مصطفى عبد السلام

خلال الفترة الأخيرة خطت ليبيا خطوات مهمة نحو إنهاء حالة الانقسام المالي الشديد في البلاد، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والنقدي، وتوحيد مؤسسات الدولة خاصة البنك المركزي ووزارة المالية وهما الجهتان المسؤولتان عن تدبير الرواتب والأجور، وإدارة إيرادات الدولة ودينها العام وفوائضها واحتياطياتها من النقد الأجنبي، وتلقي حصيلة الإيرادات النفطية المصدر الرئيسي للخزانة العامة، ووضع نظام مالي شفاف يضم إعادة توزيع الثروة بشكل عاجل على الجميع.

وتحت شعار بلد واحد، حكومة واحدة، جيش واحد، ميزانية واحدة، أعلن نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا أحمد معيتيق، ليل يوم الأحد، عن إسدال الستار بشكل رسمي عن حقبة ذلك الانقسام المالي الحاد بين وزارتي المالية في شرق وغرب البلاد، وهو ما يعد اللبنة الأولى في طريق توحيد مؤسسات الدولة حسب وصفه.

إنهاء حالة الانقسام المالي وإحالة رواتب كل موظفي الدولة إلى مصرف ليبيا المركزي بطرابلس ليتولى وحده إدارة هذا الملف

واكبت تلك الخطوة المهمة إحالة وزارة المالية بحكومة الوفاق الوطني رواتب كل موظفي الدولة بمختلف القطاعات والوحدات الإدارية إلى مصرف ليبيا المركزي بطرابلس ليتولى البنك إدارة هذا الملف المهم والحساس لكل الليبيين بعد فترة تخبط دامت سنوات بسبب انقسام البنك المركزي إلى بنكين، واحد في طرابلس يخضع لحكومة الوفاق، وآخر في الشرق يخضع لقوات خليفة حفتر.

وتمهد خطوة توحيد البنكين المركزين لتحقيق استقرار نقدي، وتولي جهة واحدة طباعة البنكنوت الليبي في الخارج، وإدارة الاحتياطي النقدي، والتفرغ لاسترداد أموال ليبيا المنهوبة في الخارج.

كما تمهد الخطوة لطيً أزمات عدة عانى منها رجل الشارع، منها أزمة تأخر صرف الرواتب ومنها رواتب حرس المنشآت النفطية المستحقة، والنزاع العميق بين المؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي والذي شكل أحد أوجه الخلافات الاقتصادية العنيفة بين طرفي الصراع في ليبيا.

سبق هذه الخطوات اعلان وزارة المالية بحكومة الوفاق الوطني بطرابلس في 20 فبراير/شباط الماضي، عن اعتماد اللجنة الفنية المشتركة، المؤلفة من مسؤولين ماليين من الحكومة الشرعية والحكومة الموازية، شرقي البلاد، للميزانية العامة الموحدة، وهو ما يغلق الباب أمام إهدار أموال الدولة، وتأخر صرف رواتب الجهاز الإداري بما فيها قوات الجيش والداخلية، وتدبير التمويل اللازم لتمويل واردات البلاد من الأغذية والأدوية والسلع الرئيسية والمواد الخام والسلع الوسيطة.

ليبيا باتت على موعد مع مرحلة جديدة، حكومة منتخبة تعمل على إعادة الاستقرار الأمني والمالي والاقتصادي للبلاد، وزيادة الإنتاج النفطي لمعدلات ما قبل الثورة الليبية وهو 1.7 مليون برميل يوميا، وهو ما يوفر سيولة تلبي احتياجات المواطن

أموال وثروات ليبيا ستوجه لخدمة المواطن بدلا من توزيعها على القوات الأجنبية والمرتزقة وشراء السلاح والولاءات الخارجية

وبنك مركزي واحد يقوم بمهامه في إدارة الملف الاقتصادي والمالي للبلاد، والبحث عن أموال ليبيا المنهوبة من قبل نظام القذافي ومؤسسات مالية وبنوك استثمارية دولية استغلت حالة الفراغ السياسي والأمني في البلاد ووضعت يدها على مليارات الدولارات من أموال الشعب الليبي.
كما يتولى البنك المركزي إعادة توزيع الثروة على المناطق المختلفة في البلاد دون أن تستأثر المناطق النفطية بالنصيب الأكبر من هذه الثروات.

وكذا إدارة أموال الدولة بشكل كفء بحيث يتم توجيهها لتمويل مشروعات البلاد التننموية وإعادة بناء البنية التحتية المتردية، وتحسين مستوى الخدمات بدلا من توزيعها على القوات الأجنبية والمرتزقة وشراء السلاح والولاءات الخارجية ومنح النفط الليبي مجاناً لأطراف خارجية تصر على إشعال الداخل الليبي.

**********

عشر سنوات على الصراع الليبي

سهام معط الله

عشر سنوات مرَّت على اندلاع الثورة الليبية، وما زال هذا البلد العائم على بحار من النفط مشتعلاً بنيران الصراعات والنزاعات، وما زال الاقتصاد الليبي رهينة الانقسام السياسي العميق والصراع التنافسي على كعكة السلطة والنفط. لقد تجمَّع العشرات من الليبيين في أوائل فبراير/شباط 2021 في جنيف لتشكيل سلطة انتقالية أخرى على أمل تمهيد الطريق لانتخابات أخرى وحكومة يمكن أن تعيد البلاد إلى المسار الصحيح وتستحضر الاستقرار الذي سُلِب منها منذ سنة 2011.

وفي خضمّ الغموض الذي يُخيِّم على مصير الأزمة الليبية، تنقسم احتمالات نجاح وفشل الحكومة الانتقالية الجديدة برئاسة رئيس الوزراء المنتخب عبد الحميد الدبيبة إلى 50/50 في أحسن الأحوال.

لقد تأزَّمت الأوضاع الاقتصادية في ليبيا بشكل ملحوظ، كما تعرَّض إنتاج النفط إلى تعطيلات متكرِّرة كإغلاق حقول النفط، بالإضافة إلى افتقار تلك الحقول إلى الصيانة، التي تُكلِّف مليارات الدولارات، لا سيَّما في ظل الإيرادات المفقودة، فقد تراجع إنتاج النفط الليبي من 1.2 مليون برميل يومياً في ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى مليون برميل يومياً في إبريل/نيسان 2020 وفقاً لتقرير البنك الدولي ليبيا: الآفاق الاقتصادية أكتوبر 2020″.

لم يجد الاقتصاد الليبي أي مؤسسات ليستند إليها، ولم يتمكَّن من التقاط أنفاسه في بلد مجزأ، فيه الكثير من الأسلحة القادمة من الجهات الخارجية سواءٌ الطامعة في الثروات الليبية، أو المستفيدة من استمرار الوضع المأساوي على ما هو عليه.

لقد ضاعت بوصلة الاقتصاد الليبي بسبب الفراغ السحيق في السلطة، وسارع العديد من اللاعبين إلى ترسيخ مواقعهم وبسط يدهم على موارد البلاد، كما تأجَّج الخلاف بين الليبيين بمختلف انتماءاتهم السياسية وتياراتهم حول حصتهم من تلك الموارد، وفي ظل غياب المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لإدارة الخلافات وتفكيك طلاسم الأزمة وتغوُّل المليشيات والمرتزقة والعصابات الإجرامية والجماعات المتطرِّفة، ازدادت ليبيا غرقاً في مستنقع الصراع.

أما بالنسبة للمجتمع الدولي فقد وقف متفرِّجاً على الأزمة في ليبيا وساعد، بشكل أو بآخر، على الغزو بدلاً من المشاركة في حلّ تلك الأزمة، وفقاً للمثل الشعبي القائل إذا وقعت البقرة كثرت سكاكينهاطمعاً في حليبها الأسود الذي لم ينضب، حتى مؤتمر برلين الذي انعقد في 19 يناير/كانون الثاني 2020، بهدف تسوية النزاع الليبي، لم يعدُ كونه مجرّد خطوتين إلى الوراء مقابل كل خطوة إلى الأمام.

وكان من الطبيعي أن يفشل هذا المؤتمر في حلّ تلك الأزمة المتجذِّرة في بلد تنتشر فيه القواعد العسكرية الأجنبية ويعجّ بالمقاتلين القادمين والمدعومين من الخارج، خاصة أنّ الهدف المبطن كان غير الهدف المعلن. في الحقيقة، لم يكن ذلك المؤتمر يسعى إلى التوفيق بين الليبيين بقدر ما كان يسعى إلى تحقيق التوافق بين الغربيين.

بعد مرور عشر سنوات على الحرب في ليبيا، يمكن اختزال المسار الذي مرَّ به الاقتصاد الليبي بمرحلة انتقالية من اقتصاد القذافي إلى دوامة الإفلاس المالي، وساعد على ذلك افتقار ليبيا للأرضية المؤسساتية الملائمة، البنية التحتية الداعمة، المظلة التشريعية المؤهلة والرؤية الاﺴﺘﺭﺍﺘﻴﺠﻴﺔ الوﺍﻀﺤﺔ.

وهكذا صارت الثروات الليبية مستباحة يتكالب عليها الطامعون من كل حدب وصوب، ويبقى الليبيون وحدهم يدفعون ثمن ضياع وطنهم وثرواتهم، فهم يواجهون صعوبات معيشية فعلية، تفاقمت مضارها مع ارتفاع معدل التضخم الذي قدَّره صندوق النقد الدولي بـ 22.25 في المائة في سنة 2020 مقارنة بـ 4.56 في المائة في سنة 2019.

لقد أشارت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا إسكوافي تقرير لها تحت عنوان الكلفة الاقتصادية للصراع في ليبيا، أصدرته في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، إلى أنّ الخسارة التي ألحقها الصراع في الناتج المحلي الإجمالي لليبيا قُدرت بـ 292.2 مليار دينار ليبي خلال الفترة الممتدة ما بين 2011 و2015، أي ما يعادل 65.62 مليار دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي للدينار الليبي الذي يعادل 4.45 دنانير للدولار الواحد.

كما أشار التقرير إلى أنّ كلفة الحرب في ليبيا بين العامين 2016 و2020 يمكن أن تصل إلى 491.2 مليار دينار أي ما يعادل 110.32 مليارات دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي للدينار، هذا وقد قدَّرت إسكوافي تقريرها التكلفة الإجمالية للصراع الليبي منذ اندلاعه سنة 2011 بـ 783.4 مليار دينار أي ما يعادل 175.95 مليار دولار.

وجاء تقرير إسكوابتقديرات تعكس نظرة تشاؤمية متزايدة لليبيا إذا استمرّ الصراع فيها والذي ستصل تكلفته خلال الفترة الممتدة ما بين 2021 و2025 إلى 628.2 مليار دينار أي ما يعادل 141.09 مليار دولار، لتصل بذلك التكلفة الإجمالية للصراع الليبي بين عامي 2011 و2025 إلى ترليون و411.6 مليار دينار أي ما يعادل 317.04 مليار دولار.

تُقدِّر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “UNHCR” عدد اللاجئين وطالبي اللجوء من ليبيا بـ 50605 ليبيين، وتفيد إحصائياتها بأنّ 268629 ليبيا قد نزحوا داخلياً، وأنّ هناك ما يقارب 1.3 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، ولم يكتفِ الصراع في ليبيا بتنغيص حياة الليبيين بل ألقى بظلاله أيضاً على الدول المجاورة كالجزائر، تونس، مصر والسودان التي كان مواطنوها يجدون في ليبيا متنفَّساً اقتصادياً لا سيَّما من ناحية التجارة والاستثمار والعمالة.

خلاصة القول، إنّ الدعم الدولي مطلوب جدّاً لإسناد الحكومة الجديدة التي تضمّ شخصيات تكنوقراطية ذات خلفيات غير مدنَّسة بالحرب قبل أن تنزلق البلاد مجدَّداً إلى جولة أخرى من الصراعات والنزاعات أعقد وأشدّ من ذي قبل.

وفي حال فَرَض التأييد الدولي نفسه وتمكَّن من حلحلة المشهد الليبي المعقد ينبغي أن يتم التركيز بشكل أساسي على إعادة التأهيل والإعمار في القطاعات المتضرِّرة من الصراع بغية وضعها على الطريق الصحيح للتعافي السريع، بالإضافة إلى تشجيع كبار المستثمرين الأجانب على العودة إلى ليبيا بهدف إعطاء الضوء الأخضر لجاهزية البلاد لاحتضان المشاريع الاستثمارية في شتى المجالات.

_____________

العربي الجديد

مواد ذات علاقة