جميع الثورات العربية تبدو أنها متشابهة إلى حد بعيد رغم خصوصية كل منها في الأحداث التفصيلية. وحاولت قوى الثورة المضادة في كل بلد أن تخلق جوا تسوده الاضطرابات والانقسامات، ليتهيأ لها الأمر للانقضاض على الثورة، وهذا ما حدث في معظم الثورات.

الجزء الأول

حلت الذكرى العاشرة لانطلاق ثورات الربيع العربي التي بدأت شرارتها في تونس بعود ثقاب أشعله البائع المتجول محمد البوعزيزي في جسده بعد أن صب الوقود على نفسه، إثر احتجاز سلطات بلاده بضاعته في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.

حادث تضامن معه الشعب التونسي، فاتسعت رقعة الاحتجاجات سريعا، واستمرت في التصاعد حتى توجت بسقوط رأس النظام زين العابدين بن علي وفراره إلى المملكة العربية السعودية في 14 يناير/كانون الثاني 2011، لتنتهي بذلك فترة حكمه التي استمرت 23 عاما.

بعد ذلك بتسعة أيام وتحديدا في 25 يناير/كانون الثاني 2011، الذي اختير ليوافق عيد الشرطة، انطلقت مظاهرات واسعة في مصر ضد حكم الرئيس محمد حسني مبارك.

في البداية انحصرت مطالب التظاهرات في تحسين الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى ثورة عارمة اجتاحت القاهرة والمدن الرئيسية المصرية.

تصدى الشباب -الذين شكلوا عصب الثورة- لكل محاولات إخمادها، وتحت إصرار الشارع على انسحاب مبارك من المشهد، اضطر الأخير لإعلان تنحيه في 11 فبراير/شباط 2011، وبذلك انتهت فترة حكمه التي استمرت قرابة 30 عاما.

وخلال الثورة المصرية، قامت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية باليمن، بدأت في 27 يناير/كانون الثاني 2011 منادية بإسقاط حكم الرئيس علي عبد الله صالح، واستمرت المظاهرات حتى وقَّع “صالح” على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 لحل الأزمة السياسية، عُطل بموجبها الدستور واعتبرت المبادرة مرجعية دستورية لإدارة البلاد، ثم تسلم عبد ربه منصور هادي نائب الرئيس حينها، والرئيس الحالي، قيادة البلاد في 21 فبراير/شباط 2012 بموجب المبادرة الخليجية.

وفي 14 فبراير/شباط 2011 أصدرت 213 شخصية ليبية بيانا يطالبون فيه بتنحي العقيد معمر القذافي، وبحق الشعب الليبي في التعبير عن رأيه بمظاهرات سلمية دون مضايقات أو تهديدات من قبل النظام.

لكن ارتقى عدد من الليبيين شهداء برصاص الشرطة في بنغازي بعد أن اعتصم فيها عدد من المواطنين مطالبين بالإفراج عن سجناء سياسيين، لتتحول الاحتجاجات إلى ثورة عارمة أخذت في السيطرة على كبريات المدن الليبية، حتى أُعلِن مقتل القذافي في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011 بعد أسره من قبل ثوار ليبيا في مدينة سرت (مسقط رأسه)، لينتهي بذلك نظام القذافي الذي حكم 42 سنة.

أما في سوريا، فكانت مطالب الثوار متشابهة مع نظرائهم في تونس ومصر واليمن وليبيا، لكن الأحداث أخذت منحى مختلفا.

بدأت الاحتجاجات في مارس/آذار 2011 بعدما قامت قوات الأمن بسجن مجموعة من الأطفال في مدينة درعا، ما أدى إلى خروج الأهالي بمظاهرة قوبلت بإطلاق نار من الجنود الحكوميين .

إثر ذلك اتسعت دائرة الاحتجاجات التي حافظت على سلميتها، لكن مع مواجهة الشرطة وقوات الأمن لها بالعنف المفرط، وتنفيذ اعتقالات واسعة النطاق، واتباع سياسة القمع الوحشي، اتخذت الثورة شكلا مسلحا منذ أواخر يوليو/تموز 2011، ثم تطور الأمر لتدخل إيراني-روسي عمل على تثبيت نظام الأسد.

ولأول وهلة، يرى الناظر في جميع الثورات العربية أنها متشابهة إلى حد بعيد. فرغم خصوصية كل منها في الأحداث التفصيلية، إلا أن قدر التشابه بينها أكبر بكثير.

فمن الوضع العام الذي سبق كل ثورة، مرورا بالمطالب التي قامت من أجلها الثورات، إلى الوسائل التي استخدمها الحكام أثناء انتفاضة شعوبهم ضدهم، وليس انتهاء بالوسائل التي اتبعتها النُظم القديمة للالتفاف على الثورة.

كلها مناطق تماثل – إلى حد بعيد- بين كل ثورات الربيع العربي، بل يمكن القول: إن الموجة الثانية من الثورات العربية – التي حدثت خلال عام 2019 في الجزائر والسودان ولبنان والعراق- تؤكد وحدة تطلعات الشعوب العربية، وربما وحدة المصير أيضا.

أوضاع البلاد قبل الثورات

ربما يكون الاستبداد السياسي وانتهاك الكرامة الإنسانية هما أهم العوامل في قيام ثورات الربيع العربي، حيث يعد كثيرون أنهما الأصل الذي تفرعت عنه كل السوءات الأخرى للأنظمة الديكتاتورية. وبالطبع فإن انسداد الأفق السياسي وانتهاك حقوق الإنسان هما من أبرز العوامل المشتركة التي جمعت بين النظم الحاكمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.

فعلى سبيل المثال، ساد الاستبداد وطالت الانتهاكات كل أطياف المجتمع في تونس، ففي فبراير/ شباط 1990، واجه ابن علي احتجاجات “الاتحاد العام التونسي للطلبة” بحملة تجنيد إجباري عقابي شملت نحو 600 من قياداته في كافة الجامعات.

وخارج الجامعة، أسفر صدام ابن علي، مع حركة “النهضة” ذات التوجه الإسلامي في 1991، عن اعتقال آلاف المنتسبين إليها، وعمد ابن علي إلى حل منظمة الاتحاد العام التونسي للطلبة، وسجلت منظمات حقوق الإنسان انتهاكات عديدة منها ما مس بحق الحياة.

وبعد الإسلاميين، جاء الدور على بقية أطراف المعارضة التونسية، فتم سجن منتسبي حزب العمال الشيوعي التونسي وبعض النقابيين، وحتى جزءا من حلفائه السابقين، بينهم أمين عام حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، محمد مواعدة، عام 1994، بتهمة التخابر مع جهات أجنبية وتلقي تمويل منها.

وقبل الثورة المصرية بأسابيع قليلة، سادت الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية أجواء وُصفت حينها بغير الديمقراطية، اتسمت بترويع الناخبين وانتهاكات وتزوير على نطاق واسع، وفاز الحزب الوطني الذي يتزعمه مبارك بالغالبية العظمى للمقاعد المطروحة في الجولة الأولى من الانتخابات .

إثر ذلك دعا قيادات أحزاب الغد، وحزب الجبهة الديمقراطية، وحركة كفاية، والجمعية الوطنية للتغيير، وحركة 6 إبريل وجماعة الإخوان المسلمين، إلى مقاطعة شاملة للانتخابات، وعدم المشاركة بداية من انتخابات الإعادة في المرحلة الأولى حتى انتهاء العملية الانتخابية.

كذلك فإن قانون الطوارئ كان أساسا اعتمد عليه مبارك طيلة حكمه في التنكيل بمعارضيه، فكانت المعتقلات مفتوحة في عهده لكل من يهدد سلطته ولو بالكلمة.

ووفقا لأحد التقارير المقدمة للأمم المتحدة من ملتقى منظمات حقوق الإنسان المستقلة فى يناير/كانون الثاني 2012، فإن عدد المعتقلين في عهده وصل إلى 14 ألفا، دون اتهامات أو محاكمات رغم حصولهم على عدد من القرارات الآمرة بالإفراج عنهم، لكنها لم تنفذ.

وفي اليمن، رسخ علي عبد الله صالح حكمه – الذي استمر ما يربو على 3 عقود – بالقبضة الحديدية. فوفقا لمنظمة “هيومن رايتش ووتش”، فإن صالح تورط أثناء حكمه في انتهاكات لحقوق الإنسان بلا حصر، منها هجمات قوات الأمن الحكومية القاتلة على مظاهرات سلمية في أغلبها الأعم، والقصف العشوائي لمناطق كثيفة السكان أثناء الثورة اليمنية في 2011-2012، وجرائم حرب من 2004 إلى 2010.

أما ليبيا، فقد عاش شعبها أكثر من 40 سنة في قمع واستبداد، ولم تشهد البلاد منذ عام 1969 في عهد معمر القذافي أية انتخابات أو تداول للسلطة.

اتبع القذافي سياسة تضمن له البقاء أطول فترة ممكنة في الحكم من خلال إقصاء جميع التيارات والقوى السياسية، التي يمكن أن تنازعه السلطة أو تهدد بقاءه فيها، فجعل من ليبيا دولة بوليسية كاملة، عانى فيها الليبيون من انعدام الحريات المدنية والقمع والاعتقال التعسفي والإعدامات في ظروف غامضة.

وفي سوريا، كانت الطريقة التي أتى بها بشار الأسد إلى السلطة كفيلة بأن تميت كل أمل في أن تعيش سوريا نظاما ديمقراطيا تعدديا في عهده.

فـبعد وفاة والده تم تغيير الدستور في غضون 5 أسابيع حتى يصبح لائقا من ناحية العمر لتولي المنصب. ثم أجريت الانتخابات، وأدى بشار اليمين الدستورية كرئيس جديد في 17 يوليو/تموز 2000، بينما لم يكن هناك مرشح معارض.

ومن أجل الحفاظ على سلطته، تم تقليده أعلى رتبة عسكرية في سوريا، ثم تنصيبه رئيسا لحزب البعث الحاكم في مؤتمر الحزب الذي عقد على عجل في الأسابيع الخمسة ذاتها.

وبعيدا عن الكارثة الإنسانية والمجازر الوحشية التي قام بها بشار الأسد بعد انطلاق الثورة السورية في 2011، كانت السنوات العشر الأولى من حكمه مليئة بقمع النشاط السياسي والحقوقي، وفرض قيود على حرية التعبير، وإساءة المعاملة، والاختفاء القسري، والتعذيب، الذي وصفته منظمة “هيومن رايتس ووتش” أنه كان “روتينيا” منذ السنوات الأولى لحكم بشار الأسد.

التشابه الكبير في أوضاع الدول العربية قبل الثورات لم يكن في الحالة السياسية والحقوقية فقط، بل تشابهت الأوضاع الاقتصادية كذلك، حيث اقترن المال بالسياسة، وساد الفساد، وأهدرت مقدرات الشعوب، وزادت نسبة الفقراء.

ففي دراسة أجراها البنك الدولي، حول حجم الفساد في عهد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، كشفت أن 220 شركة تونسية تملك نحو 21% من القطاع الخاص في تونس، يحوزها أقرباء للرئيس المخلوع ابن علي.

وقالت الدراسة: إن هذه الشركات استفادت من التسهيلات والمعاملة الخاصة بالنسبة للحصول على الرخص وكسب العقود من خلال علاقاتها بالرئيس المخلوع.

وعلى النقيض، كان نحو 25% من سكان تونس يعيشون تحت خط الفقر، وفقا لما أعلنت عنه وزارة الشؤون الاجتماعية بعد الإطاحة بنظام ابن علي.

وفي مصر زادت أعداد الأثرياء الذين يتكسبون بطرق غير مشروعة في مقابل تآكل الطبقة الوسطى وزيادة الفقر بنسب كبيرة، حتى وصلت نسبة المصريين الذين يعيشون دون خط الفقر إلى 25%، حسب بيانات رسمية.

وعلى عكس الأرقام الرسمية الدالة على نمو الاقتصاد، تفاقمت معاناة المصريين المعيشية ووصلت إلى مستويات صعبة، لدرجة أن الشارع كان يغلي عبر مظاهرات عمالية وشعبية تندد بتدهور الأوضاع الاقتصادية وتطالب بزيادة الأجور ووقف قطار الغلاء الذي دهس ملايين الفقراء.

وفي دراسة لمعهد كارنيغي عام 2012 عن اقتصاد مصر قبل ثورة يناير فإن ثمار النمو الرقمي لم تتسرب إلى المجموعات ذات الدخل الأدنى، وبلغ المتوسط السنوي لنصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 نحو دولارين فقط بأسعار ذلك الوقت.

وفي اليمن، أهمل “صالح” الاقتصاد والتنمية وظل يعزز قوته العسكرية بصفقات السلاح، رغم تزايد معدلات الفقر والبطالة في صفوف اليمنيين، وتدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، حتى صار نصف اليمنيين تحت خط الفقر. في المقابل، جمع الرئيس المخلوع عن طريق الفساد ثروة وصلت إلى 60 مليار دولار – في أحد التقديرات – خلال 33 سنة قضاها في السلطة، وفق تقرير نشرته الأمم المتحدة أوائل عام 2015.

وقالت الدراسة: إن الأموال جُمعت عن طريق الفساد المتصل خصوصا بعقود النفط والغاز، وحصول صالح على رشاوى مقابل امتيازات تنقيب حصرية.

ورغم أن الدولة الليبية غنية نسبيا عن باقي بلدان الربيع العربي، إلا أن الفساد الحكومي في عهد معمر القذافي وسوء إدارة الأموال، جعل المقدرات الاقتصادية الكبيرة التي تتمتع بها ليبيا، لا تنعكس على الشعب.

لم تتجاوز مرتبات الغالبية العظمى من القوى العاملة في القطاع العام 400 دينار (321 دولارا) شهريا للفرد الذي يعول أسرة، ولم يزد مرتب المعلم في المؤسسات التعليمية بما فيها المرحلة الثانوية عن 450 دينارا (361 دولارا) شهريا.

وبما أن متوسط عدد أفراد الأسرة هو 6 وفقا لآخر إحصاء سكاني قبيل الثورة، فهذا يعني أن نصيب الفرد اليومي من الدخل الشهري للأسرة كان يقل عن دولارين (خط الفقر المدقع).

واتفقت آراء شريحة واسعة من المواطنين على سوء الخدمات الصحية والتعليمية وارتفاع تكاليف العلاج، وغلاء أسعار الأدوية والمواصلات والسلع الغذائية، ناهيك عن الدروس الخصوصية مقابل دخولهم المحدودة.

أما الوضع في سوريا فكان أكثر تفاقما، حيث انتشرت بشكل واسع مظاهر الفساد المالي والرشوة في دوائر الدولة وفي المطار وعلى الحدود، واتسعت البطالة واشتد الفقر لدى فئات واسعة من الشعب السوري في كل أنحاء الدولة السورية، خلال فترة حكم الأسد الأب.

ولدى استلام ابنه بشار الحكم من بعده، تعمقت وتوسعت ظاهرة الفساد المالي والإداري لتصبح النظام الرسمي المعمول به في سوريا عمليا، وتفاقمت البطالة واتسعت عدد العائلات التي تعاني من الفقر المدقع والحرمان، إضافة إلى ارتفاع متواصل في أسعار السلع والخدمات والسكن وتدهور قيمة الليرة وانخفاض قيمتها الشرائية.

يتبع في الجزء الثاني

________________

مواد ذات علاقة