بقلم علي عبداللطيف اللافي

مثل اتفاق الغردقة منذ أيام افقا رحبا لكل الليبيين وممرا مهما للبعثة الأممية لتتطلع لنجاح ملتقى الحوار السياسي لان نجاح بقية المسارات يتطلب في الأخير أسسا دستورية تخاض عليها انتخابات ديسمبر 2021.

منذ 2014 دخلت ليبيا أزمة معقدة التفاصيل سياسيا واجتماعيا وتداخل فيها الوطني والدولي والإقليمي، وتغيرت خارطة فرقاء الصراع بشكل تتابعي مما أدى الى غياب آليات التوصل الى اتفاقات تُمهد الى بناء دولة مدنية وديمقراطية طالما حلم بها الليبيون منذ ديسمبر 1952.

رأى الليبيون أن حلم الدولة المدنية الديمقراطية ممكنة التجسد عشية أكتوبر 2011، ولكن الحلم تبخر مجددا مع تعدد الاشتباكات وتعدد وكلاء القوى بل والاذرع الإقليمية واليوم ووسط تعدد المبادرات والوسطاء الدوليين والامميين ودول الجوار للبحث عن اتفاق سياسي يؤدي الى إقرار العمل بدستور دائم وتوافقي بين كل الأطراف القبلية والسياسية.

هل يُمكن الاتفاق على دستور ليبي يمكّن البلد من الإقلاع الى الآفاق الرحبة وهل سينجح الاستفتاء على مشروع دستور 2017 خاصة إذا ما علمنا ان كل الدساتير السابقة في ليبيا تعطّل العمل بها لأسباب هيكلية وسوسيولوجية وتاريخية أيضا؟

أي دستور لليبيا اليوم؟

الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة) ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية) وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة.

ذلك يعني أن أي شعب مهما تردّت أوضاعه يطمح عمليا إلى وجود عقد اجتماعي محترم من جميع أطرافه ومكوناته بل وينظم حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولاشك أن شعوب كثيرة مرت فعليا بأسوأ مما يعيشه الليبيون وعاشوه طوال العقود الأربعة الماضية، ثم نظمت تلك الشعوب شؤونها تحت دستور يفصل بين السلطات في هياكل الدولة.

وباعتبار ان كل الليبيين وكل فرقاء الصراع متفقين على أنه لابد من دستور جامع، قامت خطة الأمم المتحدة (منذ سبتمبر 2017) وبعثتها الحالية التي تقودها حاليا “ستيفاني وليامز” حتى 14 فبراير القادم، على حل الأزمة الليبية الراهنة على ثلاث مراحل:

ـ أولها تعديل اتفاق الصخيرات أي الاتفاق السياسي والذي تعمل أن ينتج عنه توحيد مؤسسات الدولة

ـ ثم الاستفتاء على الدستور

ـ ثم الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية

حول تعطل الدساتير والاعلانات السابقة (1919-2017)

من الناحية التاريخية لم يقم الليبيون يوما بكتابة دستور، فدستور 1919 كتبه الإيطاليون وألبسوه زورا وبهتانا لليبيين بمساعدة بعض المتآمرين، ودستور 1951م كتبته هيئة الأمم المتحدة ولم يكن لليبيين مشاركة فيه، وبعد الاستقلال قام الملك ادريس وبعض من المقربين منه بتعطيل جزء كبير من الدستور والذي يتعلق بالأحزاب والانتخابات.

ورغم أنه اعتبر يومها، وحتى بعد عقدين من الزمن، دستورا متطوراوخاصة بمقاييس ذلك الوقت إلا أنه أسئ تنفيذه في عدة مجالات منها غياب المواطنة الفعلية والبقاء على الجهوية والقبلية، وعدم الالتزام بالمواثيق الدولية، وانتشار الفساد وعدم وجود محاسبة فعلية، وهي أسباب أدت في الأخير للانقلاب على الملك وقيام بعض صغار الضباط بحركة انقلاب 1 سبتمبر 1969 بغض النظر عن تقييم مسارها لاحقا.

غلب البُعد الاقصائي على الإعلان الدستوري في زمن القذافي والمقصود هنا هو ذلك الصادر في ديسمبر 1969 والمنتهي في 2 مارس 1977، ذلك أنه وضع جميع السلطات في يد مجلس قيادة الثورة ولم يتم الالتزام به، حيث أصبحت من الناحية العملية كل خطابات القذافي المصدر الدائم للتشريع خلال أربعة عقود لاحقة، وحتى الوثيقة الخضراء المروج لها طوال سنوات ماهي في الأخير إلا للدعاية والبهرجة الإعلامية لا غير مع إعطائها رونق البهرجة والمدح من طرف بعض المثقفين سواء كانوا محليين أو إقليميين.

يُمكن القول إن الإعلان الدستوري في سنة 2011 لم يكن سوى خارطة طريق للعبور إلى محاولة تكوين الدولة ومنها الى الدستور الدائم، ولقد تم فعليا الاعتداءعليه عدة مرات بالتعديل المُخل، منها تعديل المواد الخاصة بلجنة الستين تحت ما سماه البعض بالحصار الفيدرالي وقعقعة السلاح عند الوادي الأحمر، ناهيك عن مبدأ التوافق الذي تم اغتياله من لجنة المؤتمر في أكثر من مناسبة.

رغم أننا لا نريد في مقال الحال أن نلعب دور المؤرخين الا أنه يمكن الجزم أن الشعب الليبي لم يتم استفتاءه الى حد الآن على دستور شارك في وضعه، وهذا يضع أسئلة في غاية الأهمية، منها:

في وضع التشظي السابق (2017-2020)، من يريد وضع الليبيين في مرحلة التشكيك في نضجهم السياسي؟

والحقيقة أن بعضهم طرح تلك الأسئلة المشككة حول ضرورة وجود دستور وهي في الحقيقة فكرة استعمارية وتقف وراءها خلفيات لتكريس وضع الحرب بالوكالة، ذلك أن الصراع في ليبيا ما هو الا خوض معارك من طرف ممثلين لأذرع إقليمية خادمة لقوى دولية تريد تحقيق هدفين أولهما نهب ثروات ليبيا الهائلة والنادرة وثانيهما هو المرور بيسر للعمق الافريقي.

وطبعا البعض يريد تعطيل مسالة الدستور لتبرير سياسات وأوضاع تساعد في اقتناص فرص الاستثمار مستقبلا ليس إلا .

في ليبيا بالذات من المهم التساؤل وبوضوح:

هل أن الدستور هو البلسم الذي يرتجى منه جلاء كل الأسقام والعلل للدولة الليبية؟

وأخيرا ماذا لو تم الاستفتاء على الدستور ولم يتم احترامه؟

الخطأ الجوهري الشائع في ليبيا وخاصة قبل 4 أبريل 2019 وخاصة من طرف الذين يتحمسون لإصدار الدستور بأي ثمن في زمن التشظي والحرب الأهلية، زاعمين أن ذلك سينهى المرحلة الانتقالية، بينما الحقيقة التي لا يمكن تغييبها هي أن الدستور يعمل على تحديد أدوار ومسئوليات وواجبات الفسيفساء المتناغمة لأي شعب، ولكنه لا يستطيع لحام الفسيفساء المتناثرة والمتصارعة والمتكالبة على السلطة والمال من جهة وموالية لأطراف عدة في الإقليم ثانيا، بينما تناغم الفسيفساء يتطلب وجوبا قبول الآخر ضمن اطار واحد للشعب الليبي وهو أمر كان متاحا عشية ثورة فبراير ولكنها فرصة وأهدرت لان التفكير الاستراتيجي تم تغييبه أو بالأحرى تم تعطيله.

إن كتابة دستور جامع يحتاج إلى تغيير ثقافي كبير والى بناء بنية فكرية ومجتمعية واحدة هي في تقديرنا حاليا غير متوفرة ولكنها لابد منها وستبقى مهمة الحكومات القادمة وأي تغييب لها هي جريمة في حق ليبيا والليبيين. ذلك أن صناعة دستور لشعب مشظيا يصنع السلام والوئام والنظام وهو الامر الذي كان قائما بين 2014 و2020 إضافة الى انه لابد من تغيير خاصيات غلبت على الشعب الليبي خلال العقود الماضية على غرار القبيلة والغلبة والغنيمة.

ان الليبيين لا يريدون ان يقعوا فيما وقع في مصر ما بعد 3 يوليو 2013 حيث ألغي السيسي دستور الرئيس مرسي في مصر بجرة قلم كما لا يريدون عبث الرئيس التونسي المخلوع “بن علي” في مايو 2002 بالدستور التونسي، حيث أنهم– كليبيين- رفضوا وبشدة ممارسة الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر”حينما الغى الإعلان الدستوري في بيان متلفز، ناهيك عن دساتير كثيرة بادت قبل أن ترى النور أصلا.

ولعل صمود شباب طرابلس والزاوية ومصراتة وكثير من شباب ليبيا الآخرين هو الذي افشل سيناريوهات انتاج “القذافي2” و”سيسي ليبيا”، وهي سيناريوهات كانت ستوضع على اثرها دساتير على المقاس وضد إرادة الليبيين.

خلاصة

تأثير مفهوم المواطنة والنضج الفكري لمسالة الهوية الليبية الجامعة على الدستور تعني أن الجميع قد يختلف بعضه عن بعض جغرافيا وعرقيا ولغويا ودينيا، ولكنهم يعترفون جميعا بحق كل منهم في الاختلاف تحث مظلة مساواة كاملة للجميع، ولا تهضم فئة حق فئة أخرى، وينتهي معها الارتماء والتبعية للخارج، وهنا تتجسد الهوية الليبية التي تحتاج إلى دستور ينظم حياتها.

الدستور يجب ان تكون روحه ليبية بامتياز وهو أمر في رأينا متوفر في دستور 2017 وهو ما سيمنع عمليا أن يتمسك سلفي مدخلي مثلا بأخذ فتاويه (وهي فوق القانون والدستور في رؤيته) من الرياض،

أو قومي عربي متوقف الزمن في دماغه عند ميشيل عفلق وعبد الناصر من أن يرى انه لا سلطة الا سلطة الزعيم حلا لمشاكل ليبيا، أو ابن القبيلة من أن يكون ولاءه لشيخ القبيلة أكبر من الولاء لقوانين الدولة.

ان الدستور الذي لا يفرض نصوصه على وعي من ذكرنا أعلاه سيبقى مجرد ورقة يسجلها التاريخ ضمن الوثائق التي لا قيمة لها.

قد تقتضي اللحظة التاريخية في ليبيا إنجاح المسار الدستوري ضمن تكامل المسارات الأربع (الدستوري والمسارات الثلاث الأخرى أي العسكرية والسياسية والاقتصادية) بهدف إنجاح ملتقى الحوار السياسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية توصل الليبيين لاستحقاقات 24 ديسمبر 2021 ولكن ذلك لا يبرر حوار وطني ليبي مستقبلي للإجابة أي دستور جامع لليبيا المستقبل؟

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

_______________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة