بقلم مصطفى قطبي

يكثر في هذه الأيام عدد المتحدثين باسم الشعب الليبي، وعدد المتباكين عليه، وعدد المنادين بتركه يقرر مصيره، لكنهم في الآن ذاته، وتلك مفارقة فاضحة، يحددون لهذا الشعب ماذا يريد، ومن يريد، بل وكيف يريد، وعلى أي صورة ستكون حكومته المقبلة، وما سيرسو عليه توجه دولته السياسي والاقتصادي، بل والاجتماعي أيضاً.

والحق فإن هؤلاء المتحدثين ليسوا فئة محددة، أو فريقاً معيناً، بل هم فئات تابعة لدول مختلفة ومتضاربة الأهداف والغاياتلكن أكيد أنه مخطئ من يظن أن حل الأزمة الليبية يمكن أن يأتي من الخارج أو أن تتبرع به أو تقدمه قوى أو جهات خارجية بشكل مجاني وبخاصة إذا كانت معروفة بأطماعها في ثروات ليبيا، وفوق ذلك ليس بإمكان أي جهة مهما بلغت من القوة والجبروت أن تفرض حلا في ليبيا، ما لم تكن أطراف الأزمة متوافقة على ضرورة التوصل لحل، إذ يكفي وجود طرف واحد لا يؤمن بالحوار كي يعرقل أي إمكانية للتوصل إلى حل.

تواجه ليبيا ومستقبل شعبها واحداً من أخطر وأشرس التحديات التي تقتضي من الجميع استنفار الحد الأقصى من اليقظة وتحمل المسؤولية، وإلا فسيدخل الجميع دون استثناء في ماكينة الاحتراب والانطحان بين تروس عنف رهيب لا يعرف أحد مداه ولن يتوقف إلا بتقويض أسس الدولة الليبية ونسف كل مقوماتها.

وثمة ضوء في آخر النفق، وإنها مسؤولية الجميع أن يمسك بهذا الضوء، قبل أن يغرق في عتمة قاتلة في لحظة من الفوات التاريخي، ستترك الجميع نادمين! لقد خسر الشعب الليبي وهدر الكثير من الفرص، ومع ذلك لا يمكن لأي عاقل إلا أن يرى هول الكارثة الآتية إليه، إذا لم تعالج الأزمة بأقصى درجات الحكمة والعقلانية وتجاوز الأنانية، وباستعداد الجميع للتنازل والتسوية، لإنقاذ ليبيا.

وقد آن الأوان لجميع الأطراف الليبية، الشرق الليبي الذي تديره الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني، وحكومة الوفاق بالعاصمة طرابلس ومعظم الغرب، التي يقودها فايز السراج، أن يعترفوا ويدركوا بأنه يستحيل حل الأزمة بالمستوى نفسه من التفكير الذي أنتجها، وبأنه لابد من اختراق جدار المعاندة التي لا طائل منها سوى المزيد من الموت والخراب والنزف المفتوح.

ففي ظل الواقع الليبي المأزوم وغياب الحد الأدنى من المشتركات التي تجمع الحكومتين حول سبل إدارة البلاد تشهد ليبيا تحديات اجتماعية واقتصادية وأمنية واضحة سواء في العاصمة طرابلس أو في بقية المدن والأقاليم، حيث لا تتحكم حكومة الوفاقبأغلب المجموعات المسلحة على الأرض ذات الولاءات السياسية المتعددة سواء لحزب أم لمدن أو لقبائل.

القريبون من نبض الشارع الليبي يدركون جيدا مدى تعطش الليبيين لحل يستعيد ما فقدوه من أمن واستقرار ويوقف شلال الدم الجاري من إخوة وأبناء في الجيش الوطني الليبي ومن المدنيين الأبرياء
على يد الإرهابيين والمرتزقة، ويؤسس لمرحلة من المصالحة والإصلاح والحوار ينتقل بليبيا من حال إلى حال أفضل.

فهل يعقل أن ننسى أنّ ليبيا كانت دائما سباقة لحل أزمات دول أفريقيةواليوم تعجز عن إدارة أزماتها لتلتمس الحلول وتتسوّل المساعدة عند من كانوا ينبهرون بأي شيء له نكهة ليبية؟! آن لنا أن نوقظ الروح الليبية، وننفض الغبار عن ذاكرتها وجوهرها الليبي الأصيل، لاستيعاب ما جرى والبحث عن ممكنات الحل، الذي يرضي الجميع ويلبي رغبتهم في التطلّع نحو مستقبل أفضل.

وعليه فإن تقديم الحلول الممكنة يقتضي أولاً طرح الأسئلة الضرورية وتلمّس الإجابات عنها، وعلى رأس هذه الأسئلة:
هل هنالك ليبيي عاقل يصدق بأن الأمريكيين والأوروبيين والأتراك وغيرهم حريصون على كرامة وحرية ومستقبل الشعب الليبي أكثر مما يريده الليبيون لأنفسهم؟!

هل يحق لأي مسؤول ليبي أو أي قوة سياسية أو حزبية، أن تتجاهل حقوق الليبيين في المشاركة الحقيقية في صناعة مستقبل ليبيا، وهل يمكن لأحد أن يزعم بأنه يمثل كل الشعب وبأن له الأحقية في الحكم دون الآخرين؟!

هل ثمة مبررات وأسس أخلاقية وسياسية وشرعية لأي قوة أو جهة في ليبيا تحاول تهميش أو إقصاء أو اجتثاث أو إلغاء أي قوة أخرى من المشهد الليبي لمجرد أنها تخالفها في الرأي والبرنامج والتطلعات؟!

لعل الإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر تقتضي من كل ليبي وطني أيا كان موقعه أن يعيد النظر في قناعاته ويتحرر من الآراء المسبقة والأحكام القطعية والاستنتاجات السهلة المشحونة بالعاطفة، للتقدم بخطوات جسورة وشجاعة، نحو إنقاذ الوطن الذي يواجه لحظة من لحظات القدر التاريخية، التي قد تقوده إلى الخراب والدمار والتقسيم، أو إلى الازدهار والتقدم شرط أن نعرف كيف نقبض على هذه اللحظة.

ولعل الخطوة الحاسمة للقبض على هذه اللحظة، هي إقدام الجميع ودونما تردد أو إبطاء، للمصالحة الوطنية تحت سقف ليبيا، مصالحة تضم الجميع ودون استثناء أو إقصاء أحد ودون شروط مسبقة، بحيث تنبثق عن هذا المصالحة هيئات وتشكيلات وبرامج سياسية جديدة، تؤسس لبناء ليبيا ما بعد الأزمة وذلك انطلاقاً من الأسس التالية:

1- الإقرار بأن ليبيا تعاني من أزمة مركّبة من ناحية، وتواجه مؤامرة تهدد مستقبلها من ناحية أخرى، وكذلك فإن عدم الإقرار بوجود أزمة يجعل فعالية المؤامرة أكبر، وكذلك فإن تجاهل المؤامرة سيفاقم الأزمة.

2- إيقاف كل أشكال العنف وانتزاع أدواته من الجماعات والقوى التي تهدد أمن ليبيا، على أن يترافق ذلك بخطوات إصلاحية مفصلية وحاسمة تطول رموز الفساد في جميع المستويات لتعزيز مصداقية الدولة وهيبتها لدى المواطن، ولتخفيف مصادر التوتر والعنف وإضعاف احتمالات نشوب الأزمة مرة أخرى.

3- الاعتراف بالمعارضة الوطنية، وبدورها الذي يعقلن السياسة ويرسخ الاستقرار، حيث لا يجوز التخوين ولا التبخيس بوطنية أحد، على أساس الاختلاف بالرأي.

4- إن مواجهة الأزمة تقتضي اعتراف الجميع بالأخطاء التي ارتكبت، دون أن تكون هذه الأخطاء مبرراً لأحد للتعامل بسلبية، أو بعبثية مدمرة، أو مدخلاً لتصفية الحسابات لاحقاً، مع ضرورة تحرر جميع القوى الفاعلة في المجتمع الليبي من منطق: من ليس معنا فهو ضدنا، لأن هذا المنطق يقود إلى التناحر وإقصاء الآخر، حيث لم يعد ينفع بعد اليوم التمترس خلف مفاهيم إيديولوجية، أثبت الواقع عدم فاعليتها ولا جدواها.

فنحن لا نستطيع اليوم حل الأزمة الليبية بمفاهيم سلفية أو أصولية، ولا بأوهام قومية رومانسية لاستعادة كيانات مندثرة، ولا بمنطلقات فكرية تشكلت منذ عقود، دون أن تخضع لمراجعة نقدية شاملة وجدية، ولم يتجسد أي من أهداف هذه المنطلقات في مشروع سياسي حقيقي، بل إن ما تجسد، ويا للمفارقة، هو ما يعاكس جوهر هذه المنطلقات، ويتناقض مع أهدافها!

ولذلك فإن السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو ليس عن جدوى المصالحة والحوار، وإنما عن المبرر الأخلاقي والسياسي والبراغماتي لرفض الحوار من أي طرف سياسي أو مكون من مكونات المجتمع الليبي، لأن هدر الوقت وتعطيل الحوار أو مقاطعته، يعني ترسيخ الاستبداد والإسهام في خلق بيئة إلغائية، تناحرية تنسف أي جسور للثقة في المستقبل، وتؤسس لعنف لاحق، من خلال إتاحة الفرصة أمام أسوأ أنواع القنّاصة لتحريك المجتمع الأهلي نحو التشرذم والانقسام والتقاتل.

ويندرج ضمن قائمة هؤلاء القنّاصين: متعهدو القبائل، والمقاولون الدينيون الجدد، والتكفيريون، وفلول المعارضة المهزومة تاريخياً، وحديثو النعمة الذين يدافعون عن امتيازاتهم وفسادهم، وأشباه المثقفين الطامحين نحو بريق الأضواء! لذلك فإن من يرفض الحوار يمارس شمولية مضادة، حتى ولو زعم أنه ضد الشمولية!

إن التحوّل والتغيير البنّاء لا يتم بجرائم جنائية موصوفة، ولا يتحقق دون دليل نظري واضح، وفعل تنويري يهدف إلى الاستقرار والبناء، وعقل وحكمة يقودان حواراً وشبه إجماع شعبي يجعل التحوّل رغبة مجتمعية يقبلها الشعب ويُقبل عليها، لأنها تنبع من هواجسه الداخلية، وليس من إملاءات ورغبات وأدوات خارجية تستجدي التدخل العسكري الخارجي أولاً.

وهنا المطب الأكبر الذي يقع فيه هذا الخليط من الإسلاميين والرجعيين ومدّعي اليسار والليبرالية والوطنية الذي يرون في تركيا وقطر والإسلام السياسي لا التاريخيقبلة الثورة والحرية. فالدم الليبي المسفوك ومستقبل الأجيال، يستحقان من الجميع الجلوس على طاولة الحوار، والتخلي عن الخسائر التكتيكية كأفراد وكقوى سياسية، من أجل إستراتيجية ولادة ليبيا الجديدة المتحررة من أعباء الفساد والقبلية والاستبداد لتكون نموذجاً يحتذى به، وإلا فإننا سنمنح الآخرين فرصة تحديد مساراتنا وتوجيه خطواتنا نحو موت معلن في وضح النهار.

خلاصة الكلام:

اليوم ليبيا ـ وطناً ومواطنين ـ مطلوب منهم أن يعلنوا عن إيمانهم ببعضهم، وبقدرتهم على البحث عن السبل الكفيلة لإنقاذ ليبياً، وبإرادتهم المشتركة من أجل بناء وطن التعددية، والتداول للسلطة، ووطن التقدم والحرية، ووطن الحضارة والتعايش والتسامح.

في سبيل ذلك مطلوبٌ أن تندفع الهمم نحو الآخر، والثقافة نحو الآخر، والأساليب نحو العقل المستنير، المؤمن بأن الوطن أغلى من كل عامل فيه، أو مكوّن، والخروج المشترك الآمن أغلى من أي هدف ضيّق محدود، وحماية الوحدة المجتمعية أغلى من كل منطق ثأري استعجالي مفلس، وفرز دائرة الأصدقاء والتمسك بهم، ودائرة الخصوم ومحاولة جذبهم وعدم تحويلهم إلى أعداء، ودائرة الأعداء حتى نتعامل معهم بمنهج واضح.

ويكفي ليبيا ما ألم بشعبها خلال سنوات الأزمة، إذ قلما يوجد ليبي واحد لم يتأثر أو يتأذ من هذه الأزمة، باستثناء أولئك الذي رهنوا أنفسهم للتآمر على بلدهم وباعوه لصالح أجندات الدول الممولة والمدعمة.

إن الشعب الليبي يملك من الوعي والإرادة والتصميم ما يجعله أقدر على حل مشكلاته والتخطيط لمستقبل أفضل فمتى البدأ؟!‏

***
مصطفى قطبي ـ كاتب صحفي من المغرب

___________

   الإلكترونية بوابة افريقيا

مواد ذات علاقة