عمرو عادلي، محمد العربي، إبراهيم عوض

تتجه الصراعات في سورية واليمن وليبيا والعراق نحو التهدئة، لكن إعادة إعمار هذه الدول لن تكون يسيرة. ومع أن مشهد ما بعد الحرب يختلف بين هذه الدول الأربع، تحتاج جميعها إلى خوض عملية سياسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.

الجزء الأول

مقدّمة

فيما تتجه الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو الدخول في مرحلة جديدة، باتت آفاق وتحديات إعادة الإعمار أكثر وضوحًا. بعد سنوات من الصراع، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل ستتمكن سورية وليبيا واليمن والعراق من خوض عملية إعادة إعمار ناجحة في مرحلة ما بعد الحرب، وكيف لها أن تحقّق هذا في ضوء موازين القوى الراهنة محليًا وإقليميًا ودوليًا؟

إن عملية إعادة الإعمار بعد الصراع ليست أمرًا حتمي الحدوث؛ بل يعتمد حجمها ووتيرتها ونطاقها على العوامل الجيواقتصادية في الدول الخارجة من الصراعات، أي بعبارة أخرى، كيف تؤثّر الاعتبارات الجيوسياسية على استخدام الموارد الاقتصادية.

فهذه العوامل تحدّد وجهة المساعدات أو القروض أو الاستثمارات تماشيًا مع الأهداف السياسية للقوى الإقليمية والدولية. وهكذا، قد تشكّل إعادة الإعمار فصلًا جديدًا من فصول التنافس بين مختلف الأطراف الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية في بلدٍ ما.

لهذا السبب، ستتحدّد معالم مشهد ما بعد الحرب في كل دولة بناءً على التحالفات والتنافسات التي تنطوي عليها الصراعات في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

فهذه العلاقات المتداخلة قد تقدّم منظورًا متعدّد الأبعاد يمكن من خلاله فهم العلاقة القائمة بين إعادة الإعمار بعد الحرب وموازين القوى الإقليمية.

الشروط الأساسية لإعادة الإعمار

لا شكّ في أن العوامل الاقتصادية تؤثّر في النتائج السياسية المرتبطة بإعادة الإعمار، ويتجلّى ذلك من خلال الشروط الأربعة الأساسية التي ينبغي توافرها كي تتكلّل عملية إعادة الإعمار بالنجاح.

ويحدّد كل شرط ما إذا كانت إعادة الإعمار ستتحقّق وكيف ستحدث، وهذه الشروط هي:

أولًا، توافر الموارد الاقتصادية لإعادة الإعمار، ويعني ذلك الموارد المالية بالدرجة الأولى ولكن ليس حصرًا؛

ثانيًا، الطريقة التي تنتهي أو قد تنتهي بها الحرب؛

ثالثًا، وجود أو غياب عملية سياسية على الصعيد الوطني أو الإقليمي؛

رابعًا، الهياكل الاقتصادية التي كانت قائمة قبل الحرب، والإرث المؤسساتي، وعلاقات الدولة.

ترتكز عملية إعادة الإعمار الناجحة على بناء الدولة بشكل فعّال وتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام ومتوازن وطويل الأمد. وفي حال كان ذلك ناقصًا أو مفقودًا، تتعطّل إعادة الإعمار، ما يمنح الأطراف الفاعلة الخارجية هامشًا أكبر للتأثير في مسار هذه العملية لخدمة أجنداتها الخاصة.

يُعتبر الشرط الأول، أي توافر الموارد، خطوة ضرورية لإعادة الإعمار، وإن لم تكن كافية وحدها. فوفرة الموارد محليًا وخارجيًا قد لا ترسي الأسس السياسية والاقتصادية اللازمة لإعادة الإعمار والحفاظ عليها.

وقد تفتقر بعض الدول إلى السلامة الإقليمية والفعالية المؤسساتية الضروريتين لاستغلال مواردها. يُضاف إلى ذلك أن العوامل السياسية مثل إعداد نخب جديدة وديناميكيات النظام السياسي في مرحلة ما بعد الحرب تؤثّر في آفاق الحصول على الموارد اللازمة لإعادة الإعمار.

فهذه العوامل تحدّد الدوائر الاجتماعية والسياسية المحلية التي سيتدفّق إليها التمويل، فضلًا عن الحلفاء الإقليميين والدوليين الذين سينخرطون في إعادة الإعمار. وعلى سبيل المثال، قد تواجه بعض حكومات الدول التي تخوض حروبًا عقوبات تحرمها من الاستثمارات والقروض.

كذلك، تؤدّي الطريقة التي تنتهي بها الحرب دورًا بارزًا في سير الأمور. واقع الحال أن الصراعات الأهلية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أضعفت بشكل كبير دولًا قومية كانت تعاني أساسًا جملةً من الاضطرابات، وأفقدت في الكثير من الأحيان الحكومات احتكارها لاستخدام العنف، وقوّضت سلامتها الإقليمية.

لكن مثل هذه الحالات لا تمهّد بالضرورة الطريق أمام إقامة دول جديدة أكثر تماسكًا بسبب انفصال أقاليم أو تقسيم دول أو انتصار حكومات مركزية على مجموعات وأقاليم متمردة.

بل غالبًا ما تؤدي إلى تشرذم اجتماعي سياسي وأمني دائم في دول تعاني خللًا بنيويًا كاملًا. وعادةً ما تستمرّ حالة التشرذم هذه لفترة طويلة في الدول الخارجة من حروب أهلية، وتؤثّر بشكل كبير على عملية إعادة الإعمار من خلال ثلاث طرق مترابطة في ما بينها.

أولًا، تقوّض حالة التشرذم هذه الاستقرار الأمني الذي يُعدّ شرطًا أساسيًا لاستقطاب الاستثمارات المحلية أو الخارجية، ما يعرقل تدفّق المساعدات الإنسانية الضرورية لإعادة توطين اللاجئين والنازحين داخليًا.

ثانيًا، تهدّد وحدة الأسواق الوطنية، التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالسلامة الإقليمية في مرحلة ما بعد الحرب، ما يحول دون تطبيق القواعد التنظيمية الأساسية التي تحكم النشاط الاقتصادي، مثل فرض الضرائب وتسعير الخدمات والسلع المدعومة والخدمات العامة.

وتُعتبر وحدة السوق أساسية أيضًا لأنشطة الإنتاج والتبادل التجاري، وبالتالي لتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام.

ثالثًا، غالبًا ما ترتبط حالة التشرذم المستمرة بإعادة تشكيل شبكات الدولة والأعمال بما يصبّ في صالح أمراء الحرب الذين انخرطوا في مجال الأعمال. يعمل هؤلاء الذين يُدعون روّاد الأعمال المجرمين بشكل أساسي من خلال توفير الحماية أو الانخراط في شتى أشكال العنف مثل النهب والابتزاز والتجريد من الأصول.

وهذا يعني تحييد المزيد من الأنشطة الإنتاجية من خلال الوساطة، بما في ذلك التهريب والإتجار وأنشطة السوق السوداء الأخرى، وأيضًا من خلال الانخراط في أنشطة النهب العلنية تتعدّى على حصص أطراف فاعلة أخرى في المجتمع أو السوق. كل هذه الديناميكيات تجعل من الصعب الخروج من اقتصاد الحرب الأهلية، حتى بعد انحسار الأعمال العدوانية الكبرى.

هذا ما تؤكّده التجارب السابقة في البلدان التي تُعتبر مؤسسات الدولة فيها ضعيفة. ففي أفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسلفادور مثلًا، هيمن أمراء الحرب ورجال أعمال على الاقتصاد بعد انتهاء الحروب الأهلية.

وتمكّن هؤلاء من تطبيع نفوذهم والتلاعب بالحوافز الاقتصادية لمصلحتهم الخاصة، بحيث أصبحت ممارسة العنف، وتوفير الحماية، ونهب الموارد الطبيعية، وتجنيد المقاتلين أنشطة اقتصادية سائدة تنخرط فيها شرائح واسعة من السكان.

من شأن إطلاق عملية سياسية لإنهاء الحروب أن يرسي الآليات اللازمة لإعادة توزيع التكاليف والأرباح بين المجموعات الاجتماعية السياسية في مرحلة ما بعد الصراع.

وعلى العكس، يعني غياب مثل هذه العملية الحفاظ على حالة من التفاعل غير السلمي، سواء في شكل حروب أهلية شاملة أو أشكال أقل حدة من العنف، مثل الاغتيالات أو حروب العصابات أو الإرهاب أو القمع المكثّف. عمومًا، يعتمد وجود عملية سياسية في مرحلة ما بعد الحرب إلى حدٍّ بعيد على الطريقة التي انتهت بها الحرب، مع العلم بأن هذه العملية تؤثّر بشكل كبير في إمكانية إعادة الإعمار وكيفية حدوثها.

ويرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا بالجوانب السياسية لإعادة الإعمار، سواء بشكل مباشر من خلال تقاسم السلطة أو آليات الاستتباع، أو بشكل غير مباشر من خلال وضع القواعد التي تحكم كيفية إعادة توزيع الريع. ولهذا الأمر تداعيات على بناء التحالفات وإضفاء الشرعية على السلطات السياسية في مرحلة ما بعد الصراع.

عادةً ما تتحقّق العملية السياسية على المستوى الوطني، إذ ترتبط هذه العملية بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها. لكن، في الدول المنقسمة بشدة بسبب الحرب، غالبًا ما يشارك الفرقاء الإقليميون والدوليون كمؤثّرين أو وسطاء أو محكّمين أو مُفسدين، وبالتالي يصبحون جزءًا من هذه العملية.

وعلى النقيض من هذا، فإن غياب الترتيبات الأمنية والسياسية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تخوض حروبًا قد يحوّل مسار إعادة الإعمار والتعافي إلى امتدادٍ للتنافس الإقليمي والدولي.

في نهاية المطاف، يُعتبر الإرث الاقتصادي الذي كانت تتمتّع به الدول ما قبل الحرب مهمًّا أيضًا في تحديد ما إذا كانت إعادة الإعمارستؤدّي إلى تعافٍ اقتصادي طويل الأمد بدلًا من مجرّد إعادة تأهيل مادية للدول المتضرّرة من الحرب.

ويمكن أن يشكّل هذا الإرث الاقتصادي إما فرصة أو عائقًا يحدّد تأثير إعادة الإعمار من المنظورَين السياسي والاقتصادي. فهذا الإرث قد يعزّز أو يعرقل مسار التنمية الشاملة التي يشارك فيها المواطنون في إنتاج وتوزيع القيمة للتأثير على آفاق إعادة الاندماج الوطني وبناء الدولة.

في هذا الصدد، لا بدّ من التركيز على عاملين مترابطين:

الأول هو أن الدول التي تعتمد بشكل كبير على الريع، المستمدّ من الموارد الطبيعية أو التحويلات أو المساعدات الخارجية، لديها فرص أقل للانخراط في التنمية الشاملة على المدى الطويل، ذلك أن قطاعاتها الإنتاجية ضعيفة في الغالب، ويعتمد نمو ناتجها المحلّي الإجمالي بشكل كبير على مصادر خارجية لرأس المال أو مصادر محلية ضيقة للغاية، وعلى العائدات الحكومية، والصادرات.

ويكمن العامل الثاني في حجم القطاع الخاص ونشاطه. فكلّما تنامت حصة القطاع الخاص في مرحلة ما قبل الحرب من حيث التوظيف والإنتاج والاستثمار، زاد احتمال أن تفضي إعادة الإعمار إلى التنمية الشاملة والتعافي الاقتصادي على المدى الطويل.

يُشار إلى أن الدول التي تحصل على نسب عالية من الريع تضمّ في الغالب بيروقراطية عامة متضخمة وقطاعًا خاصًا صغيرًا. وعادةً ما تكون أقل إنتاجية وتعمد إلى إعادة تدوير الريع بدلاً من إنتاج القيمة، سواء من خلال المضاربات العقارية أو الوساطات المالية وعمليات السمسرة. يُضاف إلى ذلك أن المجتمعات التي تسود فيها مثل هذه الأنشطة الريعية غالبًا ما تكون أكثر عرضة للصراعات الأهلية.

***

عمرو عادلي ـ أستاذ مساعد في الجامعة الأميركية في القاهرة، ومؤلّف كتاب بعنوان (الرأسمالية المتصدعة: الأصول الاجتماعية لفشل السوق في مصر).

إبراهيم عوض ـ أستاذ في ممارسة الشؤون العالمية ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين في الجامعة الأميركية في القاهرة.

محمد العربي ـ باحث بارز في الشؤون الدولية والأمنية مهتمّ في المسائل الجيوسياسية والجيواقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي الدراسات المستقبلية التطبيقية.

_____________

مواد ذات علاقة