بقلم يوسف لطفي

تهدف هذه الورقة لاستعراض الواقع الليبي على الصعيدين العسكري والسياسي على امتداد مراحله السابقة منذ اندلاع الثورة الليبية في فبراير2011 وحتى هجوم 4 إبريل 2019 الذي شنته قوات خليفة حفتر على العاصمة طرابلس وما تبع ذلك من آثار على المشهد السياسي والأمني.

الجزء الأول

هذه محاولةٍ لتقديم رؤية شاملة للأحداث بالمرور على المحطات الرئيسية والفاعلين الرئيسيين خلال السنوات الماضية، وشرح التفاصيل المهمة فيها.

كما سيقدم التقرير في بدايته استعراضًا تاريخيًّا موجزا لفترة حكم القذافي لفهم تركيبة “نظامه” والتغييرات الجذرية التي طرأت على هيكل الدولة وعلاقاتها الخارجية وممارسات نظام القذافي الأمنية وتطور مظاهر الاحتجاج وما صاحبها من تغييرات، والظروف والعوامل الداخلية والخارجية التي مهَّدت لإسقاطه في ثورة 17 فبراير.

***

تعد ليبيا نموذجًا فريدا للدولة في العصر الحديث، حيث ظلت لعقود دولةً بلا دستور أو مؤسسات حاكمة وبلا هيكلية سلطة واضحة ومفهومة، بالإضافة لانعدام الحياة السياسية فيها بشكل تام.

فلم تُجرَ فيها انتخابات من أي نوع خلال مدة ناهزت نصف قرن تقريبا. وكانت الأحزاب والتيارات السياسية مجرّمة بأنواعها. ولم تتأسس حتى أحزاب سياسية مؤيدة للنظام الحاكم.

فوفقًا لفلسفة القذافي التحزب يُعد خيانة، وهو الأمر الذي أفقر الثقافة السياسية في المجتمع، وصنع دولةً تفتقر لأدنى مقومات الشرعية، وخلق مناخا سياسيا سِمَـتُهُ الأبرزُ هي الفوضى استمر طوال حقبة حكم القذافي.

وبتفجر أحداث ثورات الربيع العربي برزت ليبيا كنموذج فريد مرة أخرى لخصوصية حالة الدولة. حيث ورث الشعب الفوضى التي عمت مؤسسات الدولة ونظامها الإداري والسياسي فبرز الاحتياج لخبرات إدارية وسياسية وبيئة خصبة للعمل السياسي وثقافة شعبية تعزز من قيم الوحدة والعمل الجماعي. وهو الأمر الذي افتقدته معظم مكونات الثورة.

شكَّل الانقسامُ التاريخي للبلاد بين الشرق والغرب عاملا مهما في رسم ملامح المشهد السياسي بعد سقوط النظام بالإضافة لعامل انتشار السلاح والتدخلات الخارجية وغلبة المنطق القبلي والجهوي والمصلحة الفردية على العمل السياسي كنتيجة للانقسام الذي عزَّزه النظام بين المكونات الاجتماعية طوال حكمه الذي استمر 42 سنة.

كل هذه العوامل كانت سببا في انقسام البلاد على نفسها وتفاقم حالة من التشظي الاجتماعي والسياسي فأصبح المشهد الليبي عسير القراءة على المتابع من الخارج لكثرة العناصر الفاعلة فيه وافتقادها لنهج سياسي واضح مما دفعها لتغيير ولاءاتها وإعادة التموضع في تحالفات مختلفة مع بداية كل مرحلة جديدة .

أولًا: إنهاء الحياة السياسية في عهد القذافي وتفكيك الدولة

بدأ القذافي حكمه كأي حكم عسكري آخر بتعطيل الدستور وإنهاء الحياة السياسية في البلاد، لكن على عكس غيره من العسكريين لم يعمل القذافي على تقوية مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية ليُحكِمَ بها سيطرته على البلاد.

بل عمل القذافي على تفكيكها وإضعافها عبر تشكيل كيانات موازية لا تملك صفة رسمية ولا تنضوي تحت مؤسسات الدولة كـ “حركة اللجان الثورية” وهي أشبه بتنظيم سياسي خاص يملك صلاحيات غير محدودة ونفوذا كبيرا على كل أجهزة ومؤسسات الدولة تقريبا.

لم تخضع هذه اللجان لأي مؤسسة وكانت تتلقى أوامرها من القذافي فقط -خارج نطاق العمل المؤسسي وبعيدًا عن القانون والقضاء- ويقول عنها منصور الكيخيا في كتابه “ليبيا القذافي، سياسات التناقض” : (قرر القذافي منذ عام 1976 وقبل إعلان ما أسماه قيام سلطة الشعب، تأسيس طليعة سياسية أخذت شكل “لجان ثورية” تتلقى تعليماتها منه وحده، كما تكون مسؤولة أمامه وحده، وتقدم تقاريرها إليه مباشرة وتكون موازية لهياكل السلطة الشعبية و متغلغلة في كافة مفاصلها وتتحكم في حركتها وقراراتها.

وعادة ما تكون للّجان الثورية الكلمة الفصل بالنسبة لموضوعات تتراوح بين ما يجب أن يدرسه الطلاب في المدارس والجامعات أو من يجب اختياره لأي منصب في اللجان الشعبية من قبل المؤتمرات الشعبية الأساسية. لقد تحولوا إلى “مصفاة” مهمتها إزاحة كافة العناصر غير الثورية من جميع المناصب في الحكومة الليبية).

وقد برر القذافي هذه الفوضى والسلطة المطلقة الممنوحة لها بأن الثورة لا تنتهي وأن الكيانات والقيادات الثورية لا علاقة لها بالحكم وإنما تعمل على توجيه المؤتمرات الشعبية (البرلمان) واللجان الشعبية (الحكومة \ الجهات التنفيذية) فهو ليس رئيسا للبلاد وإنما مرشد وقائد للجان الثورية. ويلخص القذافي مهام اللجان الثورية في 7 نقاط أشار لها في مؤتمر 1977:

  1. ترسيخ سلطة الشعب.
  2. ترشيد اللجان الشعبية (الجهات التنفيذية).
  3. تحريض الجماهير على ممارسة الثورة.
  4. تحريك المؤتمرات الشعبية (الحكومة).
  5. الإشراف على تصعيد المسؤولين (أي اختيار المسؤولين).
  6. ممارسة الرقابة الثورية.
  7. حماية الثورة والدفاع عنها.

هذا التنظيم الذي شكله القذافي بانتقاء رجاله ونسائه عبر التنظيم الشعبي في 1970 والاتحاد الاشتراكي في 1971، كان له الدور الأهم في تفكيك مؤسسات الدولة وتشكيل جماهيرية القذافي الجديدة.

وعن هذا يقول ديرك فاندويل في كتابه “ليبيا منذ 1969، عودة لثورة القذافي”: (لقد كانت اللجان الثورية مسلحة بشرعية الثورة وكانت تهيمن على عملية إصدار القرار في كل مؤسسات الدولة تقريبا –باستثناء قطاع النفط والمؤسسة العسكرية- . ومنذ عام 1979 هيمنت اللجان الثورية على الحياة السياسية، وأصبحت مهمتها الأساسية حماية النظام وقد ساهم في هذا تبعية هذه اللجان لمكتب القذافي بشكل مباشر وكونها مكونة من أتباع مخلصين لعقيدة القذافي”

وقد قدَّر الدكتور محمد خلف الله في 2002 أن عدد عناصر اللجان الثورية يقدر بستين” ألف عنصرٍ. وكانت هذه اللجان الثورية مسلحة تسليحا جيدا ومدربة وقد أظهروا كفاءتهم بتصديهم لانقلاب 1984 الذي قامت به الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا .. وقد منح القذافي اللجان الثورية صلاحيات مطلقة في القبض على “أعداء الثورة” والتحقيق معهم وتصفيتهم، كما منحهم صلاحيات قضائية لإنشاء محاكم ثورية والتي أدت لحوادث قتل عديدة من 1980 وحتى 1986).

لعبت اللجان الثورية منذ عام 1977 دورا أساسيا في الفصل بين السلطة الرسمية والسلطة غير الرسمية في ليبيا. وتم توظيفها كأداة لضرب أي مجموعة تهدد النظام بما في ذلك الجيش، ولم تقتصر مهمة التفكيك على كيانات الدولة الإدارية بل توسعت لتشمل كل جهة لا يأمن القذافي جانبها كالصحف، والنقابات العمالية، واتحادات الطلبة، والمؤسسات الخاصة، ..”

” كان القذافي يرى أن الثورة لابد أن تكون شاملة فهي ثورة على كل ما كان قبله من أفكار ومؤسسات ونمط حياة. ومن هذا المنطلق بدأ القذافي عملية إعادة هيكلة سياسية ـ اجتماعية ـ اقتصادية – وفقا لنظرية سماها النظرية الثالثة– بوسائل تباينت بين التصفية والاعتقال ومصادرة الأملاك تارة والخطب والمؤتمرات – التي حلت محل القوانين- وتشكيل كيانات ثورية تؤسس النظام الجماهيري تارة أخرى.

بعد إطلاق القذافي ما سماه الثورة الشعبية في 1973 هاجمت اللجان الثورية الجامعات والمعاهد والنقابات والإذاعة وبقية المؤسسات الإعلامية، كما داهمت المكتبات والسجل العقاري وأحرقت الكتب والوثائق العقارية وهو ما كان بمثابة إعلان بداية عصر الفوضى والتفكك الذي امتد لأربع عقود تقريبا

وبحلول منتصف الثمانينات كان القذافي قد ألغى الدستور، وجرَّم الأحزاب والعمل السياسي، وفكك الجيش والقضاء، وألغى القوانين، وأمَّم الشركات، وأطلق يد اللجان الثورية في عمليات التصفية الجسدية داخل البلاد وخارجها، وجرَّد أكثر من 80 ألف عائلة من أملاكها.

وفكك النقابات العمالية واتحادات الطلبة، وسن قانون العقوبات الجماعية الذي يقتضي معاقبة أسر وأقرباء المعارضين موسعا بذلك رقعة أعداء “الثورة” لتشمل حتى من لم يكن له نشاط سياسي ،فأصبحت البلاد في حالة فوضى تامة.

لم يُبقِ القذافي على أي هامش من الحقوق واتخذ إجراءات راديكالية امتدت لتنال كل من لم يؤمن بنظرياته وكتابه الأخضر. وبهذه الوسائل خلق القذافي دولة ومجتمع يتماشيان مع رؤيته وأحكم قبضته على البلاد عبر زرع اللجان الثورية -التي كان يشبهها بملائكة كتابة الأعمال والصحابي أبي بكر الصديق- في كل مكان وسلطها على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها.

وحتى يُقدِّر القارئ حجم الفوضى ويفهم الحالة النفسية للقذافي والمناخ السياسي والأمني المخيم على البلاد آنذاك سنستعرض أجزاءً من خطاباته في تلك الحقبة:

خطاب للطلبة في 7إبريل 1976:

أريد ثورة ثقافية تغسل مخكم العفن هذا ، وإذا كان عدو الثورة سيقود الطلبة فأنتم جميعا قطيع غنم، أنا قرأت بعض النشرات التي يكتبها بعض الهلافيت من الجامعة، وقد جاء الوقت لقطع أيديهم ثم رقابهم… إن الذي يحدث الآن هو تشكيل “لجان ثورية” في كل كلية من الكليات، تقوم بتصفية القاعدة الطلابية وهيئة التدريس .. إن أرادوها بسلام وإلا فلتكن بالدم .. لابد من تشكيل لجان ثورية في كل مكان ومهمتها تنقية القاعدة الطلابية وتنقية هيئة التدريس.

خطاب في 7 فبراير 1978 :

اللجان الثورية ليست لجانًا إدارية، أو لجانا شعبية كما هو معروف بهذا الاسم، ولكن هي لجان ثورية، لا تصدر قرارات، ولا تعزل، ولا تحبس وتطلق [سراح]، ولا تحاسب، ولكنها تراقب رقابة ثورية، ولا تحاكم أحدا، اللجان الثورية تقيّم تقييمًا ثوريًّا وتقوم بقيادة الجماهير في اتجاه تأكيد سلطة .. إن اللجان الثورية هي التي ستشرف على إعادة اختيار قيادات المؤتمرات الشعبية في جميع أنحاء الجماهيرية. وعلى اللجان الثورية في كل مكان من الجماهيرية أن تستنفر كل قواها، وأن تكون على مستوى هذه المهمة الثورية العظيمة.

خطاب في 9 إبريل 1979:

المطلوب هو سحق أعداء الثورة في الداخل والخارج، من يريد أن يتحدى الثورة من الداخل فهذا أمره مفروغ منه سنداهم موقعه ولو كان مسجدا. وإذا كان في الخارج علينا أن ننتقل إليه في الخارج وننفذ فيه حكم الإعدام. عليكم أنتم اللجان الثورية أن تنفذوا هذا الحكم ولو كان في القطب الشمالي أو الجنوبي .. نحن نعدم الأبرياء أحيانا بقصد إرهاب الجاني الحقيقي الذي قد لا يكون معروفا في تلك الفترة.

البقية في الأجزاء التالية

____________

مواد ذات علاقة