بقلم حمزة المؤدّب

أدّت اتفاقات التجارة غير الرسمية على طول الحدود بين تونس وليبيا إلى ظهور اقصاد حدودي محكم. لكن التغييرات السياسية في كلٍّ من الدولتين قلبت المشهدين الاقتصادي والأمني رأساً على عقب.

الجزء الثاني

المناطق الحدودية الشرقية التونسية: لا نقص في الأخبار السيئة

منذ العام 2014، حين تداعى بنيان ليبيا كدولة موحّدة، واجهت المناطق الحدودية التونسية ثلاثة تحديات كبرى تقاطعت على نحو مطّرد:

الأول، أن تشظي المشهد الأمني في غرب ليبيا أدى إلى اشتباكات متفرقة بين مختلف الجماعات للسيطرة على المعابر الحدودية وخطوط التهريب. هذا القتال أعاق مسار التجارة وكانت له على وجه الخصوص مضاعفات سلبية على التجار التونسيين الذين خضعوا حينذاك إلى نزوات الميليشيات التي تسيطر على الجانب الليبي من رأس جدير.

وغالباً ما وقع هؤلاء التجار ضحية الابتزاز على يد ميليشيات أخرى تسيطر على طرق التهريب.

الثاني، هو أن الأزمة المصرفية الليبية، التي نشبت العام 2016 بفعل هبوط أسعار النفط وعائداته، قلّصت قدرة الليبيين الشرائية وتسبّبت في تضخم الفساد، وجعلت التجار التونسيين حتى أكثر انكشافاً وضعفاً أمام عمليات الابتزاز التي تقوم بها الميليشيات الليبية.

الثالث، هو أن المقاربة ثقيلة الوطأة التي انتهجتها السلطات التونسية والتي كانت تستهدف منع تداعيات النزاع الليبي على تونس، جعلت العديد من طرق التهريب غير قابلة للعبور، وأسفرت عن إغلاق طويل الأمد لمعبر رأس جدير، الأمر الذي أدّى إلى تقطّع سبل قناتي التجارة التقليديتين: الكونترا والخط.

كانت حصيلة كل ذلك اقتصاد حدود محطّماً وانطباعاً في أوساط العديد من التجار والمهربين التونسيين بأن تونس العاصمة تركّز على أمن الدولة أكثر من اهتمامها بأمان مواطني الدولة.

وقد أصبحت التجارة مع ليبيا، التي لطالما اعتمد عليها العديد من سكان المناطق الحدودية، مُكلفة بشكل باهظ، فيما المواطنون التونسيون العاديون لا يمتلكون الوسائل للدفاع عن أنفسهم وعن تجارتهم ضد الفصائل المسلّحة الابتزازية.

وحدهم التجار والمهربون المحظيون باتصالات جيّدة تمكّنوا من العمل بلا عوائق إبان السنوات العديدة المنصرمة، وهي ظاهرة أدّت إلى تمركز الثروة والسلطة بشكل متزايد في أيدي حفنة أشخاص مُنتقين.

المعابر الحدودية وسياسات الهوية والميليشيات

في غرب ليبيا، دفع سقوط القذافي ومعه تشظي السلطة المركزية، العديد من المجتمعات المحلية إلى التسابق للسيطرة على المواقع كي تصبح مراكز قوة تضمن لها الحصول على الموارد الاقتصادية.

هذا التنافس على المنافذ الحدودية أحيى إوار التناحرات التاريخية، خاصة بين العرب وبين الأمازيغ الذين هم طائفة إثنية محلية تُهيمن على مدن ومناطق عدة قرب الحدود مع تونس.

وقد استخدم القذافي التجارة الحدودية لتعزيز سطوته، واستلحق قبائل وفئات اجتماعية معيّنة وأغدق عليهم الامتيازات على حساب آخرين. لذا من البديهي أن تؤدي سياسة فرّق تسد هذه إلى بروز تظلمات في صفوف قطاعات من السكان حُرموا من كعكة المغانم. كان الأمازيغ المجتمع المحلي الأكثر عرضة على نحو متواصل إلى هذا التمييز والحرمان.

غداة إطاحة القذافي، تقدّمت الصفوف مدينة زوارة، التي كانت مهمّشة سياسياً وأُقصيت عن اقتصاد الحدود طيلة عهده. فقد استولت قوّات زوارة على رأس جدير وضمّت رسمياً المعبر الحدودي إلى المنطقة الإدارية الواقعة تحت سيطرة بلدية زوارة . وهذا شكّل خطوة مهمة نحو تحويل المدينة إلى مركز قوة حقيقي.

وعلى الرغم من أنها بقيت تحت سيطرة السلطة الاسمية لحكومة الوفاق الوطني التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، إلا أنها تمتّعت بدرجة معتبرة وواسعة من الحكم الذاتي، الأمر الذي كانت له مضاعفات سلبية على معيشة التجار والمهربين في البلدات التونسية القريبة، على غرار بنقردان. وكما أوضح بائع جملة من بنقردان، غيرّت إعادة رسم المشهد السياسي-العسكري تركيبة الاقتصاد الحدودي.

وأضاف: “كان شركاؤنا في التجارة دوماً عرباً من المدن الصغيرة في الغرب: زلطن، والجميل، ورقدالين. لكن المشكلة الآن أن زوارة تسيطر على المعبر الحدودي. وأولئك الذين كانوا نافذين في قطاع الأعمال باتوا الآن مهمّشين عسكرياً، فيما الذين باتوا يسيطرون عسكرياً على الأرض يريدون الانتقام في قطاع الأعمال. وهذا يولّد توترات في ليبيا ويؤثر علينا حتماً”.

ولكي يمارسوا العمل مع شركائهم التجاريين التقليديين من زلطن والجميل ورقدالين وأماكن أخرى، تعيّن على التجار التونسيين العرب تقبّل الحقيقة بأن الأمازيغ الزوارية، الذين كانت علاقاتهم معهم متوترة، يسيطرون على المعبر الحدودي.

والحال أن السيطرة على المعابر الحدودية أضحت عاملاً استراتيجياً في مجال التقدم الاجتماعي-السياسي للأمازيغ.

ففي نالوت، وهي بلدة أمازيغية أخرى، استولت ميليشيا محلية على معبر ذهيبة–وازن الحدودي القريب منها (رأس جدير وذهيبة ـ وازن هما المعبران الحدوديان الوحيدان بين تونس وليبيا، حيث المعبر الأول يحظى بعمليات عبور أكثر بكثير من الثاني).

وبالمثل، أقامت المجموعات المسلحة الأمازيغية نقاط تفتيش على طول خطوط التهريب. وبهدف موازنة سيطرة الأمازيغ على رأس جدير وذهيبة-وازن، داعبت مجموعة من المدن العربية الغربية في ليبيا فكرة فتح معبر جديد على أرض منحها إياها نظام القذافي وتقع على طول الحدود. بيد أن هذه المدن استبعدت هذه الفكرة بعد أن استنتجت أن هذا يمكن أن يسفر عن نزاع مديد وربما مدمّر.

بالنسبة إلى العديد من التجار التونسيين، تتجاوز المشكلة زوارة. إذ إن أولئك الذي اعتادوا العمل بين بنقردان وزلطن، وهي مدينة ليبية تقع على بعد 30 كيلومتراً من الحدود التونسية، على سبيل المثال، عليهم الآن أن يمروا عبر العديد من نقاط التفتيش التي تسيطر عليها ميليشيات ليبية مختلفة، سواء من العرب أو الأمازيغ، على طول الطريق.

وسرعان ما أصبح ابتزاز التجار التونسيين شائعاً في هذه النقاط وتفاقمت معدلات المخاطر. فالتجار قد يخسرون بضاعتهم وحتى يفقدون أرواحهم. ويشي عدد نقاط التفتيش بحجم النزاع قرب الحدود وبالحدة التي تسعى فيها مختلف الفصائل المسلحة العاملة في المنطقة للسيطرة عليها. وحقيقة أن مثل هذه المجموعات تعيد هيكلة نفسها وتغيّر تحالفاتها، لاتزيد الأمور إلا غموضاً وتعقيداً.

تقطّع إمدادات النفط

عانت المناطق الحدودية الشرقية التونسية كثيراً من العرقلة المتواصلة لإنتاج النفط في ليبيا. فمنذ العام 2014، خاضت الميليشيات الليبية المعارك مراراً للسيطرة عل منشآت النفط، ما دفع شركات الإنتاج إلى تعليق عملياتها لفترات مديدة.

ثم أدى هبوط أسعار النفط منذ العام 2014 إلى تدهور آخر في عائدات الدولة، وإلى نقص حاد في احتياطي العملة الصعبة، ونشوب أزمة نقدية. حينها، بدأت المجموعات المسلحة المفتقدة إلى المال باستخدام اعتمادات مستندية مزوّرة لنقل الأموال إلى خارج ليبيا، من دون تزويد السوق الليبي بالسلع، ما قوّض الاقتصاد الحدودي وقلّص إلى حد كبير الفرص أمام التجار والمهربين التونسيين.

وقد أدى التقاطع بين النقص في السلع والتضخم وبين الأزمة النقدية إلى تداعي الاقتصاد الليبي، وبالتالي إلى إعاقة التجارة التونسية- الليبية.

أحياناً، كانت القرارات التي تتخذها حكومة الوفاق الليبية المتمركزة في طرابلس، والتي تعترف بها تونس العاصمة بكونها الحكومة الشرعية لليبيا، تفاقم مشاكل ومتاعب سكان الحدود الليبيين.

ففي العام 2017، أقرّت حكومة الوفاق تأسيس المؤسسة الوطنية للنفط الليبية قوةً أمنية لمكافحة تهريب البنزين عبر الحدود. (لم تعترض زوارة، التي تتمتّع بدفق متواصل من العائدات بفضل تهريب البنزين بحراً إلى مالطا وإيطاليا، على هذه الخطوة). حقّقت هذه القوة بعض النجاح، ما أدى إلى نقص البنزين في كل أنحاء المناطق الحدودية الجنوبية الشرقية التونسية.

وفي يونيو 2018، بعد أن بلغ السيل الزُبى لدى التجار والمهربين التونسيين، نفّذوا سلسلة من الاحتجاجات الحاشدة ضد عرقلة التجارة بعد تدهور الوضع الأمني في الجانب الليبي من الحدود الذي كان يتسبّب بالعديد من حالات الابتزاز ومصادرة البضائع. كما احتجوا أيضاً على سوء المعاملة على يد المجموعات المسلحة، وعلى قرارات حكومة الوفاق، وإهمال السلطات التونسية للمناطق الحدودية.

وهكذا، في بنقردان، ألحق المحتجون أضراراً بالعربات التي تحمل لوحات ليبية، وسدّوا الطريق إلى معبر رأس جدير الذي أغلقته السلطات التونسية لاحقاً. وقد تطلّب الأمر أياماً عدة لإعادة الأمن والنظام، لكن، حتى هذا لم يحل المشكلة.

ويوضح مهرّب على الجانب التونسي المسألة على النحو التالي: “يمكن أن يكلّف البنزين 40 ديناراً تونسياً، أي السعر نفسه في محطة الوقود. ولذا، لا نستطيع أن نعمل. بالنسبة إلينا لا يوجد ببساطة سوق”.

تغليب النزعة الأمنية على حساب الاقتصاد المحلي

كانت للإجراءات الأمنية التونسية المطّردة تبعات سلبية على المجتمعات المحلية الحدودية المعتمدة على كلٍّ من التجارة عبر رأس جدير والتهريب للحفاظ على البقاء.

فمع كل حادث أمني يحمل بصمة العلاقة مع ليبيا، كانت السلطات التونسية تفرض مزيداً من القيود على النشاطات عبر الحدود.

فعلى سبيل المثال، حفّزت سلسلة من الاغتيالات التي طالت في العام 2013 شخصيات سياسية تونسية على يد جناة تونسيين كانوا يفرون إلى ليبيا، تونس العاصمة على تشديد قبضة إجراءات الأمن في المناطق الحدودية. لا بل خُوّل الجيش التونسي إقامة منطقة عازلة حول الحَيد الحدودي الجنوبي لتونس، حيث تتقاطع الحدود مع ليبيا والجزائر.

في العام 2015، طفت على السطح نقطة تحوّل في السياسات الأمني التونسية إزاء ليبيا. ففي منتصف يونيو من ذلك العام، تم اختطاف موظفين قنصليين تونسيين في طرابلس على يد ميليشيا ليبية، ردّاً على اعتقال أحد قادتها في تونس العاصمة.

وعلى الرغم من أن تونس لم تذهب إلى حد إغلاق الحدود- فرأس جدير بقي مفتوحاً- إلا أنها أوقفت كل التنقلات غير الضرورية للسلع والأشخاص من ليبيا إلى أراضيها. ثم جاءت سلسلة الهجمات الإرهابية في أواخر العام 2015 لتدفع الحكومة التونسية إلى فرض المزيد من الإجراءات الأمنية، من خلال حفر خندق على مسافة نصف حدود البلاد مع ليبيا البالغ طولها 500 كيلومتر، وهي خطوة عرقلت العديد من خطوط التهريب.

أغلقت تونس رسمياً معبر رأس جدير الحدودي في شباط/فبراير 2016، بعد تدهور الوضع الأمني في ليبيا غداة سلسلة من القصف الأميركي لمعسكر تدريب يديره تنظيم الدولة الإسلامية المعلنة ذاتياً في مدينة صبراتة الشمالية الليبية.

أثبت قرار الإقفال أنه مبالغٌ به مع اندلاع الاحتجاجات الواسعة في بنقردان. فبعدها بفترة وجيزة، وُجّهت الدعوة إلى إضراب عام أكثر تنظيماً احتجاجاً على الإهمال الحكومي، والفساد المستشري في أوساط أجهزة الأمن، ونقص الترتيبات عبر الحدود مع الميليشيات الليبية التي تضمن التجارة والحماية للتجار التونسيين في ليبيا.

في البداية، بدا أن السلطات في تونس العاصمة أضحت أكثر ليونة، لكن في خطوة ظهر أنها تؤكد أسوأ مخاوف هذه الأخيرة، شنّت جماعة جهادية تونسيّة آتية من ليبيا هجوماً مسلحاً على بنقردان في آذار/مارس. تم صد هذه الجماعة لكن بكلفة باهظة في صفوف قوات الأمن والمدنيين في المدينة.

ولم يُعاد فتح معبر رأس جدير إلا في حزيران/يونيو 2016، ولكن بطاقة محدودة. وبات واضحاً للعيان أنه ليس ثمة نهاية في الأفق لمصاعب السكان المحليين الاقتصادية.

يتبع في الجزء الثالث (المبادرات القاعدية ومحدوديتها)

***

حمزة المؤدّب ـ باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، وانعدام الأمن على الحدود في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

____________

مركز مالكوم كير ـ كارنيغي للشرق الأوسط

مواد ذات علاقة