خيري عمر

بعد منح حكومة الوحدة الوطنية الليبية الثقة بتصويت أقرب إلى الإجماع، 10 مارس/ آذار الحالي، بدت مؤشّرات واضحة على وجود فرصة لتحويل الصراع ومراجعة السياسات العامة.

وفي هذا السياق، يبرز نمط من القيادة الجماعية يمكن أن يشكّل ركيزة للخروج من المرحلة الانتقالية. وبالتالي، فإن من الأهمية تناول العمليات المرتبطة بتكوين الحكومة وخياراتها السياسية، ومدى القدرة على تجاوز التحدّيات.

على مدى الفترة السابقة، ارتبطت معضلة إعادة ترتيب المرحلة الانتقالية بغياب أطر للتراضي بشأن نقل السلطة إلى حكومة أخرى. ساهم التدخل الدولي والحرب الأهلية في تأخير الحل السلمي، غير أن الأمم المتحدة، مع إخفاق الحل العسكري، نشطت في بدء مشوار نقل السلطة عبر صيغة ملتقى الحوار السياسي“.

وعلى الرغم من تضاؤل التفاؤل في المراحل التمهيدية في فبراير/ شباط 2020، ساهم التنافر الروسي ـ الأميركي في إتاحة الفرصة لتفعيل الحوار السياسي، وخفض التنافس الدولي على ليبيا. فمنذ ظهور النزاع على السلطة في 2014، ظلت الحكومات السابقة تتشكل على خلفية الانقسامين، السياسي والجهوي.

ويمكن الإشارة إلى ظهور الحكومة المؤقتة بجانب حكومة الإنقاذ الوطني، ثم زادت لاحقاً لتكون ثلاث حكومات بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني في مارس/ آذار 2016. وقد يُساهم سرد هذه الأحداث في فهم عمق الأزمة السياسية وتداعياتها على تماسك الدولة. كان واضحاً أن شيوع الثقافة الانقسامية صار واحداً من صيغ شكل الدولة.

وانعكست هذه الروح في الحرب الأهلية، وازدواج مؤسسات الخدمة العامة. وقد ظل وزراء حكومة الوفاق في حالة نزاع قانوني، بسبب عدم إتمام إجراءات الثقة، وصاروا في وضع المكلفين بالسلطة على قسمٍ من أراضي الدولة فقط، ووقعت الجهات السياديةتحت هيمنة المشروع العسكري لخليفة حفتر والمجموعات المسلحة في الغرب.

وهنا، يمكن الإشارة إلى قيام تركيبة المجلس الرئاسي السابق على أساس المناكفة والولاءات الفرعية وشيوع قناعة تعطيل المؤسسة والاستقالة منها، فقد وصلت حكومة الوفاق في ظل احتدام أزمة سياسية وتباين المواقف حول الاتفاق السياسي. وكان لتلك الظروف تأثير واضح ظهر في طريقة تسليم السلطة ودخولها مقارّ الحكم. وقد أكسبت هذه الوضعية تنازعاً على السلطة ما بين ثلاث جهاتٍ يعاني كل منها من أزمة شرعية، لازمته حتى تسليمها السلطة أو خروجها منها.

ومع تفاقم أزمة السلطة وفشل الدولة، بدأت محاولات لتطوير الحوار السياسي، عبر صياغة أفكار لتشكيل الحكومة، وصلت، في نهاية مشوارها، إلى التمثيل المتقارب للدوائر الانتخابية. وتحويل ثقافة تقاسم الدولة إلى حالة المشاركة، طريقة لامتصاص الغضب والفتور وتجميع المصالح.

وقد أتاحت خريطة طريق المرحلة التمهيديةالفرصة لتشكيل الحكومة الوطنية، للتخلص من الانقسام المَرَضي. قامت الصياغات على بناء بدائل مفتوحة، للمزج ما بين المعايير الجهوية والفكرة الوطنية، وإعادتها إلى مركز النقاش والتداول السياسي.

وقد شكل الوصول إلى نظام القوائم فكرة عبقرية، فهي أضعفت تأثير الجهوية، كما تتجنب تشتت الأصوات والعتبة الانتخابية، 75%، ما يشكّل مؤشّراً على مراجعة النظام الانتخابي، وحفز المكونات الإثنية والجهوية على دعم التكامل الوطني. ولعل اختيارها عبر نظام القائمة يوفر حالة تضامنها الداخلي بطريقةٍ لم تتوفر سابقاً.

وعلى خلاف الحكومات السابقة، تبدو تركيبة حكومة الوحدة الوطنية مختلفةً إلى حد كبير، بمعايير تشكيل السلطة التنفيذية واتجاهات لجنة ملتقى الحوار السياسيلاختيار حكومة متجانسة، وتبتعد عن المحاصصة المباشرة.

وأظهرت عمليات تشكيل الحكومة قدرةً على التوليف بين التطلعات المحلية والوطنية للتمثيل السياسي وضبط البرامج قصيرة المدى. وبجانب ضمان الانفتاح المتماثل على كل المناطق والمدن الليبية والحياد في توزيع الموارد والخدمات، وضح مدى إدراك رئيس الحكومة، الدبيبة، حالة انتهاك سيادة الدولة وأهمية استعادتها.

وبجانب تقديم نخبة سياسية جديدة تتمتع بتواصل مقبول مع المكونات الليبية، تبدو المساهمة الأخرى في تضامن الحكومة عبر التمييز الرضائي ما بين سلطة السيادة وسلطة التنفيذ. وفي طريقة أقرب إلى العمل الجماعي، لا تظهر التنافسية الصراعية على استحواذ الوظائف أو المزاحمة بين المستويين.

يعمل هذا النمط من التكوين على بلورة التضامن ما بين مستويات السلطة وتقديم صورة واحدة للعالم.

على أية حال، تتقارب ظروف تكوين الحكومة الحالية مع حكومة عبد الرحيم الكيب، رحمه الله، (نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 – نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) مع اختلافات في نضج شروط الانتقال الآمن والواقعي، وهو ما يُعدّ من مكتسبات المرحلة الماضية.

ظلت حكومة الكيب وفيّة لمهامها المؤقتة، لكنها لم تستطع مواجهة تفاوت تطلعات المطالب الثوريةوجموحها. بدت حكومة الوحدة الوطنية ورئيس مجلس النواب أكثر تجاوزاً للانقسامات الوهمية. ويعبر تواصلها المتتابع مع خليفة حفتر وخالد المشري وغيرهما في صورة تعمل على توسيع مساحات الثقة في الحكومة الجديدة.

ويشير تنقل مسؤولي السلطة بين ربوع البلاد نقلة مهمة في احتواء انقسامات المرحلة الماضية. وكان لافتاً أنها كشفت عن ضحالة الخلافات من جانب. ومن جانب آخر، أوضحت أن محاولات رسم فواصل سياسية غير منطقية.

وتمثل المناورات أو المشاورات بشأن مقر انعقاد مجلس النواب لمنح الثقة للحكومة علامة فارقة في القدرة على التمييز بين الحاجات الثانوية والأصلية.

لذلك، بدا التلاقي على أهمية الانعقاد مهمةً دستورية، فيما توزّعت الاجتماعات المرتبطة بإتمام تقنين الحكومة على سرت وطرابلس وبنغازي، في صورة مغايرة للمناقشات الحادّة في 2014 بشأن توزيع المقار الحكومية على الأقاليم الثلاثة.

وعلى نحوٍ مماثل، تلقى الحكومة الحالية قبولاً مستقراً من البلدان المتنافسة على التحكُّم والسيطرة على السلطة والموارد الليبية. وصارت تنسج علاقاتها التعاونية في سلاسةٍ كان يصعب توقعها في الماضي القريب.

يتشكّل نوع من التحرّك السلس بين العواصم الإقليمية؛ كان الانتقال من القاهرة إلى أنقرة علامة لافتة على ظهور شخصية السلطة الليبية، وقدرتها على الدخول في تفاهماتٍ بشأن القضايا الأساسية، كاحترام السيادة والالتزامات المتبادلة تجاه المهام الأمنية والعسكرية والاقتصادية.

يتسم خطاب الحكومة الحالية بالواقعية مقارنة بالحكومات السابقة، فكما يعمل على معالجة مشكلة سيادة الدولة وسيطرتها على الإقليم، فإنه يسير باتجاه تذويب الفوارق، ما بين الشرق والغرب والجنوب، ومراجعة الاستبعاد على خلفية أيديولوجية.

وتمثل هذه التطورات مناخاً سياسياً يتسع لصهر الاختلافات السابقة، ويمنح حكومة الوحدة الوطنية ميزة تفضيلية عن الحكومات السابقة. ويساهم وضع ليبيا دولة فائض اقتصادي في تحييد الضغوط الخارجية في وقت قصير. وفي زيارات ممثلي الحكومة مصر وتركيا، واتصالاتها مع دول أخرى، دخلت المناقشات مباشرة على قضايا الأمن والاستثمار والعلاقات المتكافئة.

وعلى المستوى المحلي، قد تواجه الحكومة الحالية صعوباتٍ في استعادة التوازن بين المستويات السياسية والإدارية والأمنية، وتخفّف القدرة على إدارة الموارد من حدتها.

وبعد حدوث تقدّم في تشغيل قطاع النفط؛ المورد الرئيس للنفقات العامة، بجانب إصلاحات في السياسة النقدية والنفقات العامة، تظل مشكلات الفساد وجمع السلاح غير الشرعي معضلةً تحتاج لمراحل تتجاوز المرحلة التمهيدية، ويمكن أن تبدأ بالتهدئة والتوسع في إجراءات بناء الثقة وتوسيع السياسات العامة لتشمل إدماج المسلحين.

وقد تمثل مطالب تجمع مكونات برقة الاجتماعية والسياسية والحقوقية، 15 مارس/ آذار 2021، بمحاسبة المتورّطين في الاغتيالات والفوضى الأمنية، وهي صورة من نقل عبء مكافحة المسلحين من الحكومة إلى المجتمع وترتيبها في مساراتٍ قضائية بعيدة عن المزايدة السياسية.

في هذه الظروف، يمكن ترتيب أولويات الحكومة في إعادة بناء السلطة للوصول إلى انتخابات 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. قد يوفر ترتيب الأولويات على هذا النحو فرصة لتكوين السلطة السياسية والقضائية اللازمة للمحاسبة، وتهيئة المناخ لجبر الضرر، حيث تبدو الحاجة لتحرير إرادة المجتمع من التسلط وموانع التعبير السياسي.

وهنا، تبدو حالة اغتيال محمود الورفلي، القيادي في قوات خليفة حفتر، خاصةً في طريقة التعامل مع الراغبين في الخروج على السلطة. يصعب تطبيق هذا النمط على حالاتٍ أخرى، حيث تقدّم الحكومة نفسها سلطة فك اشتباك، بهدف إعادة التوازن بين الأطراف الليبية.

يقلل من أهمية مثل هذه الحوادث تمتع الحكومة بالتجانس والقدرة على التوليف ما بين التناقضات بطريقة سهلة ومقبولة لدى متنازعين كثيرين. وتشير صور التلاقي بين المتنافرين من الشرق والغرب ومشاهداته إلى هشاشة أسباب الصراع.

وبشكل عام، تبدو الحكومة الحالية أفضل إدراكاً للمهام والتحدّيات المؤقتة. وتميل تصريحات المجلس الرئاسي والجهة التنفيذية ومواقفهما إلى التأكيد على ارتباط مهامها بانتهاء المرحلة التمهيدية.

يعزّز ابتعاد المتنافسين، في المرحلة السابقة، عن مراكز السلطة في توفير فرصة مزدوجة؛ حيث يساهم غيابهم في إفساح الطريق أمام التواصل المباشر بين الحكومة والجماهير، وتهيئة البيئة للسِلم الاجتماعي.

_________

مواد ذات علاقة