بقلم كريم مرزوقي

بعد اندلاع الثورة سنة 2011، مرّت ليبيا بمرحلة استقرار نسبي أعقبها سريعا وبداية من سنة 2014 نزاعات سياسية انتهت بحرب بين شرق وغرب وبسيطرة مليشيات على عديد المناطق.

وقد أثرت هذه التطورات على اختلافها في شكل الدولة وفي وحدتها ومن أبرز معالمها انقسام السلطة التشريعية بين شرق وغرب وما تبع ذلك من ازدواجية الحكومتين والمؤسسات السيادية كمصرف ليبيا المركزي وديوان المحاسبة وجهاز الرقابة الإدارية والمؤسسة العسكرية وغيرها.

وكان من اللافت هنا أن القضاء ورغم بعض الاستثناءات ظلّ صامدا وعنوانا لوحدة الدولة ومصدرا لفكرة سلطة القانون رغم صوت السلاح وأحكامه ونزاعات السياسة ومؤامراتها. وكان في ذلك للمجلس الأعلى للقضاء دور القيادة ولانتخاباته تأكيد على ذلك.

انتخابات المجلس الأعلى للقضاء: عنوان للوحدة ومبرر لها

لعلّ ابرز الأمثلة على نجاح السلطة القضائية في الحفاظ على وحدتها وتماسكها هو نجاح انتخاب المجلس الأعلى للقضاء في يوليو 2019، حيث دخل المجلس الأعلى للقضاء في تحدّ حقيقي. فالانتخابات تقام في مناخ يسوده الاستقطاب الحاد والانقسام السياسي في قمته. وزد على ذلك قيام الجيش بقيادة خليفة حفتر في شرق البلاد بمهاجمة العاصمة مما عزز الصراع وزاد من النعرة الجهوية.

ورغم ذلك، أعلن المجلس الأعلى للقضاء عن موعد الانتخابات وبدأ يمهد لإجرائها عبر الإعلان عن تشكيل لجان الإشراف على المحاكم والهيئات القضائية المختلفة وأيضا فتح قوائم الترشح للراغبين. وأعلن المجلس عن القوائم النهائية وحددت مواعيد انتخاب كل محكمة استئناف وكل هيئة قضائية على حدة.

ورغم بعض التحفظات والنقد الموجه للقانون التنظيمي للانتخابات، خاصة عدم السماح لقضاة المحاكم الابتدائية بالترشح ولا بالتصويت في الانتخابات، إلا أن المجلس نجح بقيادة العملية الانتخابية إلى برّ الأمان. وجرت الانتخابات في جو هادئ ونزيه مبتعدة عن أجواء السياسة ومؤامرتها لانشغال أطرافها بصراعاتهم السياسية والعسكرية.

ويتضح جليا للمتابع أن الانتخابات نجحت في طمأنة المواطنين والإعلان عن وحدة السلطة القضائية وتماسكها وصمودها على الرغم من الإنقسام السياسي العام والذي شمل فيما شمله السلطتين التشريعية والتنفيذية وأغلب المؤسسات السيادية في البلاد. ومن شأن هذه الرسالة أن تشكل صمام أمان لوحدة ليبيا وعدم انقسامها.

وما يعزز القول بالوحدة والتماسك هو استجابة الهيئات القضائية وأعضائها للعملية الانتخابية والتزامها بقرارات المجلس الأعلى للقضاء رغم أنها تقع في مدن ومناطق تخضع لحكومات وسلطات مسيطرة مختلفة. كما أنها حظيت بمشاركة معقولة من أعضاء الهيئات القضائية وجرت في أجواء عادية، ونتج عن ذلك مجلس أعلى للقضاء منتخب وأعضاؤه يمثلون جميع المحاكم وينتمون لمختلف المدن.

وكان لنجاح الانتخابات ردود فعل رسمية وشعبية. فقد هنّأت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا المجلس الأعلى للقضاء على انتخاب أعضائه بنجاح في جميع أنحاء البلاد، مشددة على أن هذه «الانتخابات الشفافة» مثال للديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة، وتعكس استقلالية ومهنية القضاء كمؤسسة رئيسية تعزز سيادة القانون وحقوق الإنسان في ليبيا، كما أنها تمثل بارقة أمل للشعب الليبي في فترة الصراع هذه على وجه الخصوص.

كما هنّأ المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق» المجلس الأعلى للقضاء على اكتمال تشكيله عبر انتخابات قال إنها «نزيهة وشفافة تستكمل طريق الاستحقاقات الدستورية، وصولاً إلى دولة مدنية تكرّس استقلال السلطة القضائية». وأضاف المجلس أنه «يؤكد على ثقته في قدرة المجلس الجديد على القيام بمهامه ومسؤولياته.

وعلّق كثير من الليبيين في الفضائيات وعبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي على انتخاب المجلس الأعلى للقضاء، حيث رأوا أنه «قدم المثل على وحدة المؤسسات التي نأت بنفسها عن الانقسامات السياسية والجهوية التي تسود البلاد.

وإن أردنا تحليل هذا التماسك بموضوعية وتجرد، نرى أن المسألة ليست سهلة لأن القضاء لا يعمل كمنظومة منفردة فهو مرتبط بأجهزة ومؤسسات الدولة التنفيذية. فمثلا محكمة جنوب طرابلس الابتدائية تنفذ أحكامها عبر جهاز الشرطة القضائية طرابلس وينفذ أوامر نيابتها مأمورو الضبط القضائي التابعون لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، على العكس من محكمة جنوب بنغازي الابتدائية الواقعة تحت سلطة الحكومة المؤقتة وأجهزتها التنفيذية.

ورغم ذلك، حاولت السلطة القضائية أن تراعي هذه الحساسية ولا تثيرها عند التعامل مع أجهزة الدولة ولا تدخل نفسها في جدلية الشرعية؛ فهي تتعامل مع سلطة الأمر الواقع وتطبق نظرية الموظف الفعلي المعروفة في فقه القضاء الإداري.

والحقيقة أن السلطة القضائية قد أصابت في هذه السياسة العملية حتى لا توقع نفسها ومنتسبيها في جدلية السلطة الحاكمة وأزمة الشرعية التي ستسبب إشكاليات عملية وتنفيذية تعرقل عملها وتنعكس سلبا على تسيير المرفق القضائي وتؤثر في مصداقيتها أمام المتقاضين.

ولا ننكر أن اختلاف تطبيق بعض التشريعات يثير بعض التساؤلات خاصة أن هناك أكثر من عشرين قانونا صدرا بعد عام 2015 من السلطتين التشريعيتين شرقا وغربا وانعكس ذلك على المحاكم التابعة لها، ناهيك عن بعض الأحكام القضائية، خاصة في القضاء الإداري، التي تختلف في التعامل في تكييف المجلس الرئاسي كسلطة سياسة شرعية أو سلطة غير مختصة. إلا أن ذلك لم يؤثر في جوهر تماسك السلطة القضائية ولا انعكس على وحدتها.

الحوار السياسي والقضاء

من الطبيعي أن المجلس الأعلى للقضاء يتأثر دائما بالمناخ العام في البلاد حربا أو سلما. فبعد توقّف الهجوم على طرابلس وانسحاب قوات الجيش بقيادة حفتر، ارتفعت أصوات السلام وفتح الحوار بين الفرقاء. فصدر في أغسطس الماضي بطرابلس بيان من رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، أعلن فيه عن وقف إطلاق النار في كافة الأراضي الليبية. وفي اليوم نفسه، أصدر رئيس مجلس النواب في شرق البلاد بيانًا دعا فيه إلى وقف الأعمال القتالية.

وفي الشهر الموالي جرت مباحثات ليبية في مدينة بوزنيقة بالمملكة المغربية لبحث معايير تولّي المناصب السيادية وإعادة توزيع مقارّ عملها بين المناطق الليبية وانتهى لاتفاق شمل: مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس جهاز مكافحة الفساد، ورئيس المفوضية العليا للانتخابات وأعضاؤها، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.

وهنا، أعلن المجلس الأعلى للقضاء أنه يتابع اللقاءات والحوارات بين الأطراف الليبية آملا في نجاحها ومعبرا في ذات الوقت عن استهجانه لمنطق المحاصصة في توزيع الوظائف السيادية ومؤكدا على مبدأ الكفاءات المهنية.

كما أعلن صراحة عن معارضته لما جاء في تفاهمات بوزنيقة المغربية فيما يتعلق بالسلطة القضائية معتبرا إياه تدخلا ومساسا باستقلالها، ورفض بشكل مطلق الزج بمنصبي رئيس المحكمة العليا والنائب العام في هذه التفاهمات.

وفي الاتجاه نفسه، أوضح المجلس أن رئيس المحكمة العليا يعين بالتشاور بين أعضاء الجمعية العمومية لهذه المحكمة ورئيسها وأن تعيين النائب العام لا يكون إلا بعد التشاور مع المجلس الأعلى للقضاء باعتبار أن المناصب القضائية تخضع لمعايير تقتضيها طبيعة العمل القضائي وتنظمها القوانين الخاصة، على أن يتولى البرلمان هذه التعيينات بعد التشاور مع المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء.

وقد أثارت هذه التفاهمات استهجان أغلب الأوساط القضائية والقانونية، حيث صدرت مواقف كثيرة عبّرت عن رفضها للتدخل في عمل السلطة القضائية. ومن أبرز هذه االمواقف، موقف المحامي ووزير العدل السابق محمد العلاقي الذي حذر من الخطر الداهم، الذي يمارسه المتحاورون في أبوزنيقة المغربية، من افتئات على دولة القانون بقرارهم اعتماد المحاصصة القبلية المتخلفة في تعين قمة الهرم القضائي ممثلاً في رئيس المحكمة العليا والنائب العام، في سابقة هي الأولى من نوعها في ضرب دولة القانون والرجوع بها إلى العصور الوسطى. إلا أنه رغم قوة هذه المواقف، لم تصدر أي ردة فعل من الأطراف السياسية في أبوزنيقة.

وفي أوئل نوفمبر وبعد بداية ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أخذ المجلس الأعلى للقضاء خطوة استباقية مصدرا بيانا بتاريخ 11 نوفمبر بعنوان “حول الحوارات الوطنية الجارية في تونس” حيث أكد فيه ما جاء ببيانه السابق وضمنا على الاستقلال الكامل للسلطة القضائية وقواعد الاختيار لمناصبها وفقا للمعايير المصاغة بالتشريعات الخاصة بها واستبعاد تلك المناصب من المادة 15 من الاتفاق السياسي.

قضاة السلطة

وفي سياق آخر وفجأة ومن دون مقدمات، انتشرت ورقة في صفحات التواصل الاجتماعي صادرة من وزارة العدل في حكومة الوفاق الوطني ولم يتم نفيها وهي عبارة عن ترشيح 19 قاضي ووكيل نيابة وأعضاء هيئات قضائية للعمل في وظيفة مستحدثة اسمها “الملحق القضائي” وذلك لغاية إلحاقهم بسفارات ليبيا بالخارج مما يعني ضرورة أن يصدر قرار بندبهم من المجلس الأعلى للقضاء إلى وزارة الخارجية حتى يتمكنوا من الالتحاق بوظائفهم الجديدة.

أثار هذا الترشيح الوسط القضائي والحقوقي بل حتى المهتمين بالشأن العام الذين اعتبروا أن ذلك ينتقص من استقلال القضاء خاصة أن تبعية هؤلاء القضاة ستكون للسلطة التنفيذية. وقد أشار بعضهم لعدم وجود مثل هذه المسمى الوظيفي في الكادر الوظيفي لوزارة الخارجية.

فقد ذكر المستشار بالمحكمة العليا جمعة بوزيد “أن وظيفة الملحق هي وظيفة سياسية تتبع البعثة الدبلوماسية وتنظمها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية وهي تسبق وظيفة السكرتير الثالث في السفارة. وقد نظم ذلك قانون السلك الدبلوماسي منذ أول تشريع صدر في سنة 1959 وآخر تشريع رقم 2 لسنة 2001 ولائحته”. وتساءل عن طبيعة الخدمة القضائية التي يمكن أن يقدمها الملحق القضائي خارج البلاد.

أما سفير ليبيا السابق في السنغال ووكيل وزارة الخارجية الأسبق حسن الصغير، فقد وجه سؤالا لجهاز الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة عن رأيهم في قرار الملاحق القضائية وهو قرار مخالف لاتفاقية فيينا وللقوانين الليبية ويخالف الملاك الوظيفي الذي أصدره المجلس الرئاسي بالمخالفة لقانون السلك ولائحته التنفيذية معتبرا أن ترشيح الملاحق القضائية هي في حقيقتها ترضيات لوزراء العدل ولا أصل لها في إتفاقيات فيينا ولا عمل حقيقي لهم ولا أصل وتأصيل قانوني لها في القوانين الليبية.

وتجدر الإشارة إلى أن ترشيح وزارة العدل لا قيمة قانونية له طالما أن المجلس الأعلى للقضاء لم يستجِب لهذا الترشيح ويصدر قرارات بندب المرشحين للعمل في وزارة الخارجية حتى يمكن للمرشحين مباشرة عملهم.

ويبقى السؤال: هل سيحافظ المجلس الأعلى للقضاء على منهجه بإبعاد القضاء عن السياسة وعن السلطة التنفيذية أم سيستجيب للضغوط ويتنازل ويساهم في صناعة جيل جديد من قضاة السلطة وقد ينتج عنها عرف دائم لتداخل العمل القضائي مع العمل الدبلوماسي والقنصلي؟

الأيام القادمة هي الكفيلة بالاجابة عن هذا السؤال مع بقاء بارقة أمل منتظرة من موقف المجلس الأعلى للقضاء من هذه الأزمة الصغيرة.

____________

نشر هذا المقال بالعدد 20 من مجلة المفكرة القانونية

مواد ذات علاقة