بقلم دانييل هيلتون (ترجمة وتحرير: نون بوست)

عندما وضع أحد مرتزقة فاغنر يده على كتف محمد أبو عجيلة ودفعه أرضا على الحصى وقام بتصويب بندقيته تجاهه، كان الشاب البالغ من العمر 28 سنة خائفا ومندهشا بشدة.

يقول الشاب الليبي لموقع ميدل إيست آي البريطاني وهو يقف داخل منزل على جدرانه آثار الرصاص، قُتل داخله والده وشقيقه وصهره: “لقد عاملونا معاملة جيدة.. لقد قدموا لنا الطعام والشراب، وافترضنا أنهم في النهاية سيسمحون لنا بالرحيل”.

التقى أبو عجيلة صدفة بالمقاتلين الأجانب الذين كانوا يتحدثون لغة بدت له خليطا من الروسية والإنجليزية، بالقرب من منزله في مدينة إسبيعة الريفية الواقعة على بعد 50 كيلومترا خارج طرابلس.

لقد أُجبر على مغادرة منزله بسبب القتال العنيف في الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2019، عندما كان هجوم خليفة حفتر على طرابلس في ذروته.

عندما تراجعت حدة الاشتباكات، خاطر أبو عجيلة بالعودة إلى منزله لتفقد ممتلكاته. ولكن بينما كان يتسلل عبر الحقول التقى بالمرتزقة. من المحتمل أنهم ينتمون إلى مجموعة فاغنر، وهي منظمة خاصة مرتبطة بروسيا أُرسلت إلى ليبيا لدعم جيش حفتر في حربه للاستيلاء على طرابلس من حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.

يتذكر أبو عجيلة ما حدث قائلا: “استداروا ورأوني وأطلقوا طلقات تحذيرية في الهواء. ولكن بعد ذلك، عندما بدأت في الفرار، تبعوني”. وعن غير قصد، قاد أبو عجيلة المقاتلين إلى المنزل الذي كان يحتمي فيه في بلدة مجاورة. وهناك، احتجزوه مع والده وأخويه حسام ومحمد وصهره حمزة.

أضاف الشاب الليبي قائلا: “لقد كانت ليلة صعبة، احتجزونا في مؤخرة شاحنة، كانوا يصبون الماء فوق رؤوسنا. جعل الماء من العصابة التي تغطي عيني شفافة، وكان بإمكاني رؤية وجوههم الحمراء وعيونهم الخضراء.

كان كل منهم ضخم الجثة، وكان أحدهم يضع ساقا اصطناعية”. في النهاية، نُقل الشاب وعائلته إلى مزرعة. سار الواحد تلو الآخر، مقيدين ومعصوبي الأعين، نحو مبنى من الخرسانة، ثم أُجبروا على الركوع. “كنت آخر من اصطف. ثم أطلقوا علينا وابلا من الرصاص. ألقيت بنفسي على الأرض وتظاهرت أنني ميت”.

يبدو أن المقاتلين كانوا في عجلة من أمرهم، فقد غادروا المكان دون التحقق من مقتل أسراهم. استلقى أبو عجيلة بصمت في الظلام بجانب أقاربه الذين كانوا جثثا هامدة، على الأرض إلى أن سمع بعد بضع دقائق صوتًا يقول: “إخوتي، هل أنتم على قيد الحياة؟ ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ أبي، هل أنت حي؟”. نجا حسام شقيق محمد، لكنه أصيب بعدة رصاصات في إحدى ساقيه ومات بقية أفراد الأسرة.

جيش بالوكالة

كشركة عسكرية خاصة، فإن مجموعة فاغنر ليست لها صلة رسمية بالكرملين. لكن علاقاتها مع يفغيني بريغوزين، الرجل المقرب من فلاديمير بوتين، تكشف راوية مختلفة.

تم الإبلاغ عن نشاط مرتزقة فاغنر في عدة دول، من بينها سوريا وأوكرانيا وبيلاروسيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، وجميع هذه المناطق ذات أهمية استراتيجية لموسكو.

يقول كيريل سيمينوف، الخبير في الشؤون الليبية بمركز الأبحاث التابع لمجلس الشؤون الدولية الروسي في موسكو، لموقع “ميدل إيست آي” إن “شركة فاغنر تُبرم بشكل مستقل عقودًا لممارسة أنشطتها.

لكن قبل إبرام العقد، تقوم بالتنسيق مع المؤسسات الحكومية الروسية، غير أنني أعتقد أن الكرملين ليس له علاقة بهذا الأمر. على الأرجح، فإن قيادة فاغنر تنسق أعمالها مع وزارة الدفاع”.

أخذت موسكو احتياطات كبيرة في ليبيا، فهي حريصة على تأمين صفقات التعمير والأسلحة التي وقّعتها في عهد القذافي الدكتاتور المخلوع، بقيمة 4 مليارات دولار، والحصول على موطئ قدم في البحر المتوسط. نتيجة لذلك، أبقت في السنوات الأخيرة على خطوط الحوار مفتوحة مع حفتر وحكومة الوفاق الوطني وحتى سيف الإسلام، نجل القذافي.

ومع ذلك، ازداد دعمها لحفتر بمرور الوقت. أعقبت زيارة حفتر لسفينة حربية روسية سنة 2016، مساعدات اقتصادية ولوجستية، وفي نهاية المطاف أُرسل 300 مقاتل من فاغنر في مارس 2019، قبل شهر من بدء هجوم جيش حفتر على طرابلس.

بينما كان مقاتلوه يحاولون اقتحام ضواحي العاصمة أواخر السنة الماضية، سعى حفتر إلى الحصول على مزيد من المساعدة. بالفعل، تحصل على دعم عسكري من مصر والإمارات، حيث زوداه بالأسلحة والمعدات والغطاء الجوي، فضلاً عن الغطاء الدبلوماسي الفرنسي. لكنه احتاج إلى خبرة إضافية – ولهذا لجأ إلى روسيا.

وقدّرت بعض التقارير عدد عملاء فاغنر في ليبيا بالآلاف، على الرغم من أن سيمينوف يقول إن هذا العدد مبالغ فيه، ما لم يتم احتساب السوريين المجندين من ميليشيات بشار الأسد.

يهيمن الروس على قوات فاغنر، لكن من المعروف أيضًا أن الشركة توظف الصرب والأوكرانيين. يتذكر أبو عجيلة أن هناك مجموعة من المرتزقة الذين يتحدثون اللغة الإنجليزية، مما يشير إلى وجود جنسيات أخرى أيضًا.

كما يشير سيمينوف إلى تورط فاغنر في أوكرانيا. ويقول في هذا السياق: “لقد قاتل مواطنون من عدة دول، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، في منطقة دونباس”.

في ليبيا، قام مرتزقة فاغنر بتدريب مقاتلي القوات الموالية لحفتر، كما ساعدوا فرق المدفعية، وضباط الحراسة رفيعي المستوى، وشغلوا أنظمة الدفاع الجوي الروسية “بانتسير”، وأصلحوا المعدات العسكرية. كما عمل مقاتلو فاغنر كقناصة وزرعوا الخوف في صفوف قوات حكومة الوفاق الوطني والمدنيين على حد سواء.

لكن في الأساس، سمح مرتزقة فاغنر لكتائب القوات الموالية لحفتر بتولي زمام المبادرة على خط المواجهة الأكثر صعوبة وخطورة. وبشكل عام، كانت مساهمة مجموعة فاغنر في استقرار جبهة حفتر بالقرب من طرابلس كبيرة للغاية. ولكن الأمر برمته يتعلق أكثر بالدفاع. وعلى حد تعبير سيمنوف، “لم يكن لدى مرتزقة فاغنر سوى القليل من الموارد لدعم هجوم القوات الموالية لحفتر”.

لا سبيل إلى الإنكار

بحلول ربيع سنة 2020، تغير الوضع العام في موسكو. فقد أعطى مرتزقة فاغنر في البداية قوة دفع هجومية لقوات حفتر، ولكنهم دفعوا تركيا أيضًا إلى دعم حليفها، حكومة الوفاق الوطني، بطائرات دون طيار وأسلحة ومرتزقة سوريين.

شعر بوتين أن الحصار الطويل لطرابلس غير مجدٍ، وتحدث إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الثامن من شهر أيار/ مايو، مما عجّل بانسحاب مرتزقة فاغنر.

يُذكر أن الصور التي نُشرت لاحقًا على شبكة الإنترنت وفي وسائل الإعلام الليبية كانت مثيرة حقا. قوافل من المركبات المدرعة التي تتجه شرقًا، تاركة القوات الموالية لحفتر تقاتل بمفردها.

لطالما أنكرت قوات حفتر أي حضور روسي في ليبيا، على الرغم من الصور المنتشرة ومقاطع الفيديو التي يظهر فيها مسلحون أجانب على الطرقات أو في المطاعم. لذلك، أصبح الإنكار بلا جدوى.

سرعان ما بدأ جيش حفتر يفقد قوته. بينما استعاد المقاتلون المتحالفون مع حكومة الوفاق الوطني ضواحي طرابلس، وقع تسليط الضوء عن المزيد من الأدلة التي تكشف عن تورط روسيا فيما يحدث، بما في ذلك الألغام والفخاخ المتفجرة الموضوعة في المنازل، وهو من التكتيكات العسكرية التي لطالما أدانتها الولايات المتحدة.

في هذا السياق، صرحت القيادة الأمريكية العسكرية في إفريقيا (أفريكوم) في شهر تموز/يوليو أن “لديها أدلة واضحة على أن شركة فاغنر زرعت ألغاما أرضية وعبوات ناسفة في طرابلس وحولها”.

يقول الجنرال برادفورد جيرينج، مدير العمليات في أفريكوم، “إن التكتيكات غير المسؤولة لمجموعة فاغنر تسهم في إطالة أمد الصراع. كما أنها مسؤولة عن معاناة الكثيرين ومقتل المدنيين الأبرياء”. وأضاف: “روسيا لديها القدرة على إيقافهم، لكن ليس لديها الإرادة”.

تقول الكتابة على جدار المسجد: “أرى المساجد على الأراضي الروسية، لكن من الأفضل رؤيتها في جهنم”. وكانت هذه العبارات مصحوبة بشعار النازيين الجدد 14/88. وكُتب في مكان آخر: “لا يوجد أسود في ألوان زينيت”، في إشارة إلى فريق سان بطرسبرج لكرة القدم، الذي يشتهر أنصاره بعنصريتهم وتطرفهم.

يقول سيمينوف إن مثل هذه المشاعر منتشرة في صفوف مقاتلي فاغنر، ويتابع: “كما هو معروف، يوجد بالفعل الكثير من الفاشيين والنازيين والعنصريين في فاغنر، والذين يتعاطفون مع (الفايكنج البيض). فضلا عن ذلك، الكثير منهم ليسوا من المسيحيين الأرثوذكس، بل من الوثنيين”.

قنبلة موقوتة

شكّل مستشفى إسبيعة المحاط بجدران خارجية بيضاوية الشكل وبأشجار الصنوبر، مقرًا مثاليًا وهادئًا لشركة فاغنر. ولأن المكان محاط بأرض مفتوحة، منح ذلك المقاتلين رؤية واضحة للمكان. كان المجمع بعيدًا عن نطاق مدافع حكومة الوفاق الوطني، لكنه يسمح لمقاتلي فاغنر بالوصول سريعا إلى خط المواجهة.

علاوة على ذلك، يضم المبنى برجا للمياه ومولدين للكهرباء وأجنحة إقامة متعددة، وذلك لأن القذافي كان يبني مستشفيات تحتوي غرفا يمكن أن تقيم فيها الطواقم الطبية الأجنبية.

عندما صدر الأمر بالتراجع، كان لابد من تأمين ملاذات مؤقتة جديدة، وقد قلب ذلك حياة أحمد عمار – وهو ميكانيكي يعيش في ترهونة المجاورة – رأسا على عقب.

في 21 أيار/مايو، عاد عمر ابن أحمد البالغ من العمر 20 سنة إلى منزلهم في ترهونة ليجد الباب مفتوحا بينما تقف ثلاث مركبات عسكرية في الورشة المجاورة، فاستدعى والده بسرعة.

يقول أحمد: “رأيت الروس يستخدمون معدات الاتصال. وعندما حاولت التفاوض معهم، جاء سوري ضخم اسمه بركان وقال لي: نحن إخوة لا تقلقوا. نحن بحاجة إلى هذا المكان لبضعة أيام فقط وسنعيده إليك في حالة ممتازة”.

ونظرا لأنه لم يكن يرغب في جذب انتباه الميليشيا التابعة لجيش حفتر، والتي كانت تدير البلدة ويخشاها الجميع، رضخ أحمد لطلبهم في النهاية، وعاد بعد يومين فقط عندما أُزيل هوائي فاغنر من فوق سطح منزله وبعد أن نُشرت صور انسحاب المرتزقة على شاشة التلفزيون.

كان المكان مليئا بأعقاب السجائر والأحذية والحقائب والقمامة في كل مكان. يقول أحمد: “بدأنا التنظيف لتجهيز المكان للعيد. كان الحمام في حالة فوضى وكنا قلقين بشأن فيروس كورونا. كانت شبكة المياه معطّلة، وعندما صعد ابني إلى السطح لتفقد خزان المياه، انفجرت في وجهه قنبلة موقوتة وقتلته”.

تم العثور على قنبلة أخرى أعلى الدرج. وعندما حاول أحمد تسجيل وفاة نجله بشكل رسمي، انزعجت سلطات جيش حفتر في ترهونة من القصة التي رواها. يقول أحمد: “قالوا لي لا يوجد روس هنا، فقط جيش ليبي، وأرغموني على أن أقول إن غارة جوية تركية قتلت ابني بدلاً من الرواية الحقيقة”.

حلفاء حفتر

بالنسبة لروسيا، فإن التعاقد مع شركات خاصة مثل فاغنر وسيلة للتجنيد دون تلطيخ الأيدي. علاوة على ذلك، يساعد الغموض الذي يلف إدارة الشركة على إبعاد موسكو عن الشبهات ومنحها قدرة على الإنكار، خاصة مع عمليات الإبلاغ عن الأعمال الوحشيّة.

مع ذلك، في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، حدث تطور مهم، حيث تعرض بريغوزين لعقوبات من الاتحاد الأوروبي بسبب “صلاته الوثيقة، التي تشمل الجانب المالي” مع فاغنر وانتهاكها لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، بما “يهدد السلام والاستقرار والأمن في البلاد”.

بحسب ما ورد، تُظهر صورة التقطتها الأقمار الصناعية ونشرتها الولايات المتحدة، شاحنات تستخدمها فاغنر ومركبات روسية مدرعة مضادة للألغام في سرت، ليبيا في 14 تموز/ يوليو 2020. (وكالة فرانس برس)

تقول المسؤولة عن الملف الليبي في منظمة “هيومن رايتس ووتش” حنان صلاح إن العقوبات إيجابية “لكنها لا تفي بالغرض تماما”.

وأضافت في تصريحات لموقع “ميدل إيست آي”: “لا أعتقد أن على الاتحاد الأوروبي التوقف عند هذا الحد. هل سيفرضون عقوبات على أي جماعات تركية؟ هل سيفرضون عقوبات على الإمارات العربية المتحدة أو مصر لانتهاكهما حظر الأسلحة؟ لا تتوقفوا عند انتهاكات حظر الأسلحة فحسب، بل انظروا في تداعيات ذلك، والانتهاكات التي يفرزها انتهاك حظر الأسلحة”.

عندما سأل موقع “ميدل إيست آي” اللواء أحمد المسماري، المتحدث باسم جيش حفتر عن تورط فاغنر في هجوم طرابلس، قال إنه “ليس لديه أي فكرة” عما يتحدث عنه الموقع، وأضاف: “لكنني أعلم أن روسيا لديها الكثير من القوات ولديها حضور في جميع أنحاء العالم، حتى في بريطانيا، وبالقرب من حدود الولايات المتحدة كذلك. إذا أرادوا أن يجدوا موطئ قدم في مكان ما، فلن يستطيع أحد إيقافهم”. في الفترة الحالية، باتت علاقة حفتر مع روسيا تتسم بالكثير من الفتور.

في أيار/ مايو 2019، تم القبض على روسيين مرتبطين ببريغوزين أثناء تنسيقهما مع سيف الإسلام القذافي حول عودته المحتملة إلى المشهد السياسي، وهما محتجزان الآن في مركز اعتقال في مطار معيتيقة في ضواحي طرابلس. وقالت مصادر لموقع “ميدل إيست آي” إن جثة مقاتل من شركة فاغنر محتجزة في مكان قريب أيضًا.

في الأثناء، قامت قوات فاغنر بتحصين مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية على خط المواجهة وسط ليبيا. كما سيطرت عناصر فاغنر على حقل الشرارة، أكبر حقول النفط في البلاد.

رغم كل ذلك، مازالت روسيا تلعب دورا محوريا في المفاوضات بين طرفي النزاع الليبي، وتقول التقارير إنها أشرفت على جولة مفاوضات في مصر في أيلول/ سبتمبر.

لكن ذلك لم يمنع المسؤولين في حكومة الوفاق من السعي لفرض عقوبات دولية ضد فاغنر، والتي يلعب مقاتلوها دورا مهما في صفوف جيش حفتر.

تقول ربيعة أبو راس، النائبة في البرلمان الليبي والمقيمة في طرابلس، لموقع “ميدل إيست آي” إن ” الجميع يجب أن ينتبهوا لجرائم فاغنر، هنا وفي جميع أنحاء العالم”. وأضافت: “إنهم جماعة إرهابية مثل داعش، وقد باتوا يهددون إمدادات النفط كذلك”.

***

دانييل هيلتون ـ محرر أخبار في ميدل إيست آي

____________

المصدر الإصلي: ميدل إيست آي

مواد ذات علاقة