توصَّل ممثلون عن كل من المجلس الأعلى للدولة، ومجلس النواب الليبي، مساء الأربعاء 6 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، في مدينة بوزنيقة المغربية، إلى اتفاق يحدد معايير توزيع المناصب السيادية في البلاد خلال المرحلة القادمة.

ويأتي توقيع الاتفاق بعد جولتين من المفاوضات، وفي خضم تصريحات متفائلة من الطرفين، وتأكيدات متعلقة بتحقيق تقدّم مهم بشأن تنفيذ المادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي المُوقَّع في مدينة الصخيرات المغربية عام 2015.

ورغم لهجة التفاؤل التي رافقت هذا الحوار، فإنّ تساؤلات كثيرة تُطرح حول مدى قدرة الأطراف المشاركة فيه على تجاوز الصعوبات التي اعترضت تنفيذ اتفاق الصخيرات ومعالجة الانقسامات التي تعانيها البلاد.

إعلان بوزنيقة

انطلقت الجولة الأولى من جلسات الحوار الليبي في مدينة بوزنيقة يوم 6 أيلول/ سبتمبر الماضي، واستمرت خمسة أيام، وجمعت وفدًا استشاريًّا عن المجلس الأعلى للدولة، وآخر تشريعيًّا عن مجلس النواب، وتم في نهايتها الاتفاق على إجراء جولة ثانية تخصص لتحديد المعايير الواجب توافرها في شاغلي المناصب القيادية للوظائف السيادية.

انطلقت الجولة الثانية في 2 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وتُوّجت، مساء السادس من الشهر نفسه، بتوقيع كل من رئيس وفد المجلس الأعلى للدولة، فوزي العقاب، ورئيس وفد مجلس النواب، يوسف العقوري، اتفاقًا يتضمن “تفاهمات حول معايير اختيار الشخصيات في المناصب السيادية وضوابطها، وفق الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات في 2015”.

نَصَّت المادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي المُوقَّع في مدينة الصخيرات المغربية في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2015، على إلزامية تشاور مجلس النواب مع المجلس الأعلى للدولة، خلال ثلاثين يومًا من تاريخ إقرار الاتفاق، بهدف التوصل إلى توافق حول شاغلي الوظائف السيادية.

وحددت المادة المذكورة الوظائف السيادية بسبع وظائف، هي: محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.

واشترطت المادة نفسها موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب لتعيين شاغلي هذه المناصب أو إعفائهم. ورغم انقضاء خمسة أعوام منذ توقيع الاتفاق، فإن المادة 15 – فضلًا عن مواد أخرى – لم تدخل بعدُ حيز التنفيذ.

مثّلت الوظائف السيادية، خاصةً محافظ المصرف المركزي، موضوع تنازع متواصل، منذ الانقسام السياسي والمؤسساتي الذي شهدته البلاد، إثر إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر عملية “الكرامة”، في منتصف عام 2014، حيث ظهر مصرف مركزي موازٍ في مدينة البيضاء، شرق البلاد، برئاسة المحافظ علي الحبري، وقد تولى طباعة مبالغ كبيرة من الدينار الليبي في روسيا، وهو ما ساهم في تفاقم أزمة التضخم وتعمُّق هُوّة الانقسام في البلاد؛ إذ رفض المصرف المركزي في طرابلس الاعتراف بشرعية تداولها.

ورغم أن مؤسسات سيادية أخرى واردة في المادة 15 من اتفاق الصخيرات لم يلحقها الانقسام السياسي والمؤسساتي الحاصل بين شرق البلاد وغربها، فإنها أيضًا شهدت تجاذبات أدت إلى إضعافها وتحجيم دورها الإداري والرقابي والمحاسبي. وتتركز أغلب التجاذبات بشأن الوظائف السيادية حول هوية شاغليها وانتماءاتهم القبلية والمناطقية وميولهم السياسية والحزبية.

تحديات تنفيذ إعلان بوزنيقة

أحال الوفدان المجتمعان في بوزنيقة محضر الاتفاق بينهما إلى كل من رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، ورئيس مجلس النواب في طبرق، عقيلة صالح، ليتولى كل منهما عرضه في جلستين عامتين منفصلتين، يتوقع أن يعقدهما المجلسان خلال الأيام القليلة القادمة.

وفي حين يُتوقع أن يكون تحقيق النصاب القانوني لجلسة المجلس الأعلى للدولة أمرًا يسيرًا، ينتظر أن يواجه مجلس النواب في طبرق صعوبات في لمّ شمل أعضائه؛ إذ إنّ نحو نصف عدد نواب مجلس طبرق قد التحق بمجلس النواب في طرابلس، في حين يقيم عدد من الأعضاء خارج البلاد، منذ سنوات، فضلًا عن وفاة عدد آخر من النواب.

وحتى في حال توافر النصاب القانوني المطلوب لطرح الاتفاق على الجلسة العامة، المتمثل في قبول الأعضاء الملتحقين بمجلس النواب في طرابلس الانتقال إلى طبرق، وعودة المقيمين في الخارج، أو التصويت عبر الوسائط التكنولوجية – وهي فرضيات مستبعدة – فإن الخلافات العميقة بينهم تجعل من الصعب التوصل إلى توافق ثلثي أعضاء المجلس حول المعايير المطروحة لاختيار شاغلي الوظائف السيادية، كما تنص المادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي.

ورغم أن تحقيق النصاب القانوني لعقد جلسة للمجلس الأعلى للدولة لا يمثل مشكلة، فإن خلافات عميقة تبرز بين أعضاء المجلس بشأن الحوار في بوزنيقة.

فقد عبّر عدد من الأعضاء عن عدم رضاهم عن انخراط وفد المجلس في حوار بوزنيقة، معتبرين أن هذا المسار سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى منح المعسكر المساند لعملية “الكرامة” واللواء المتقاعد خليفة حفتر وداعميه الإقليميين مكاسبَ سياسية، ومواقعَ قيادية متقدمة عجزوا عن تحقيقها بقوة السلاح، كما أنه سيؤدي إلى المساهمة في إعادة تأهيل مجلس النواب في طبرق بعد أن فقد أكثر من نصف أعضائه، وباتت شرعيته محل تساؤل.

ورغم النبرة المتفائلة التي أبداها الوفدان المتفاوضان في بوزنيقة، فإن ذلك لم يُخف تواصل أزمة الثقة بين الطرفين.

فقد كان متوقعًا أن تُتوج الجولة الثانية بلقاء مباشر بين رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، وأن يشرفَا على توقيع الاتفاق، غير أن ذلك لم يحصل.

وفي كل الأحوال، لم يكن حوار بوزنيقة المناسبة الأولى التي جمعت أعضاء في المجلس الأعلى للدولة وآخرين في مجلس النواب.

فقد سبق للطرفين أن التقيَا في تونس وعواصم أوروبية، منذ أكثر من عام، غير أن اللقاءات السابقة لحوار بوزنيقة لم تكن لقاءات رسمية ومنظمة، ولم تُعقد وفق جدول أعمال وهدف محددين؛ ما يمنح حوار بوزنيقة خصوصية وأهمية مقارنةً بما سبق.

وإضافة إلى ذلك، يُعدّ لقاء الطرفين من خلال الحوار، رغم الشروخ التي تسببت بها الحرب، وتوافقهما السريع بشأن محضر تحديد معايير اختيار شاغلي المناصب القيادية للوظائف السيادية، علامةً فارقة في المشهد الليبي؛ إذ لم تستغرق جولتَا الحوار، الأولى والثانية، سوى خمسة أيام بالنسبة إلى كل منهما، وهو حيِّز زمني قصير في حال مقارنته بالحوار الذي سبق التوافق في اتفاق الصخيرات، عام 2015، الذي استغرق أشهرًا عدة.

ما بعد إعلان بوزنيقة

لا تُخفي سرعة التوصل إلى تفاهم بين المتحاورين الليبيين في بوزنيقة، على أهميتها، الصعوبات المنتظرة في المرحلة القادمة. فما توصلوا إليه يظل مجرد تفاهمات أولية، وإعلان مبادئ يمكن البناء عليه في حال توفر إرادة سياسية توافقية، إضافةً إلى أنّ المؤسستين اللتين كانتَا وراء هذا التفاهم طاولهما التشظي الذي ضرب جلّ الأجسام السياسية والمؤسساتية في ليبيا؛ ما يطرح مزيدًا من الأسئلة حول شرعيتهما ومدى السلطات التي تتمتعان بها، والتي تؤهلهما لتنفيذ الاتفاق.

في السياق ذاته، تمثل موازين القوى على الأرض عقبة أخرى في طريق تنفيذ أي اتفاق يمكن التوصّل إليه في جولات حوار قادمة بناءً على تفاهمات بوزنيقة الأخيرة. ففي حين ما زال الحراك السياسي والتفاوضي مقتصرًا على وفود وأشخاص تحيط الشكوك بقدرتهم التمثيلية وصلاحياتهم، يظل خيار التصعيد العسكري قائمًا بجدية في ظل التحشيد الكبير الذي تشهده مختلف الجبهات.

وفي ظل تصاعد حجم التدخلات الإقليمية، وآخر فصول ذلك تمثّلُه الأنباء المتواترة عن تحضير قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر لشن هجوم جديد؛ بهدف استعادة مدن ترهونة وغريان وبني وليد، والوصول إلى تخوم العاصمة، وهو التطور الذي قابلته حكومة الوفاق برفع درجة استنفار قواتها وتوجيه تشكيلات مقاتلة جديدة إلى الخطوط المقابلة لمحاور سرت والجفرة وجنوب شرق طرابلس.

ورغم أن الضغوط التي مارستها جهات دولية عدة، في سياق احتواء تداعيات جائحة كورونا، كانت من بين الدوافع وراء جلوس الفرقاء الليبيين إلى طاولة التفاوض وتوافقهم السريع في إعلان بوزنيقة، فإن أطرافًا إقليمية ما زالت تراهن على الحسم العسكري خيارًا واحدًا في تعاطيها مع الملف الليبي.

لا تتعلق الاحترازات التي قوبل بها تفاهم بوزنيقة من جهة منتقديه بهوية المشاركين فيه، فحسب، ولا بالتشكيك في قدرتهم على تحويله إلى واقع سياسي جديد في ليبيا، بل بمضامينه، وبالمعايير المقترحة لشاغلي المواقع القيادية في الوظائف السيادية أيضًا، فقد عُدّت هذه المعايير تكريسًا لمبدأ المحاصصة والترضيات بناءً على حسابات مناطقية وجهوية وقبلية، وتهميشًا لمبدأ الكفاءة والجدارة، وانحرافًا بهذه المؤسسات عن أدوارها ومهماتها؛ إذ مثّل اقتسام المناصب على الأقاليم المعيار الأبرز في عملية الاختيار.

ويخشى المتحفظون على هذه الآلية من تحوّل هذا الخيار إلى عامل تشظٍّ وصراعٍ جديد داخل المكونات الاجتماعية والقبلية لكل إقليم في حال انطلاق جولة حوار ثالثة تخصص لاختيار الأسماء الشاغلة للمناصب.

فحين تأخذ دولة بمبدأ المحاصصة على أساس الهوية المحلية، لا يعود ثمة حدود للهويات التي تُستثار لتبرير الأهلية للوظيفة. والخطير في حالة المفاوضات الليبية أن المحاصصة لا تجري على التمثيل في الهيئات السياسية فحسب، بل على وظائف الدولة أيضًا؛ ما يعطل عملية بناء جهاز دولة محايد تجاه الصراعات السياسية والإقليمية، ويعطل معايير عقلانية؛ مثل الكفاءة، والنجاعة، والولاء للدولة بوصفها دولة.

يجري هذا في وقت تنتفض فيه شعوب العراق ولبنان على نظام المحاصصة الذي بات يطاول جميع الوظائف في الدولة ويُقوِّض كيان الدولة والمواطنة.

إلى جانب ذلك، يمثّل تشعب مسارات التفاوض والحوار بين الفرقاء الليبيين وتعددها عامل إضعاف آخر لمخرجات الجولة الثانية من حوار بوزنيقة. ففي الوقت الذي يتفاءل فيه المتحاورون في بوزنيقة بما تم إنجازه، ما زال الحوار السياسي يراوح مكانه منذ اللقاء التشاوري بمدينة مونترو السويسرية في مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي.

وبناءً عليه، فإن فضّ الخلافات القائمة حول الوظائف السيادية – إنْ تمّ – ربما لا يكون له أثرٌ كبير على رَأْب الانقسام السياسي والمؤسساتي الذي تغذيه عوامل داخلية؛ سياسية وعسكرية واجتماعية متداخلة، وحسابات إقليمية متعارضة.

خاتمة

مثّل توقيع “اتفاق” يتضمن معايير تسمية شاغلي الوظائف السيادية في ليبيا، عقب جولتين من الحوار بين ممثلين عن المجلس الأعلى للدولة وآخرين عن مجلس النواب، في مدينة بوزنيقة المغربية، اختراقًا سياسيًّا واعترافًا بقصور خيار الحسم العسكري وإلغاء الآخر، غير أن هذا الإنجاز الجزئي لا يخفي صعوبة اعتماده مرجعية متعلقة بتوافق شامل يمكن البناء عليها؛ من أجل جَسْر الهُوّة بين الفرقاء، وتجاوز حالة التشظي السياسي والمؤسساتي التي تشهدها البلاد، في ظل الشكوك التي تدور حول مدى تمثيل المساهمين فيه وصلاحياتهم وقدرتهم على ترويجه والإقناع به وتحويله إلى واقع سياسي.

لكن الرهان يبقى معقودًا على أن تدرك كل الأطراف أنْ ليس هناك من سبيل آخر لحل الصراع في ليبيا إلا عبر توافقات سياسية وتنازلات متبادلة؛ لأن البديل هو استمرار القتال من دون قدرة أي طرف على الحسم. وقد أصبحت الغالبية مقتنعة بذلك، لكن فكرة اقتسام الوظائف ليست الطريق الأمثل إلى ذلك.

______________

مواد ذات علاقة