علي عبداللطيف اللافي

التطورات في خامس أكبر دولة افريقية من حيث المساحة، كبيرة وغير مسبوقة بل وألقت بظلالها على كل الإقليم خاصة وأن التشاد هو بلد تغلب على فعله السياسي والاجتماعي مؤثرات التاريخ والجغرافيا وهو ما توضح في الاحداث الأخيرة، ولكن ما هي السيناريوهات الأربع في التطور الدراماتيكي للأحداث؟ وكيف تم منطق التأثير والتأثر بين الإقليمي والمحلي وهل ان الاحداث الأخيرة والجارية منذ أكثر من أسبوعين هي بالأساس ذات أبعد إقليمية؟

 تمهيد

اندلعت  احتجاجات في العاصمة التشاديةنجاميناومناطق أخرى، حيث خرج المحتجون إلى الشوارع للمطالبة بالعودة إلى الحكم المدني، وألقت الاحتجاجات الضوء على الأجواء المشحونة في تشاد بعد وفاة ديبي“(19 أبريل)،حيث يجد الانتقال العسكري صعوبة في كسب تأييد شعب ضاق ذرعا بانفراد ديبيبالسلطة على مدى 30 عاما، وعمليا اعتبر بعض السياسيين المعارضين تولي الجيش للسلطة انقلابا، وطلبوا من أنصارهم تنظيم الاحتجاجات تلو الأخرى، ولم تفلح خطوة تعيين سياسي مدني هو ألبرت باهيمي باداكرئيسا لحكومة انتقالية الاثنين 26 أفريل الجاري حيث تواصلت الاحتجاجات في كل ربوع البلاد تقريبا

-1- التشاد والمؤثرات الكبرى للتاريخ والجغرافيا في الأحداث الأخيرة 

تقع التشادفي شرق الصحراء الكبرى وسط أفريقيا، وتحدها ليبيا من الشمال، والسودان من الشرق، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب، والكاميرون ونيجيريا من الجنوب الغربي، والنيجر من الغرب. وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين؛ شمالي صحراوي قاحل، وجنوبي استوائي خصب، وهذا الانقسام الجغرافي سبب في نزاع بين سكان الشمال الجاف، وسكان الجنوب الخصيب.

تاريخياً، يقال إن التجمّعات السكنية بدأت تستوطن حول بحيرة تشادفي الألفية السابعة قبل الميلاد، وكان موقع البلاد على طريق التجارة عبر الصحراء الكبرى سبباً في كثير من الهجرات التي أدت إلى اختلاط الأجناس والأعراق، فباتت تشادمُلتقى للحضارات والهجرات والتبادل الثقافي بين شمال القارة السمراء وجنوبها.

خضعت تشادللاحتلال الفرنسي عام 1920 وهو ما يفسّر كون اللغة الرسمية هي اللغة الرسمية في الدوائر الحكومية للبلاد، إلى جانب اللغة العربية التي أصبحت لغة رسمية عام 1985، إلا أن السكان الذين يقدر عددهم بـ 16 مليون نسمة، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، يتكلمون نحو 100 لغة ولهجة محلية، وهي لهجات يصعب فهمها بين قبيلة وأخرى، وإن كان بعضها مشتقاً من لغة واحدة، وطبيعي بالتالي، أن يعكس تنوع اللغات واللهجات تنوعاً في الأجناس والأعراق، والأديان.

يشكل المسلمون نحو 55 في المائة من السكان، ويسكن معظمهم شمال البلاد، في حين يشكل المسيحيون نحو 40 في المائة، ويسكنون في الجنوب، ووفق الإحصائيات، تضم تشاد أكثر من 260 قبيلة، منها 25 قبيلة عربية.
ويمكن تصنيف المجموعات العرقية في تشاد إلى 3 مجموعات أساسية:

  • مجموعةالساراوتسكن المنطقة الجنوبية الرطبة الخصيبة، ويتكلم أفرادها لهجات تنتمي إلى عائلة اللغات النيلية الصحراوية، ومعظمهم من العرق الزنجي، وتجاورهم قبائل اللاكاوالمبوموالغولاوالتوماكوالتانغال“.

  • أما المجموعة الثانية فتسكن الإقليم المداري شبه الجاف، وتضم البامامن الباغِرمي” (مؤسسي مملكة باغرمي“)، وقبائل الكانوري، والعرب(ومعظمهم ممتدون خارج تشاد، وتتزايد أعدادهم باتجاه الشمال والشمال الشرقي في منطقتي ودايوكانم

  • المجموعة الثالثة هي مجموعة التبو، التي يسكن أفرادها جبال تيبستيوهضاب إينديبوركوفي شمال تشادوأفرادها من أصول نيلية

نالت تشاداستقلالها عام 1960 ويومها تولى رئاستها فرنسوا تومبالباي، ولكنها عانت حالة من الاضطراب السياسي، إذ اندلعت حرب أهلية عام 1965 حيث غزا المتمردون العاصمة نجامينا” (“فور لاميسابقاً) وتواصل الاضطراب السياسي حتى بداية الثمانينات حيث سيطر حسين حبري على الحكم عام 1982 منهياً سنوات الحرب الأهلية، غير أن حكم حبري (من قبيلة القرعان أي من مكون التبو“)لم يدم طويلاً، إذ أطيح به سنة 1990 بعد وصول قوات إدريس ديبيالتي انطلقت من السودان، وهذا الأخير تولى حكم البلاد 31 سنة وسط عدة محاولات فاشلة للانقلاب على حكمه في أكثر من مناسبة وتزوج خلالها 13 مرة.

يرجع المراقبون حالة الاضطراب والحروب المتواصلة في تشاد إلى الولاءات الإثنية والقبلية التي تحكم عقلية السكان، في محاولاتهم السيطرة على الحكم، في ظل ضعف الأحزاب السياسية،ودخلت تشاد وفقا لذاك في حلقة مفرغة من الصراع بين الشمال والجنوب، بين العرب وقبائل التبو، بل حتى بين فروع القبيلة الواحدة (على غرار ما حدث بين الرئيسين السابقين غوكوني عويديوحسين حبريوهما من التبو“)

تبرز التحالفات والانتماءات القبلية في الصراعات خارج حدود تشاد، ويعد نزاع دارفور نموذجاً على ذلك. إذ إن الروابط العائلية والقبلية التي تربط بين عائلة الرئيس ديبي، وقادة «حركة العدل والمساواة» في دارفور، وانتماء ديبيلقبيلة الزغاوة، دفعته لدعم ثوار دارفور، وكشف الصراع في دارفور أيضاً النزاعات داخل الإثنية الواحدة، فدعم ديبيلقبائل الزغاوة في دارفور، أدى إلى نزاعات داخل الزغاوة، بين مؤيد لديبي ومعارض له، ليؤسس تيمانإرديميمثلا «اتحاد قوة المقاومة»، وهو أحد الحركات المعارضة لديبي، وقاد محاولة انقلاب فاشلة ضده

-2- السيناريوهات الأربع الممكنة لما جري ويجري منذ 11 أبريل:

أسئلة عديدة تم طرحها بخصوص حقيقة ما وقع في التشاد منذ 11 افريل الحالي خاصة وان ديبياستقبل نتنياهونهاية 2018 كما أن علاقاته بباريس قوية واستراتيجية بل هو يقود بدلا عنها حربا ضد الإرهاب في بحيرة التشاد، وهو أيضا من أمضى اتفاقيات مع بكينوأنقرةوموسكو، ويمكن عمليا تفسير ما حدث وفقا لأربع سيناريوهات لما جرى ويجري وستبين التطورات خلال الاسبيع القادمة أيها أقرب للواقع:

  • السيناريو الأولويتمثل في أن دعم ومساندة وتحشيد المعارضة ضد نظام ديبيقامت به أطراف اقليمية وظيفيا لصالح أطراف دولية بعينها، بينما كان المُبيَّت هو تغيير نظام ديبيمن داخله والذي ليس غريبا انه تم التخلص منه من قبل مقربين ومن الوارد أن يكون ابنه وهو أمر تم سابقا في أكثر من بلد افريقي، ويعتقد مراقبون أن باريس فعلت ذلك عبر غطاء وفره حلفائها الإقليميين المساندين للجنرال حفتروربما بتحالف تكتيكي مع الروس أو الإسرائيليين أو كلاهما  وهنا قد نحصل على إجابة سر ذلك التحشيد العسكري الذي كان يتم في الجنوب وفي سرتوالجفرةفي وقت كانت فيه الأطراف الليبية جالسة على طاولة الحوار

  • السيناريو الثانيويتمثل في وقوف أطراف دولية واقليمية وراء دعمالمعارضة التشادية لتغيير السلطة في نجاميناكُلّيا وانه لم يعد مقبولا وفق تلك الرؤية انه كان مطلوبا رحيل نظام بقي أكثر من ثلاث عقود وأن بقاءه سيعرقل مصالحها ويعطلها،كما أن طبيعة ما يجري في الإقليم ووفقا لصراع النفوذ دوليا وبناء على ما جرى في ليبيا وفي كل المنطقة، فانه لابد من ان تكون المعارضة شريكا في الحكم في أفق السنتين القادمتين، وهو ما يفسر تغيير الموقف الفرنسي منذ أول أمس الثلاثاء 27 أفريل الجاري

  • السيناريو الثالثويتمثل في خطة أمريكيةمتكاملة استطاعت ان تستوعب طبيعة التدخلات الدولية وأن تحتويها وأن تتجاوزها تخطيطا وتنفيذا (بما في ذلك الحضور الفرنسي القوي في التشاد وفي دول الساحل والصحراء)، وتتحكم فيها والطبيعة الفسيفسائية للمعارضة التشادية وطبيعة محيط ديبيوالذي أربك أطرافا دولية بعلاقاته المتعددة افريقيا ودوليا، ولا يعني كل ذلك أن الامريكيين والبريطانيين لم يكونوا واقعيين في التكيف مع الوقائع والسياسات المنزلة من طرف منافسيهم الدوليين في كل ما جرى وهو ما يفسر ربما لقاء السفير الأمريكي مع أحد زعماء التبوالليبيين ساعات قليلة بعد مقتل ديبي“.

  • السيناريو الرابعويتمثل في أن تكون التطورات في التشاد قد أدت إلى ما أدت إليه بغض النظر عن الطريقة التي تم بها دعم أو تحشيد المعارضة (وهي معارضة منقسمة على نفسها وتتكون من فسيفساء فصائل وهي خمس بالنسبة لتلك الناشطة انطلاقا من الأراضي الليبية مضاف إليها مكونات أخرى في الشمال التشادي وانطلاقا من دارفور في السودان)، وان الأطراف الدولية على تداخل مع أطراف عدة ولكن طبيعة الصراع النفوذ بينها لم يمكن أي منها من فرض خياراته وانتظر التطورات فسبقتها جميعا وهو ما يفسر ارتباك وتحركات أطراف دولية عدة في المنطقة

-3-  هل الاحداث والتطورات هي ذات أبعاد إقليمية بالأساس؟

اهتز كل الإقليم يوم 11 أبريل الجاري وخاصة دول الساحل الخمس عقب مقتل رئيس تشادإدريس ديبي، ورجح بعض المتابعين أن صراع النفوذ على العمق الافريقي بناء على تعدد الثروات الهائلة والنادرة، بل وعمق الصراعات في شمال القارة وغربها.

أخطاء الفرنسيين الفادحة والاستراتيجية في الجارة الأهم للتشاد أي ليبيا، أدت إلى اغتيال أكبر حلفائها في إفريقيا وهو بحدسه وطول تجربته في الحكم قد استشرف مصيره منذ نهاية فيفري الماضي (مباشرة إثر توقيع وقف إطلاق النار بين قوت الوفاق وقوات حفتر)، وخاصة أنه قال للفرنسيين ان نهاية الحرب في ليبيا يعني بدايتها في التشاد، وهو ما حدث فعلا بعد المصادقة على حكومة دبيبةوبداية اتصالاتها الخارجية وملامستها المباشرة للملفات العسكرية والأمنية بالأساس.

إن مساعدة حفتر”  في الانقلاب على الشرعية وقرارات الأمم المتحدة لم يكن الخطأ الوحيد الذي مارسه الفرنسيون وبعض دول إقليمية على غرار الاماراتووسط صمت مصري، ذلك أن باريس تغاضت عن دخول الأسلحة بشكل كبير إلى الجنوب الليبي في البداية دعما للجنرال المتقاعد (وهو المهووس بالحرب وبالسلطة)، وهو ما مكن لاحقا قوى في المعارضة التشادية وبعض مليشيات قاتلت مع حفترتحديدامن ترسانة عسكرية هائلة (حيث امتلكت مثلا مروحيات وأكثر من 54 عربة عسكرية وتجهيزات عسكرية كبيرة وبالغة الخطورة)، وحتى حينما جنح الليبيون للحوار لم تبادر الدول التي دعمت الثورة المضادة والتي رعتها ومولتها إلى سحب السلاح الذي وزعته بكثافة.

إن مقتلديبييعني أمرين لا ثالث لهما، الأول هو أن الساسة الفرنسيين إما أنهم قيموا سريعا ترتبات توقف المعارك في ليبيا وما يجري في مالي منذ أشهر، وبالتالي كانوا طرفا في الأحداث الأخيرة وفي توجيهها وترتيب الأمور مستقبليا حفاظا على مصالحهم الاستراتيجية، والثاني هو أن الوقائع قد تكون تسارعت عليهم فتعاطوا معها وفقا لما هو ممكن ودراسة التطورات أولا بأول، وحينئذ سيضطرون لاحقا ان لم يكن الآن لتقييم كل سياساتهم في شمال وغرب القارة، ذلك أن باريس وحليفها الإقليميالأبرز أي الاماراتسيجنيان من تدخلهما في ليبيا، مسألتين أو بالأحرى خيبتين:

  • الأولى، أنهما أظهرا عجزا عن لعب الدور المنوط بالفرنسيين سابقا باعتبارهم قوة متحكمة في القرار السياسي لعدد من الدول الإفريقية، وهو ما يعني ان الليبيين تحديدا قد بعثوا رسالة بليغة للإماراتيين والفرنسيين وكل من دعم الثورة المضادة بل وقالوا للفرنسيين على لسان كل الأفارقة أن عهد التحكم في إفريقيا بشكل مفتوح مباشر ولى وانتهى…”

  • الثانية،  (الفرنسيون والاماراتيون) “بدلا من أن يخلقوا حليفا آخر في ليبيا فقدوا أبرز حليف لهم في الساحل الإفريقي، أي إدريس ديبي”، وذلك لا يعني تغييب احتمال عرضناها في أحد السيناريوهات أعلاه ان الفرنسيين وشركائهم قد يكونوا بحثوا عن ابعاد ديبيواحتواء معارضيه خاصة بعد قول ماكرون اول أمس انه لا بد من حكم مدني…”

 قد لا تسحب نجاميناكل جنودها من مالي، ولكنالثابت أن تشاد لن تبقي على قواتها بشكل كامل في مالي” (معلوم أن الجنود التشاديين يشاركون  في العمليات العسكرية ضد الجماعات المتطرفةالتنظيمات الإرهابية القريبة من القاعدة وداعشفي مالي إلى جانب القوات الفرنسية)، ويمكن الجزم أن سحب تلك القوات بكاملها خطر وإبقاؤها أيضا خطر، ويُمكن القول أن إبقاء القوات في مالي يعني أن الحكومة التشادية لن تتمكن من صد مقاتليالمعارضة الذين هددوا باقتحام نجامينا–  وفي نفس الوقت فإن إعادة قوات خسرت الكثير من أفرادها وعتادها في ماليوالنيجرإلى ساحة القتال هو أيضا رسالة خطيرة على الحكام الجدد في نجامينا…”ذلك أن “أولئك الضباط الذين كانوا في المعارك والذين يمتلكون شرعية القتال ويمتلكون قوات مسلحة كبيرة لم يكونوا جزءا من المشهد العسكري الذي تشكل بعد مقتل ديبي وبالتالي لديهم هم أيضا طموحاتهم…”

أبرز الدول التي ستتضرر مما يجري في ليبيا بعد تشاد هي النيجر، فهذه الأخيرة قد تكون الوجهة القادمة للمسلحين القادمين من ليبيا، وربما تكون أيضا مالي وبالنسبة لمالي إذا ما قرر الفرنسيون الانسحاب فلن تصمد مالي أكثر من بضعة أيام أمام مقاتلي تنظيم القاعدة وباقي التنظيمات الجهادية، وهو أمر سيُهدد ولا شك كل المنطقة والاقليم وخاصة دول الساحل والصحراء تبين لكل المتابعين أن كل ما حدث في التشاد سببه الرئيسي هو توسع صراع النفوذ بين الأمريكيين والفرنسيين من جهة وبين الأمريكيين والروس والصينيين من جهة ثانية، إضافة لحضور قوي للأتراك والإيرانيين والإسرائيليين والاماراتيين وآخرين خلال الفترة الماضية.

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

____________

مواد ذات علاقة