داخل المستشفى تم التعرف على هويات أصحابها، بما في ذلك الأطفال. ولكن من بين الذين تم سحبهم من تحت الأرض لم يتم التعرف إلا على اثنين، بما في ذلك رجل في الستينيات من عمره كان قد ألقي به داخل بئر.

حجم القصص المرعبة التي يسردها أهل ترهونة لا يكاد يطاق، فأي حديث عابر يكشف لك كيف أن مواطنا واحدا قد فقد عددا من أشقائه أو أبناء عمومته أو أعمامه. مئات الأطفال باتوا أيتاما بعد أن فقدوا آباءهم.

ثمة شعور بالارتياح لأن الجيش الوطني الليبي وآل الكاني قد رحلوا، ولكن تبقى الريبة منتشرة على نطاق واسع سواء بين أهل البلدة بعضهم مع بعض أو تجاه مؤسسات الدولة بشكل عام.

طبقا للهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين، والتي تتخذ من طرابلس مقرا لها، فقد تم التبليغ عن فقدان 270 شخصا تقريبا في ترهونة. إلا أن الدكتور محمد زلتيني مدير التعاون الدولي في الهيئة يقدر عدد من فقدوا ومن لم يبلغ عنهم بعد بما يزيد عن مائة وخمسين، في وقت تهيمن فيه حالة من الترقب داخل البلدة خشية من أعمال الانتقام.

فعلى الرغم من هروب آل الكاني في يونيو / حزيران، إلا أن التهديد الذي يشكلونه مازال قائما.

يشكو السكان من أنهم يتلقون مكالمات هاتفية من الأشقاء يهددونهم فيها بالانتقام إذا ما تم الكشف عن جرائمهم، ويتوعدونهم بالعودة من منفاهم في المنطقة الشرقية من ليبيا حيث يفرض حفتر سيطرته.

حكم الأشقاء من آل الكاني

للوهلة الأولى، لا يشبه محمد الكاني جنرالات الحرب. إنه الشقيق الأكبر، وهو أهدأ الأشقاء السبعة وأفضلهم تعليما، وهو الوحيد من بينهم الذي كان يعمل في وظيفة تدر دخلا جيدا في الخدمات الأمنية التابعة لشركة النفط المملوكة للدولة.

ولكن خلف الواجهة التي تبدو وديعة توجد شخصية لا تعرف الشفقة ولا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يصدر عنها من سلوك، يمكن لمن يأتيه ملتمسا منه أمرا أن يلقى حتفه أو يجد لديه ضالته.

في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال جلال حرشاوي، المحلل السياسي والخبير بشؤون ترهونة: “كان هو العقل المدبر، وصار مثله مثل الشيخ، أو مثل آل باتشينو في فيلم العراب. كان محمد دائم التفكير، ولم يكن من النوع الذي يحتاج بالضرورة إلى تلويث يديه. أما الأشقاء الآخرون فكانت تناط بهم المهام العملية، بينما كان محمد هو العقل الذي يقف من وراء تدبير تلك المهام العملية. إذا حاورت محمدا، لا تشعر بعد أن تغادره بأنك كنت تحاور شخصا يتحدث كرجل عصابات، كشخص يوجد تحت قدميه مئات الجثث.”

إلى جانبه هناك محسن، الرجل العسكري القوي الذي قاد هجمات مليشيات الكاني على طرابلس أثناء هجوم حفتر وكذلك في صيف 2018 عندما شن آل الكاني هجوما على العاصمة بسبب شجار حول إيرادات الدولة.

بسبب إلحاحه واستقلاليته وازدرائه لزملائه في الجيش الوطني الليبي، غدا محسن مصدر إزعاج لحفتر، يأخذ من جنرال الحرب أسلحته ولكن يرفض الانصياع إلى أوامره.

أدى هذا التوتر إلى شكوك بأن مقتله في سبتمبر / أيلول 2019، والذي ماتزال ظروفه محاطة بالغموض، كان جزئيا بمساعدة عناصر تابعة للجيش الوطني الليبي. كان موته، وموت شقيق له أصغر منه سنا، قد أشعل غضب آل الكاني الذين سارعوا إلى الانتقام بإعدام العشرات من المعتقلين لديهم.

أما عبد الرحيم الكاني فكان هو الشخص الذي يقود عمليات القمع داخل البلدة، إذ كان دوره داخل ترهونة، حسبما يصفه جلال الحرشاوي، أشبه بدور مدير المخابرات أو قائد الشرطة السرية.

كانت مهمة حليق الرأس المتنفذ عبد الرحيم تتمثل في الحفاظ على مكانة آل الكاني داخل ترهونة، وهي المكانة التي ما لبثت تتضعضع بشكل متزايد كلما طال أمد الهجوم على طرابلس.

كان آل الكاني يحصلون على الثروة من مصادر متعددة، إذ كانوا يملكون مصنعا للإسمنت، وأراض زراعية، وكانوا يقتطعون جزءا من الأموال التي كانت طرابلس تبعث بها للبلدية. كما فرضوا على الناس إتاوات مقابل الحماية، ومارسوا الابتزاز، وكانوا يأخذون فدية مقابل إطلاق سراح الناس الذين كانوا يخطفونهم عشوائيا.

ولكن مثلهم في ذلك مثل عصابات المافيا، كان آل الكاني يمارسون دور المحسنين، فيوزعون المنح والهبات على سكان ترهونة الذين كانوا يعانون بسبب تدهور الاقتصاد الليبي.

ما بين عام 2015 واللحظة التي انضموا فيها إلى الجيش الوطني الليبي، أمسك آل الكاني ترهونة بقبضة حديدية بعد أن انتزعوها من منافسيهم، وظلوا مهيمنين عليها من خلال عمليات التطهير التي كانوا ينفذونها من وقت لآخر، وقد أثمر نظام حكمهم الصارم عن توفير قدر ضئيل من الاستقرار في البلدة، إلى أن جاء هجوم حفتر.

 يقول الحرشاوي: “لو كنت متواجدا في ليبيا في 2015، فحيثما نظرت وجدت كابوسا. كان الوضع في طرابلس في غاية الخطورة، وكانت داعش متواجدة في سيرت وفي صبراتة، والجثث متناثرة على شاطئ زوارة. كان الوضع مرعبا في كل مكان، إلا في ترهونة حيث كانت الأمور لطيفة والوضع هادئا والحياة آمنة جدا، كما تعرف، مثلما هي الحياة آمنة في كوريا الشمالية.”

راهن آل الكاني على أن دعم حفتر سيزيد من ثروتهم ويعزز مكانتهم. ولكنه كان رهانا خاسرا.

البقية في الجزء الثاني

مواد ذات علاقة