بقلم آمال سليمان العبيدي

كان للثورة الليبية التي انطلقت في فبراير عام2011 خصوصية ميّزتها عن بقيّة التجارب العربية الأخرى خاصة في كل من مصر وتونس، تمثلت هذه الخصوصية في العوامل التي أثّرت لاحقا على طبيعة هذه الثورة ومساراتها المختلفة.

الجزء الأول

ولعل من أبرز هذه العوامل، هو التحول الذي شهده مسار الثورة من انتفاضة سلمية إلى ثورة مسلحة، مما جعل إمكانيات التحول الديمقراطي بشكل سلمي خيارا غير متاح.

كذلك برز الدور الذي قام به التدخل الخارجي لدعم وحماية الانتفاضة في ليبيا ممثلة في قراري مجلس الأمن 1970، و 1973، من أجل حماية المدنيين الذي أضفى على الثورة بعدًا مسلحا تمثل في الغطاء العسكري الدولي، وذلك من خلال تدخل قوات التحالف الذي ساهم في القضاء على نظام القذافي.

كما يمكن القول بأن طبيعة نظام القذافي الذي تميّز بالفردية والإنغلاق، أسهم بشكل ممنهج في تدمير البُنى السياسية المختلفة، نتج عنه فراغاً مؤسسياً ودستورياً استمر لأكثر من ثلاثة عقود، وأثّر بشكل كبير على طبيعة المرحلة الإنتقالية التي تلت حكم القذافي، إضافة إلى تأثيرها على الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية.

وفي هذا السياق، فإنه سيتم التركيز على تأثير المرحلة الإنتقالية لليبيا ما بعد القذافي على القبيلة والأوضاع القبلية كأحد أبرز مكونات البناء الإجتماعي فيها، والتي ما زالت تلعب دوراً هاماً على مختلف المستويات الاجتماعية، والسياسية.

أولا: علاقة القبيلة بالدولة الليبية .. إطار تاريخي

تعتبر القبيلة والعائلة من أهم أبرز المؤسسات الاجتماعية في ليبيا، وعلى الرغم من التحديات التي واجهت القبيلة والنظام القبلي بشكل خاص، والتي منها: تزايد الحضور الحكومي في جوانب الحياة المختلفة، خاصة في الرعاية الاجتماعية. والحركة السكانية من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية.

إلا أن هذه العوامل لا يبدو أنها أثّرت على الدور الثقافي للقبيلة، حيث ما تزال تلعب دوراً مهما في تشكيل الهويات، وكذلك تعتبر الارتباطات القبلية أساس للشرعية السياسية عبر مراحل تاريخ الدولة الليبية المعاصرة منذ تأسيسها في عام 1951، ويبرز تأثيرها واضحا على حياة وسلوك الأفراد، من خلال دورها في التنشئة وفي غرس المعايير الاجتماعية والثقافية.

وفي إطار توضيح علاقة القبيلة بالدولة في ليبيا المعاصرة، يمكن التركيز على مرحلتين أساسيتين الأولى تمثلت في القبيلة خلال فترة حكم القذافي منذ عام 1969 ـ وحتى عام 2011.

ففي المرحلة الأولى، كان للقبائل دور مهم وواضح خلال فترة الحكم الملكي. وتاريخيا برزت الحركة السنوسية، التي كانت أساس الشرعية السياسية للنظام، من مجتمع قائم على القبلية، وكان التطابق والتكافل بين “قبائل السعادي” في إقليم برقة والحركة السنوسية كاملاً.

وفي هذا السياق كانت القيادة السياسية في ليبيا الملكية، تركيبة من عناصر دينية وقبلية وأسرية، ومن العناصر البيروقراطية وخريجي الجامعات، ولقد هيمن عليها طيلة العقد الأول وجزء من العقد الثاني، عناصر محافظة ذات خلفيات قبلية وأسرية ودينية، وكان معظمهم يشغلون مراكز قوية قبل إعلان الاستقلال.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة القبيلة خلال فترة حكم القذافي منذ عام 1969 وحتى عام 2011. وهنا يمكن التركيز على جانبين: الأول تناول نظام القذافي للقبيلة من منظور أيديولوجي، حيث أعتبر النظام القبلي تنظيما اجتماعيا ضروريا للفرد كمصدر للقيم الإجتماعية، وكأداة للتعليم والتنشئة وغرس القيم الاجتماعية.

أما الجانب الثاني فهو تركيز النظام على القبيلة من منظور الممارسة العملية، حيث بدأ ذلك منذ عام 1969 وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وترجم ذلك من خلال جملة من الخطوات التي اتخذها النظام والتي من أبرزها:

تفكيك النخبة القديمة والبنية القبلية وبدأ العداء واضحا في هذه الفترة حيث بذلت جهود للتقليل وإزالة الولاءات القبلية، وذلك بإعادة هيكلة الحدود الإدارية المستندة على الحدود القبلية الفعلية، وعزل جميع المسؤولين المحليين الذين كان معظمهم من شيوخ القبائل أو أقاربهم، وحل محلهم إداريون محليون جدد أصغر سنا وأكثر تعليما وولاءً، وليست لهم روابط مع بنية النخبة القديمة.

وفي مرحلة لاحقة، أصبحت القبيلة جزء من أنشطة النظام السياسي، من خلال الحرص على التعامل مع النظام القبلي واستخدام القبيلة كأداة للتخلص من المعارضة الداخلية الخارجية، فيما عرف بـ “قيام القبائل بحصار الخيانة الاجتماعية”.

وبذلك أصبحت القبيلة جزءً من المشهد السياسي منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، وذلك من خلال خلق مؤسسة استثنائية عُرفت “بالقيادات الشعبية الاجتماعية”، حيث تم من خلالها إعطاء دورا سياسيا واضحا للنخب التقليدية.

ولقد طغت هذه المؤسسة كل منطقة اجتماعيا وجغرافيا، وتم من خلالها تطعيم النخب التقليدية بنخب قبلية جديدة لا يخضعون للمعايير القبلية السائدة فيما يمكن أن يُسمىّ بـ “النظام القبلي الجديد”.

كل تلك الأنشطة سعد إلى عدم تحييد القبيلة، وتحويلها من مؤسسة غير رسمية إلى مؤسسة رسمية وشريك في العملية السياسية.

ولقد اتضح دور هذه المؤسسة الاستثنائية في السنوات الأخيرة من حكم القذافي، حيث تبين أنها المؤسسة التي كادت أن تقوم بعملية نقل السلطة داخل العائلة في إطار مشروع “التوريث”، حين ناشد القذافي الليبيين في إحدى خطاباته أن “يبحثوا” عن وظيفة رسمية لإبنه سيف.

وكان ذلك من خلال اقتراح منصب المنسق العام للقيادات الشعبية الاجتماعية الذي تم النظر إليه في ذلك الوقت بمثابة رئيسا للدولة أو المنصب الذي يماثل رئيس الدولة في دول أخرى.

تم استخدام القبيلة ممثلة في مؤسسة “القيادات الشعبية الاجتماعية” للوساطة بين النظام وبين أسر ضحايا سجن أبوسليم الذي راحوا ضحية القتل الجماعي في 28 و 29 يونيو عام 1996.

وفي عام 2008 تزايد اللجوء إلى القيادات الشعبية الاجتماعية سواءً لإخطار الأسر بوفيات أقاربها أو لمحاولة لإخطار الأسر بوفيات أقاربها أو لمحاولة التوسط في الصلح. إضافة إلى الدور الذي قامت به من أجل التفاوض مع أسر الضحايا لقبول مبالغ التعويضات، والتي تراوحت ما بين 120 ألف دينار ليبي إلى 200 ألف دينار ليبي.

إلا أن كثير من أسر الضحايا لم تقبل بمبدأ التعويض، وكانت من بين مطالبهم الكشف عن مصير هؤلاء الأقارب، وتسليم الرفات إلى الأسر أو الإفصاح عن مكان الدفن، وإصدار شهادات وفاة سليمة بتواريخ وأماكن الوفاة الصحيحة، وزيادة التعويض ليساوي التعويض المقدم إلى ضحايا لوكيربي.

البقية في الجزء الثاني

***

آمال العبيدي ـ استاذ العلوم السياسية بقسم العلوم السياسية، بكلية الاقتصاد، بجامعة بنغازي، واستاذ زائر بجامعة بايرويث بألمانيا، وهي عضو مؤسس لمنتدى الخبراء الليبيين ومن مؤلفاتها باللغة الانجليزية: الثقافة السياسية في ليبيا، والنخب السياسية في ليبيا، والسياسات الأمنيةفي ليبيا، والمصالحات المحلية منذ عام 2011. من اهتماماتها قضايا السياسات العامة، وقضايا النوع الاجتماعي، وقضايا الهجرة والأمن، وقضايا تسوية الصراعات.

___________

المصدر: مجلة “الفصول الأربعة” ـ العدد 125 ـ خريف 2019

مواد ذات علاقة