بقلم علي اللافي

قد يُقلل البعض من المتابعين والمحللين من أهمية زيارة الوفد المصري لطرابلس وعقدها لعدد من الاتفاقيات مع وزارات خارجية وداخلية ودفاع حكومة الوفاق الليبية واتخاذ عدد من الخطوات المهمة على غرار عودة نشاط سفارتي البلدين.

ولكن لا أحد يُمكنه أن يُغيّب أن طبيعة العلاقة بين الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر” والقاهرة قد بدأت في التغيّر منذ أغسطس/أوت 2018 حيث بدأت يومها التباينات بين داعميه وحلفائه الإقليميين في التنامي وخاصة حول أنه عسكري فقط أو أنه سياسي وعسكري.

ورغم تواصل دعم المصريين الظاهر له حتى يونيو الماضي فإن المصريين بدوا منذ بداية سنة 2019 يُعيدون ترتيب أوراقهم في الملف الليبي ويعيدون مراجعة الكثير من جزئيات الملف الليبي ومستقبل علاقاتهم مع مكونات المشهد السياسي الليبي (وهو أمر وضحته ملامح وجه “حفتر” اثر مقابلته مع “السيسي” في 15-04-2019 أي عشر أيام فقط بعد بدء اعتداء قواته على العاصمة ومحاولاتهالسيطرة على المنطقة الغربية والتي انقلبت نتائجها لهزائم مذلة له ولقواته – والتي انتهت غادرت ترهونة في نهاية ماي الماضي-)…

ولكن السؤال الرئيسي والمهم اليوم، هو: هل تغيّرت فعلا مُعادلات العلاقة بين القاهرة وجنرال “الرجمة” (مقر إقامة “حفتر” الحالي)؟، وهل سيُصبح فعلا مجرد رقم ثانوي في تسوية سياسية تُرسم ببطء وعلى نار هادئة وبعيدا عن الأضواء وفقا لخطة خَطّت معالمها المبعوثة الأممية بالنيابة “ستيفاني وليامز” وقبل بها المصريون ولكنّهم لايزالون يترددون في القبول يبعض تفاصيل ترتيبية ليس إلَّا، وهل يعني أنهم قد تخلّوا أو هم بصدد التخلي عن “حفتر” بمرحلية وآليات ناعمة؟

زيارة الوفد المصري لطرابلس هي تتويج لمرحلة وليس نقطة بداية في تغير السياسات تجاه الملف الليبي

عمليا بدأ وفد مصري – والذي وصفته مختلف وكالات الانباء بأنه رفيع المستوى-أول أمس الأحد 27 ديسمبر الجاري زيارة للعاصمة طرابلس حيث ضم فعليا نائب رئيس جهاز المخابرات العامة (اللواء أيمن عبد البديع، ويشغل الرئيس التنفيذي للجنة المعنية بليبيا) وأحد مساعدي وزير الدفاع بالإضافة للسفير المصري لدى ليبيا “محمد أبوبكر” وفعليا تعد الزيارة الأولى من نوعها منذ أبريل 2019 .

أما محادثات الوفد فقد تركزت حول إعادة صياغة العلاقة مع غرب ليبيا في الملفين الأمني والعسكري وقضايا المنطقة فضلاً عن إمكانية إعادة تشغيل السفارة المصرية في طرابلس وخطط تأمينها ومعلوم أن مطلعة أكدت في وقت سابق أنه جرى منذ مدة الاتفاق الضمني بين السراج والقاهرة على تولي الناشط السياسي الليبي “عبدالمجيد مليقطة”سيكون سفيرا لليبيا في القاهرة، وبحسب مصادر متطابقة فإن المسؤولين المصريين أجروا لقاءات مع وزير الخارجية “محمد سيالة”، ونائب رئيس المجلس الرئاسي “أحمد معيتيق”، ومع وزير الداخلية “فتحي باشاغا” ووزير الدفاع “صلاح النمروش”.

وتأتي زيارة الوفد المصري بعد زيارة وفد تركي ترأسه وزير الدفاع “خلوصي آكار”، شارك فيه رئيس الأركان يشار غولر، إلى طرابلس حيث تفقد الوفد التركي الكلية العسكرية بمنطقة الهضبة لحضور حفل عسكري، بعد زيارة إلى وزارة الدفاع وقوة إنفاذ القانون في طرابلس.

وفيما يبدو الوفدان التركي والمصري على طرفي نقيض في الملف الليبي، أكدت المصادر أن الزيارتين جاءتا على وقع تقارب تركي مصري على مستوى مخابراتي بشأن مستجدات ملف شرق المتوسط الذي شهد توترات كبرى منذ أشهر، وعمليا يُمكن الجزم أن انتقال الملف الليبي إلى مجالات الصراع في المتوسط سيُسرّعُ من جهود التوافقات الإقليمية في الأزمة الليبية.

ذلك أنه لوحظ أن الجانب المصري لم يقابل زيارة “آكار” لطرابلس وتصريحاته الموجهة لحفتر بحدة كما هو المعتاد، بل يُمكن التأكيد أن التوقيت وسرعة التحرك الحالي تشير إلى إمكانية بروز ملامح تقارب بين أنقرة والقاهرة من منطلق الملف الليبي.

وكل ذلك سيعني آليا أن الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر” سيتحول لمجرد رقم في المعادلة ولن تكون له القدرة على العودة للخيار العسكري بل ولن يكون له أيُّ هامش للمناورة كما في السابق مع عدم اغفال أن الرجل هو ومنذ أسابيع، من بين اشخاص وأطراف وقعوا تحت مظلة الغضب الأميركي المُتزايد حول الوجود الروسي في ليبيا ذلك أنه عاجزعلى إخراج مرتزقة “فاغنر” ولا يُمكنه توجيههم في مسارات الجبهات ومواقع التماس” كما أن قراره العسكري ليس بيده بل هو بي الروس تحديدا.

والثابت أن القاهرة كما “أنقره” وعواصم أخرى تسعى لاستثمار ما تعيشه طرابلس من خلافات بين قادتها لبناء تحالفات جديدة داخلها بغض النظر عن إمكانية أو صحة أيُّ تقارب تركي مصري في الملف الليبي والذي قد يكون مستحيلا وكلنه وارد أيضا.

ولكن السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه في الفقرات اللاحقة هو: كيف أن زيارة الوفد المصري هي تتويج لمرحلة وتراكم كمي لخطوات سابقة في التباين مع الاماراتيين وبقية حلفاء وأخذ مسافة وابتعاد أولي عن “حفتر”بل وتحويله الى رقم ثانوي أيضا؟ .

حفتر والمصريون والترابط المنهجي والموضوعي (2014-2019)

ليس هذه اول مقال/دراسة تحليلية نتساءل فيه حول هل يمكن القول أن المصريين قد بدوا مستعدين فعليا للتخلي عن حليفهم الرئيسي، أي عن الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر” والذي لا يختلف اثنان أنه رقم صعب في المنطقة الشرقية؟

ومرد سؤالنا المُتكرر هو وجود أسباب عدة منها عجزه عن تحقيق الحد الأدنى اضافة لوضعه الصحي والعسكري والاجتماعي في شرق البلاد، فما بالك بغرب البلاد وجنوبها رغم ما هُيأ له من أموال وعتاد وديبلوماسية ولوجستيك ومرتزقة ورغم دعم سخي اماراتي وسعودي وروسي وحتى إسرائيلي إضافة لدعم خفي من دول عربية وغربية وافريقية أخرى على غرار سوريا والأردن وفرنسا أوغندا.

عمليا اضطلع المصريون منذ 2014 بدورٍ نافذ ومُؤثر في الأحداث والتطورات، فقد تم مساندة “حفتر” منذ حاول القيام بانقلابٍ في طرابلس في فبراير/شباط 2014 لا من قبل المصريين فقط بل من طرف أحزاب عربية ودول خليجية وقوى دولية عديدة، ورغم رفض كل الأطراف الليبية له وتصديهم للعملية البيضاء (الانقلاب المعلن عبر بيان تلفزيوني هزيل).

إلا أنه وبحلول النصف الأول من عام 2014، كان المسؤولون في القاهرة قد توصلوا إلى استنتاجٍ بأنَّ شرق ليبيا قد أصبح مرمى سهل لنفوذهم المترامي ولما حلموا به طوال سنوات وعقود، وتم يومها اسباغ كل ذلك بأن العسكري المتقاعد قد أرتدى البدلة من جديد ليحارب المجموعات الإرهابية، وأصبحت روايتهم السياسية في اعلامهم ومنابرهم وفي المنتظم الدولي، أن الرجل حصن في وجه التطرُّف.

يُعَدّ الدعم السياسي القوي من طرف المصريين لحفتر وفي اسناده إعلاميا وديبلوماسيا، عاملا رئيسيا شجعه في مايو/أيار 2014، في إطلاق ما أسماه بـ «عملية الكرامة»، حيث كانت مصر أول دولة تدعمه بصورة كاملة، لكن لم يُكن لدى المصريين أي نية لإنفاق مواردهم المحدودة على تمويل الحملة، لذا سعوا للحصول على داعمين إضافيين.

أول أولئك الداعمين كانت دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعد شهرين إلى ثلاثة أشهر من بدء عملية الكرامة، كانت الإمارات قد أصبحت بالفعل المُموِّل الرئيسي لقوات حفتر وحلفائه المحليين، وبحلول أوت/أغسطس2014، كان المصريون والإماراتيون يتدخلون مباشرةً في ليبيا، بل أن القاهرة كانت جدّ سعيدة بالسماح للدول الداعمة لحفتر باستخدام غرب مصر كنقطة انطلاق، خصوصاً في ظل تحمُّل “أبوظبي” معظم فاتورة أسلحة ما أطلق عليه تسمية “الجيش الوطني الليبي”.

في فبراير/شباط 2015، أقنعت مصر روسيا عملياً بأنَّ حفتر يستحق الحصول على فرصة، وبأنَّ الكرملين عليه أن يفكر جدياً في المنافع المتأتية من دعم القائد الشرقي. وفي سنة 2017 صعَّدت فرنسا مستوى دعمها لحفتر، وهو ما عُزي إلى حدٍ كبير إلى الجهود المصرية والإمارتية لإقناع باريس بأنَّ دعم جيش “حفتر” هو السبيل الأكثر حكمة لمعالجة الحرب الأهلية الليبية والتهديد الذي شكَّلته على الأمن الأوروبي.

مع ذلك، وعلى الرغم من أنَّ القاهرة جلبت العديد من الأطراف الفاعلة النافذة للاصطفاف خلف “حفتر”، فإنَّ المسؤولين المصريين لم يكونوا غافلين عن نقاط قوة وضعف جيش حفتر، إذ تعتقد القاهرة أنَّ “حفتر” من الناحية الواقعية ليس في موضعٍ يسمح له بتحقيق انتصارٍ عسكري على حكومة الوفاق الوطني والفصائل المتحالفة معها.

والثابت أن المسؤولين المصريين ومنذ صائفة 2018 قد بدأوا ينظرون إلى جيش حفتر باعتباره مظلة جامعة غير منضبطة تضم تحتها العديد من الفصائل على غرار قوى السلفيين المتشددة وجزء مهم من أنصار النظام السابق والمقيمة عائلاتهم في القاهرة وبعض المدن المصرية إضافة الى أبناء قبائل الشرق ومرتزقة (تدفع لهم دول خليجية مرتبات ومكافآت ولوجستيك وصولهم للأراضي الليبية…).

ورغم أن القيادات المصرية كانت تُفضِّل سيطرة قوات حفتر على كامل ليبيا، إلا أنَها بدأت بحلول أواخر عام 2018 تدفع “حفتر” باتجاه إيجاد تسوية سياسية للحرب الأهلية الليبية، وفي الوقت نفسه كان المسؤولون في “أبوظبي” و”الرياض” يشجعون “حفتر” على شن حملة شاملة لانتزاع السيطرة على طرابلس ومصراتة ومناطق أخرى من ليبيا لم تكن تحت سيطرته وبالتالي اوقعوه في الفخ الذي حذره منه بعض أركان نظام “السيسي”.

المصريون وسؤال امكانات التخلي عن “حفتر” (2019-2020)

تختلف الرؤى في قراءة موقف المصريين لموقع حفتر المستقبلي، ورغم أن النظام السياسي ميّال منذ أوت/أغسطس 2018 عكس الاماراتيين الى تبني دور عسكري فقط للرجل في مستقبل العملية السياسية في ليبيا، وتوجد من يومها وخاصة منذ بداية 2019 مقاربتين في ذلك أي في تفاصيل الرؤية المصرية وتجسّدها الفعلي منذ مؤتمر برلين بجولتيه وفي وقت لاحق وحتى الآن أو في أي مقاربات وحلول مستقبلية حسب رأينا:

المقاربة الأولى: مواصلة دعم حفتر بنفس الآليات

وهي مقاربة سيطرت على القرار المصري وخاصة بين 2014 و217، ذلك أن صعود حفتر للسلطة يُشبه صعود الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” وهما يتشاطران أهدافاً سياسية مشتركة وإيماناً بضرورة وجود جيشٍ قوي لغرض تحقيق تلك الأهداف، ولدى كليهما رؤية لتخليص ليبيا ومصر من الإخوان المسلمين بصورة دائمة، وهما شريكان طبيعيان فيما يُصوِّرانه على أنَّه كفاحهما ضد التطرف، وهما يرغبان كل من جهته في إعادة انتاج “قذافي آخر” أو في تلبس حفتر لدور “سيسي ليبيا”.

مما لا شك فيه أن القاهرة لا تقبل بتكرر المثال التونسي وانتقاله الى بقية دول المنطقة وهي لن ترتاح الى تجربة ديمقراطية في ليبيا بكل تجسداتها، وبالتالي فهي نصير لمنطق خطة بسط أنظمة عسكرية في منطقة شمال افريقية، وفي حد أدنى إيجاد آليات للحد من آثار أي مسار ديمقراطي في ليبيا والعمل ان لا يكون للإسلاميين ولحزب العدالة والبناء أي حجم ثقيل فيه.

المقاربة الثانية: التخلي الجزئي أو الكلي عن حفتر

عمليا يُدرك المصريون جيدا أنَّ الإمارات تُركِّز على الحرب وستواصل دعم قوات حفتر مالياً، لكنَّ مصر لا تتوقع أن يُعيد الإماراتيون إعمار ليبيا بمجرد تسوية الحرب الأهلية، وفي المقابل ترى مصر أنَّها ستضطلع بمعظم ذلك الدور، وهو الامر الذي أوجد تباينا واضحا في الأولويات بين القاهرة وأبوظبي في ما يتعلَّق بغرب ليبيا، ذلك أن شرق ليبيا لا يمثل إلا ثلث سكان ليبيا، في حين يستضيف غرب البلاد مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وغيرهما.

وقد تتاح للعمال المغتربين المصريين فرص حقيقية بمجرد انقشاع غبار الحرب، وهو حافز لتثبيط أي استراتيجية من شأنها «التخلي» عن غرب ليبيا والتركيز حصراً على بنغازي والشرق الليبي وبعض مدن الجنوب التي باتت تحت سيطرة قوات حفترمنذ بداية 2019.

يُؤكد بعض المتابعين أنه على عكس بعض القراءات فان القاهرة ترى أنَّ حفتر كان عليه تجنُّب أحداث أبريل 2019، وأنه كان عليه انتهاج السبل الدبلوماسية بدلاً من ذلك لتحقيق السيطرة على طرابلس، ولكن رغم تلك المخاوف حيال هجوم قوات حفتر على طرابلس، ظنَّت القاهرة أنَّه ما من خيارٍ أمامها إلا دعم ذلك المسعى في تلك الفترة ولكنها كانت تخشى أيضا خلق فراغاتٍ جديدة في السلطة يمكن لاحقا أن تهدد الأمن المصري.

وما هو ثابت أنه رغم رغبة المصريين في وجود حليفهم كفاعل رئيسي في مسارات السلطة المستقبلية، فانهم لن يعترضوا أبدا في المستقبل على فصل المسارين السياسي والعسكري ولكنهم سيركزون جهودهم أثناء المفاوضات على هوية العطايا الاقتصادية التي يمكن ان ينالوها في ظل حكومة وحدة وطنية مستقبلية.

والثابت أنهم تواصلوا بأشكال مختلفة سنتي 2019 و2020 مع حكومة الوفاق، كما استقبلت أجهزتهم الخاصة والمعنية فعليا بالملف الليبي بكل مربعاته بعض الشخصيات التي لا يرتاح حفتر لمجرد ذكر أسمائها ولكن كيف امتدت الأمور ليزور مدير المخابرات الرجمة بنفسه ويزور وفد بذلك المستوى طرابلس والمسارعة بعودة السفيرين للقاهرة وطرابلس؟

***

علي اللافي – كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

______________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة