بقلم أبو القاسم علي الربو

يعدّ الدستور القانون الأعلى الذي ينظم القواعد الأساسية، ويحدّد شكل الدولة ونظام حكمها وينظم السلطات العامة.

ظهرت الحاجة إليه بتطوّر الحياة الإنسانية التي فرضت على البشر وضع منظومة متكاملة من القوانين واللوائح، لتسهل عليهم تنظيم حياتهم وعلاقاتهم، فهو العقد المبرم بين الحاكم والمواطن، والذي يكفل للمواطن حقه الطبيعي في عدم ظلم الحاكم، لقدرته على سحب الثقة متى ما أخلّ بهذا العقد.

ولكن يبدو أن الحالة الليبية تمثل استثناء من ذلك، فقد غاب الدستور عن الساحة السياسية الليبية (ولا يزال) طوال حكم القذافي 42 سنة، فقد كان يرى فيه نوعاً من الترف والخداع السياسي الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة على الشعوب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وبحسبه، ليس للدساتير أي قدسية، لأنها ببساطة يمكن تغييرها متى ما شاء الحزب الحاكم، وذلك حسب ما يخدم استمراره في الحكم.

وعلى الرغم من أصوات (بما فيها صوت نجله سيف!) نادت بضرورة وجود دستور يتم الاستفتاء عليه من الشعب، حتى يتم بطريقة واضحة تحديد طبيعة الدور الذي يلعبه القذافي على رأس الدولة، ووضع تعريف دقيق وشامل للمهام والمسؤوليات التي يتمتع بها طوال فترة حكمه.

إلا أنه تجاهل كل هذه الأصوات، متحججا بأن مقولات “الكتاب الأخضر” بفصوله الثلاثة (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) هي خلاصة دساتير العالم حسب زعمه، وأن دوره لا يتعدّى مجرد قائد للثورة، وليست لديه أي صلاحيات، فالشعب هو الذي يحكم، حسب ادعائه الذي طالما رآه الليبيون أمراً يدعو إلى السخرية والضحك.

وقد أدّى غياب الدستور في ليبيا، طوال هذه المدة، إلى تخبّطٍ كثير عاشته الدولة، فالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للأفراد شهدت كثيرا من عدم الاستقرار، فعلى سبيل المثال شهد النظام الاقتصادي (المفترض أن ينظمه الدستور) تخبطا ألقى بظلاله على الحياة الاقتصادية للأفراد، حيث تم، في بداية حكم القذافي، إلغاء التجارة الخاصة، واعتبارها نوعا من الاستغلال (الكتاب الأخضر).

وبناء عليه، تم استبدالها بنظام الأسواق الذي لم ينجح، وشهد فسادا وإخفاقات كثيرة، حتى أصبح حرق الأسواق في نهاية كل سنة، ومع اقتراب الجرد السنوي، عادة جعلت الليبيين يتندّرون بها في مجالسهم، فتم استبداله بما يعرف بنظام “الموزع الفرد“، ثم الجمعيات الاستهلاكية، ثم العودة إلى المربع الأول، حيث سمح النظام، في آخر أيامه، بالتجارة الخاصة بكل أنواعها.

كما أدّت مقولتا “البيت لساكنه والسيارة لمن يقودها”، واللتان جاء بهما “الكتاب الأخضر” إلى حدوث شرخٍ اجتماعي كبير، حيث استغل كثيرون هذه المقولة بقوة القانون، للاستيلاء على أملاك الغير من منازل وسيارات ومتاجر وغيرها، في غياب دستور ينظم النشاط الاقتصادي، وبالتالي يحقق توازنا بين مصلحة المجتمع والفرد، ويحقق عدالة اجتماعية واضحة المعالم.

أما النظام السياسي فلم يكن في أحسن حال، حيث جُرّمت الأحزاب، وحُرّمت المظاهرات، ونُصبت المشانق في الميادين والجامعات لكل مخالف في الرأي، ووضع الإعلام بالكامل تحت سيطرة الدولة، والذي لم يكن له من دور يذكر إلا تمجيد القائد وكتابه الأخضر.

ونسيت غالبية الليبيين أنه، وعند الانقلاب العسكري في سبتمبر/ أيلول 1969، كان هناك دستور يسمى دستور 1951، إشارة الى السنة التي تم إقراره فيها، ويعتبر أول دستور لليبيا، فلم يسبقه إلا الدستور البرقاوي الذي اختص بإقليم برقة سنة 1949.

وقد أشرفت الأمم المتحدة مباشرة على وضعه وإقراره من خلال الدعوة إلى تأسيس لجنة وطنية لصياغته من خلال القرار رقم 289، الصادر في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1949، في الدورة الرابعة لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونص على تعيين مفوض خاص من الأمم المتحدة، وبمساعدة المجلس الذي عرف فيما بعد باسم “مجلس العشرة“، وضم مندوبين من مصر وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وباكستان وفرنسا، إلى جانب مندوبين عن أقاليم ليبيا الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان)، مع عضو يمثل الأقليات المختلفة في تلك الفترة، لتهيئة الظروف المناسبة لصياغة الدستور.

وبالفعل اعتبر دستور 1951 وثيقة حقوقية بالغة الإتقان والاتزان. وكتب مندوب الأمم المتحدة في ليبيا في تلك الفترة، إدريان بلت، في مقال نشرته صحيفة برقة الجديدة في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1953 إنه دستور “توخّى تطبيق الروح الديمقراطية واحترام الحريات الإنسانية. وقد يعترض عليه البعض بأن فيه من المواد ما يلائم أكثر الدول الديمقراطية تطوراً، وهو لا يصلح للشعب الليبي في مرحلته الحاضرة. إنني لا أشاطرهم هذا الرأي، إذ عندما يحصل شعبٌ حديث العهد سياسيا على حكم دستوري، فإن الحكمة تقضي بأن تفسح أمامه المجال في الحقل السياسي، بدلا من تضييق الخناق عليه”.

ولكن هذه الإشادة وغيرها لم تشفع لهذا الدستور، حيث تم إيقاف العمل به مباشرة بعد استيلاء القذافي على السلطة، بل وعدم التفكير في بديل له.

ومع اندلاع انتفاضة فبراير (2011)، كان من البديهي أن تكون مقولات “الكتاب الأخضر” التي حلت محل الدستور أربعة عقود هدفا للمتظاهرين الليبيين الغاضبين الذين أضرموا النار فيها بطريقةٍ عكست الظلم والغبن اللذيْن لحقا بالشعب بسببها، والتي لطالما أجبروا على تعلمها والامتحان فيها، بل وحفظها عن ظهر قلب، رخصةً تمَكن صاحبها من الحصول على ما يريد، ويتبوأ المكانة التي يحلم بها.

وقد أعطى المجلس الانتقالي الليبي، بعد سقوط القذافي، الأولوية للتفكير في إصدار دستور يُستفتى عليه الليبيون، وصدر القانون رقم 17، القاضي بانتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، ونص عليها الإعلان الدستوري الصادر من المجلس سنة 2011، وتم انتخاب الهيئة التأسيسية التي تكونت من 60 عضوا يمثلون أقاليم ليبيا الثلاثة، برقة وطرابلس وفزّان، من الشعب مباشرة يوم 20 فبراير/ شباط 2014.

وكان أول اجتماع للهيئة في 21 إبريل/ نيسان من العام نفسه، بحضور جميع الأعضاء، باستثناء اثنين من مكون الأمازيغ، لم يشاركا في انتخاب الهيئة منذ البداية، اعتراضاً على طريقة انتخاب الهيئة التأسيسية.

وعلى الرغم من أن الانتخابات تمت بطريقة ديمقراطية، ولم تسجل ضدها أي ملاحظات، إلا أن عمل اللجنة واجهته مشكلات وصعوبات كثيرة، لعل أهمها الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية ضد علي الترهوني، والذي تم انتخابه رئيسا للهيئة، باعتباره يحمل الجنسية الأميركية، ما يتعارض مع القانون الليبي الذي يمنع كل من يحمل جنسية أجنبية من الترشح للانتخابات.

وفي 3 يناير/ كانون الثاني 2017، وبعد الفراغ الرئاسي للهيئة، الناتج عن استبعاد علي الترهوني، تم انتخاب نوح عبد السلام الذي استطاع أن يجمع أعضاء اللجنة، في محاولة لحلحلة كل المشكلات التي اعترضت عمل اللجنة، والتي تُوجت بصياغة مشروع الدستور الذي اعتمد في الجلسة العامة للهيئة في 29/07/2017 بأغلبية 43 صوتا من أصل 44 صوتا من الحاضرين، ويتكون الدستور من 12 بابا و197 مادة.

وصرح نوح عبد السلام رئيس الهيئة إن مواد كثيرة تميز هذا المشروع، ومن ذلك استحداث محكمة دستورية مستقلة عن السلطات الثلاث، وأنه يحق للقضاء الليبي محاكمة جرائم الحرب، لأن محاكم القضاء العادي لم تكن مخولة لتحاكم مثل هذه القضايا سابقا، حيث لن تستطيع محكمة الجنايات الدولية، ولا غيرها، أن تطالب بتسليم أي مواطن ليبي، كما يحصل اليوم من مطالبة بتسليم سيف القذافي.

وأكد رئيس الهيئة التأسيسية إنه يجب الدفع، في هذه المرحلة، في طريق واحدة، الاستفتاء على مشروع الدستور الذي صاغته الهيئة التأسيسية في خمس سنوات، على أن تتم الانتخابات على ضوء ذلك.

وقال إن الحديث عن إجراء انتخابات رئاسية في ليبيا قبل الاستفتاء عليها يعني الدخول في مرحلة انتقالية أخرى، وهو ما يجعل البلاد تغوص أكثر في الوحل يوما بعد يوم.

وقد أرجع الأستاذ الجامعي في القانون، الهادي أبو حمرة، التأخر في الاستفتاء على الدستور لأنه يتقاطع مع مصالح الدول الأجنبية التي تقدّم مصالحها على مصلحة ليبيا، ما جعل هذا الاستفتاء غائبا في كل المبادرات التي تقدّمها هذه الدول بشأن القضية الليبية.

وما بين هذه التجاذبات والصراعات والوضع السيئ الذي يعيشه المواطن الليبي في كل المجالات، وانتشار السلاح وانعدام الأمن وغياب القانون، يبدو أن قدر ليبيا أن تبقى من دون دستور فترة أخرى، قد تقصر وقد تطول حسب المستفيد.

وحتى ذلك الوقت، تظل القضية الدستورية محط أنظار الليبيين الحالمين بخروج بلدهم الذي لا يزال يعاني، أكثر من تسع سنوات، من الفوضى والغياب الكلي لأيٍّ من مظاهر الدولة، وسط خشيةٍ من أن يظل المقترح الدستوري رهين الفوضى، ومساعي التقسيم التي أصبحت تظهر على السطح، وتتلقفها الألسن من وقت إلى آخر.

___________

مواد ذات علاقة