بقلم مختار غميض

انفرط حلف حفتر المبني على مصالح وأطماع فردية ومختلفة، بانضمام مصر إلى دول الجوار بالتطبيع مع الشرعية في طرابلس، بعد المتغيّرات الجديدة والوضع الراهن، في رسائل سياسية تلقّفتها القاهرة بطابع براغماتي مرحلي.

الجزء الأول

التطبيع المصري مع الشرعية في بطرابلس جاء بدءا بإدراك مصر لجدية التدخل التركي منذ انهزام حليفها حفتر وخلافه مع عقيلة صالح، فجمعهما السيسي تحت خيمة المبادرة المصرية في محاولة للصلح بينهما، لكن انتصار تركيا في أذربيجان وتخلي روسيا عن أرمينيا، وجدية المبادرة الأمريكية في ليبيا والرغبة الجامحة في طرد المرتزقة، عجّل بالتخلي الروسي والفرنسي والسعودي عن حفتر وانصهارهم في الحل السياسي للحفاظ على ما تبقى لهم من مصالح في ليبيا.

فقررّت مصر على خلاف الإمارات هذه المرّة، الارتماء في أحضان طرابلس باستعادة علاقتها الدبلوماسية في تحوّل غير مسبوق استباقا لتطورات إقليمية ودولية، عزّزها دور تركي قوي في طرابلس ومستمر، وبوادر مصالحة خليجية قد تغلق مصادر “الرز” السخي على السيسي وحفتر، مع أفول نجم ترامب المعجب بشخصية بـ “الدكتاتور المفضّل” وقدوم الديمقراطيين غير المتصالحين مع الاستبداد، مما ينبئ بالدخول في مرحلة جديدة.

مقدّمة

تعيش ليبيا منذ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وضعا سياسيا وعسكريا مضطربا، رغم التوصل إلى تفاهمات مهمة عسكرية وسياسية واقتصادية يمكن البناء عليها نحو إجراء انتخابات عامة وهو المكسب الذي تم الإجماع عليه، لذلك فان دولا إقليمية ستغير وجهتها بناء على تغير المصالح الجيوسياسية الأمريكية للرئيس بايدن، الذي سيركز أكثر على الملف الليبي مع البانتغون وجهاز المخابرات فيما يخص الروس على خلاف ترامب الذي ركز على الصين. كما سيركز بايدن على التغلغل الروسي الذي همّش الدور الأوروبي والأمريكي، متعاونا مع تركيا في الملف الليبي بشكل خاص..

بالتالي روسيا ستكون تحت ضغط أمريكي أكبر ولهذا تتسارع خطواتها حاليا كما تسارعت في سحب فاغنر من طرابلس وترهونة، وهذه التغيرات مرتبطة بتغيّر قواعد الاشتباك في هذه المرحلة، فقد تلقي بظلالها على العلاقات المتوترة بين تركيا ومصر من ناحية، والسعودية من ناحية ثانية، وبين حلفاء حفتر أنفسهم.

لذلك عادت مصر مبدئيا إلى محيطها وحاضنتها لتنضم إلى بقية دول الجوار المغاربي نظرا لعامل الوزن السكاني والاقتصادي للغرب الليبي كقوة حقيقية حيث ستضع القاهرة ثقلها، فلماذا جاءت مصر عن طواعية؟ وما الذي بقي لحفتر كي يناور به؟

1- المتغيّرات الجديدة

أ– دعم إماراتي يتيم وساعة صفر جديدة

رغم موافقته على وقف إطلاق النار لم يكن إعلان اللواء الليبي المتمرّد خليفة حفتر يوم عيد استقلال ليبيا لساعة صفر جديدة للزحف على قوات الوفاق تحت اليافطة القديمة المتجددة الموصوفة بالاحتلال التركي، لم يكن مفاجئا للمتابعين للشأن الليبي لاعتبارات عدة، أولها المكانة التي بات عليها الجنرال المتقاعد في الأوساط الدولية وحتى لدى أقرب المقربين من حلفائه.

فبعد تخلي روسيا ومصر والولايات المتحدة التي هاتف رئيسها منتهي الولاية دونالد ترامب، حفتر قبيل عدوانه كضوء أخضر للزحف على طرابلس، بات حفتر في عزلة تامة في الرجمة، ولم يعد يحظى سوى بدعم إماراتي لم ينقذه مما تردى فيه خاصة بعد انحياز جارته مصر، انحيازا جذريا إلى التطبيع مع الشرعية الليبية.

من هنا جاء شعور حفتر بانعزاله ولم تعد له سوى لغة التهديد والتلويح بالتحرك، ولم تعد تدعمه سوى الإمارات من خلالها تزويدها له بكميات ونوعيات جديدة من الأسلحة منذ شهر ديسمبر، في إطار عمليات تحشيد عسكرية جديدة، ظهرت جلية من خلال الهجوم على مدينة أوباري بهدف القفز على المشاورات السياسية الجارية بين المكونات الليبية المختلفة التي تهدد مصير حفتر، وريما تنتهي به مطاردا في أروقة العدالة الليبية والدولية.

دعم الإمارات الوحيد واليتيم هو دور تحطيمي لليبيا، فهي تريد حلول جذرية فيها، عبر إعلامها الذي يحضر بقوة وينظّم خطوط اتصال قوية مع الاجتماعات السياسية والقبلية كما جرى باجتماع قبائل برقة ببنغازي، وهي تدخلات لدعم الحركات الانفصالية عبر توسيع دائرة اتصالها بالمتدخلين، وهي نفس السياسة المعتمدة في أكثر من بلد، وهو موقف إيديولوجي ومبدئي لإفشال رمزية ثورة فبراير التي تجمع ولا تقصي.

بينما مصر باتت تريد مصالح أمنية واقتصادية وهذا أمر واقعي وبراغماتي بعد فشل المشروع العسكري والبحث عن إعادة التموضع، وهو نفس المنهج التي توخته مع غزة عندما صنفت حماس منظمة ارهابية ثم صارت تتعامل معها من أعلى مستوى.

أما زيارة رئيس المخابرات المصرية عباس كامل لطبرق حيث التقى رئيس برلمانها عقيلة صالح وخليفة حفتر، فلم تعد سوى زيارات مجاملة وروتينية لا جديد فيها، إلا حث حفتر على الالتزام بوقف إطلاق النار بعد خطابه المستهلك يوم ذكرى استقلال ليبيا بالاستعداد للحسم العسكري.

لكن الأقرب أن الزيارة كانت ترتيبية أكثر هذه المرة، فهي مقدمة لزيارة طرابلس، عبر قنطرة حفتر والجانب الأمني، لدفع الجهود الليبية للتمسك بالحل السياسي للمشاكل القائمة خاصة مع مسك القاهرة للملف العسكري والاقتصادي في مسارات برلين، والولوج من هذا الباب.

ب – تلاشي حلف حفتر والتخلّي الروسي الفرنسي

بدا انفراط عقد معسكر حفتر واضحا، فسَحب روسيا البساط من تحت أقدام حفتر يأتي متساوقا مع الدخول الأمريكي القوي في المشهد الليبي والضغط باتجاه سحب جميع المقاتلين الأجانب من التراب الليبي وخاصة من الحقول النفطية حيث يتمركز المرتزقة الروس.

هذا التخلي الروسي بدأ مع صفقة حكومة الوفاق التي توسطت فيها تركيا، بتسليم مقاتلي “فاغنر” الذين تم اصطيادهم في تخوم طرابلس إبان عدوان حفتر الذي ألقى بهم في أتون الحرب وفي الصفوف الأولى رغم ادعائه حينها بأنهم مجرد مساعدين لوجستيين وتقنيين، هذه الصفقة أنعشت الثقة بين طرابلس وموسكو التي تخلت من قبل ونهائيا عن حفتر لصالح عقيلة صالح الذي قام بجولات مكوكية لموسكو قبل عزل حفتر.

إلى جانب ذلك فإن حفتر شعر بتحقق خطوات عملية في المجال السياسي الأممي خاصة مع التوافق على تحديد موعد انتخابات عامة مايعني سحب البساط من تحته أو تحت عقيلة صالح، إضافة إلى تخلّي فرنسا، الحليف القوي لحفتر، عما كانت تعتقد أنه “رجل ليبيا القوي (!)”، وبالتالي دفع حفتر لتهيئة المبررات للعودة إلى مغامراته الفاشلة واليائسة، وهو ما تفسره عمليات التحشيد المتواصلة منذ أشهر  في محور سرت الجفرة وبعض مناطق الجنوب.

بل إن الأطراف الموالية لحفتر قامت باختبار مدى استعداد الخصم للحرب عند هجومها على قوات الوفاق بأوباري، وليس من الاعتباطي أن يترافق الهجوم مع زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى فرنسا، وهما الحليفين الذين انخرطا بقوة في الحل السياسي الأممي المعتمد على التخلي عن حفتر وربما عقيلة صالح (مصر تنظر للاختلاف بينهما في الفروع وليس في الأصول).

وهذا الاختلاف باتت تدركه حتى قبائل الشرق التي صارت تتحدث علنا عن تجاوزات ميليشيات حفتر وأبنائه خاصة صدام، وعملية اغتيال المحامية حنان البرعصي (عجوز برقة) دليل على مدى احتقان الموالين، فضلا عن تخوف وجوه سياسية داعمة لحفتر من احتفاظ فايز السراج بمنصبه الرئاسي مقابل رئاسة عقيلة صالح أو شخصية أخرى موالية له من تولي رئاسة حكومة الوحدة الوطنية.

إذاً، يمكن ملاحظة تحوّل كبير لدى فرنسا وروسيا والتخلّي عن نرجسيتهما تجاه حفتر مقابل التحلّي بنوع من البراغماتية نظرا لطبيعة المرحلة، وهو تطور يستبق التحول المصري، وهذا ليس بغريب فقد تخلوا كلهم من قبل عن القذافي.

إلى ذلك فإن غاية أمريكا واضحة في تهميش الدور الروسي، فالإدارة الأمريكية ليس لها من أولوية في ليبيا سوى، أمرين، الأول، هو مواجهة الإرهاب والقضاء على “داعش” في سرت ورأينا عند انتصار قوات البنيان المرصوص كيف تدخلت معها “أفريكوم”، ثم اكتشفت مزاعم حفتر بشأن وجود الإرهاب بطرابلس لكن سرعان ما تخلت عنه بعد هزيمته، والثاني، هو مواجهة التواجد الروسي بعد تدخل روسيا السنتين الأخيرتين من خلال دعم حفتر بما بين ألفين وخمسة آلاف مرتزق.

روسيا كذلك بدأت مقتنعة بفشل رهانها على حفتر، فهي اليوم تلتحق بركب المنفعيين، وتبحث من خلال “الفاغنر” عن أوراق ضغط على عكس الإمارات التي تبحث عن إفشال ثورة فبراير، فروسيا تربط مغادرتها بتحقق مصالحها، ومازال في الأذهان خروجها من جنوب طرابلس وترهونة إلى سرت والجفرة، فعدم مغادرتها نهائيا حينها مرتبط بمصالح ما تزال تطمع فيها.

ولما بقيت القاهرة وحيدة خيرت الاستقلال بقرارها عن الإمارات، والتي هي غير راضية على السيسي، وهذا واضح من خلال الوسائل الإعلامية الإماراتية وأبواق حفتر في ليبيا التي لا تزال تراهن على المتمرد، وغير آبهة لمصلحة القاهرة التي تربطها حدود وتحديات أمنية وعمالة، يكفي قرابة مليوني مصري يعملون بطرابلس وجوارها.

وأمام تلاشي الرابطة بين حلفاء حفتر يأتي تعيين المبعوث الأممي الجديد الدبلوماسي البلغاري نيكولاي ملادينوف فهو يتمتع بدمع أمريكي أوروبي وروسي وعمل كثيرا على وقف إطلاق النار بين غزة وسلطات الاحتلال في وساطات مع القاهرة، وبالتالي سيحظى برضاء الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، ويمكن أن يبنى على إنجازات وليلمز ووقف إطلاق النار.

وعموما، تلاشي معسكر حفتر مكن من تحسن المسار الاقتصادي والعسكري والسياسي، رغم وجود خلافات حول المرتزقة وكيفية تصنيفهم، وهي مسألة وقت ومزيد من التفاوض، كلها تضاف إلى مسائل تحشيد حفتر لقواته في الجفرة وسرت.

من المؤكد أنها عقبات لن تحل بين عشية وضحاها بل ستتولاها اللجنة القانونية والاستشارية المنعكفة حاليا للتشاور على توحيد السلطة وبحث المسار الانتخابي والدستوري .

لكن هناك معالم واضحة وخارطة طريق، تمثل فرصة لانتزاع الدور الروسي بما فيها إبعاد فرنسا والتي أصبح دورها هامشيا، وذلك ما جعلها تركز على جهود وقف إطلاق النار وتنخرط في المسار الأممي بقوة.

2 – هوامش المناورة: بين التطبيع والتمديد

أ – التمديد التركي

تمديد تركيا لقواتها لثمانية عشر شهرا جاء واضحا ردا على تلويح حفتر باستهداف التواجد الأجنبي، وكان الرد من مستوى رفيع مع زيارة وزير الدفاع التركي ووفد مرافق لطرابلس ساعات فقط بعد ساعة صفر حفتر الأخيرة.

وإقليميا الدور الوحيد مع الشرعية الليبية كان لتركيا رغم تأخره، البنتاغون من حوالي أسبوع قال إن الإمارات دفعت أموالا لمرتزقة “فاغنر”، وتدخل تركيا كان وراء وقف إطلاق النار الحالي، ووراء الاتصالات الأخيرة بين عقيلة صالح وتركيا، وحديث عن زيارة موفد من برلمان طبرق لأنقرة لنيل موافقتها لحصول عقيلة على منصب الرئيس الجديد لمجلس الرئاسة في السلطة التنفيذية الذي ستقره البعثة الأممية. لكن عقيلة رفض التعليق على الزيارة للإعلام السعودي، ويبدو أن الأتراك طلبوا منه القدوم للاستماع منه مباشرة حتى لا يتراجع عن مواقفه لاحقا.

تلك الأدوار ليست ببعيدة عن مصر التي تحرك المشهد في الشرق الليبي اعتمادا على حفتر وعقيلة في لعبة تبادل أدوار، لإعادة تدوير حفتر، وسحب البساط من تحت ملتقى الحوار السياسي، هي مناورة للبقاء في المشهد الجديد الذي يريده الأغلبية نهاية للمشهد القديم وقطعا معه باتجاه انتخابات جديدة.

ومعلوم أن عقيلة كان جسرا لتولي حفتر قيادة القوات المسلحة (قلة من قواته عناصر نظامية، وجله ميليشيات ومرتزقة كما تؤكد تقارير الأمم المتحدة) لذلك يمكن فهم تصريحات وزير الخارجية التركي في لقاء سوتشي الأخير، كان مباشرا، لا أحد يمكنه إخراج تركيا من ليبيا اعتمادا على الاتفاقيات الأمنية والبحرية وهي نقطة ضغط تركية قوية، ومعلوم أن امتداد الاتفاقيات يعود إلى زمن القذافي.

هذا الكلام يوضح أن تركيا تعتزم المضي قدما بما يخدم الشرعية والانتخابات ومدنية الدولة، على قاعدة من يريد السلام فليستعد للحرب، لكن خطأ حكومة الوفاق أنها لم تتمكن من أسباب القوة مبكرا وذلك لطبيعة كونها حكومة توافق وسلام، وهذا الأساس تستمر تركيا في تدريب وتخريج دفعات متواصلة للكوادر العسكرية الليبية على كفاءة واحترافية عالية.

لكن مغامرات حفتر التي عرّت فشله أمام حلفائه ربما ستحبسه مستقبلا في الرجمة كما توعّد وزير الدفاع التركي مؤخرا بمطاردته حتى لا يجد مكانا يفر إليه، ولعل التنسيق الأمني الجديد بين القاهرة وطرابلس هو من باب الحيطة والحذر من حدوث أي انفلات مستقبلي على حدودها الشرقية، تخوّفا من سيطرة تركيا على الحدود الليبية مع مصر، قبل الحديث عن قنوات خلفية بين أنقرة والقاهرة.

ومعلوم أن سياسية القاهرة لا يمكنها الاستفادة من الصراع لفترة طويلة خاصة وأن النزاع طال ولا يمكن التعويل على خاسر سوى التضحية به، في المقابل لا يمكن السماح للمستفيد (تركيا) بالتغوّل وحده والاستفراد بطرابلس، لذلك سيبحث الخاسر إثبات وجوده من بوابة السلام، عبر تأكيد تعاونه والاستفادة دوليا، ثم من خلال التداعيات، عبر سعي مصر لمنع عودة النزاع المسلح، في وضع داخلي متردٍّ.

يتبع في الجزء التالي بدءً من (ب– التطبيع المصري):

***

مختار غميض (صحفي تونسي)

___________

مواد ذات علاقة