ميهاري تاديل مارو

تناقش هذه الورقة سؤالين حرجين ومترابطين على خلفية تجربتي إثيوبيا وراوندا. السؤال الأول، ما هي عناصر الدولة التنموية في ليبيا وما هي شؤونها السياسية والإقتصادية والثقافية؟ والسؤال الثاني، في ضوء الاختلافات بين مواقف القوى داخل وخارج ليبيا، هل تعتبر إقامة دولة تنموية هناك أمراً ممكناً؟

الجزء الخامس

القسم الثالث: دروس لليبيا

لا توجد خارطة طريق عامة للدولة التنموية، إذ يتعين على كل بلد يتبنّى الفكر التنموي أن يمهّد طريقه الخاص إلى النجاح الاقتصادي. ولكن ثمة دروس عملية من تجارب الدولة التنموية يمكن لليبيا محاكاتها.

تفسيرات محتملة لنموذج الدولة التنموية في ليبيا

خطة إعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع

تعنى الدولة التنموية في السياق الليبي الانتقال إلى إعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع. وتشمل الخطة الناجحة لإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع في الدولة التنموية العوامل التنموية الأساسية التالية:

الإستقرا، والتسوية الكونفدرالية، والمُلكية، والإستقلال السياسي والمالي للإستفادة من الموارد الطبيعية الرئيسية. وفي ليبيا، يمكن أن تشمل الدولة التنموية تنفيذ مقاربة خطة مارشال” (غرار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية).

وينبغي إعطاء الأولوية لمنع انزلاق البلاد إلى صراع أو حرب في خطة إعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع. ويجب أن تكون الخطة كاملة ومتكاملة في تدخلاتها، وأن تهدف إلى تحقيق الإستقرار وبناء الدولة والحكومة الديمقراطية، وتعزيز الأمن واستعادة الإنتعاش وإعادة التأهيل، وبناء البنية التحتية للخدمات العامة وتحقيق الحكم الشامل والتنمية المستدامة.

في السياق الليبي، وفي مشاريع إعادة الإعمار الأخرى في مرحلة ما بعد الحرب، ستتطلب الدولة التنموية إعادة بناء الدولة بقدرات هائلة لإيصال وتوزيع الخدمات العامة وتطوير البنية التحتية للسلع بصورة شمولية بطريقة تضفي الشرعية عليها، الأمر الذي يعزّز توفير الأمن، والأهم من ذلك أن تمتلك مواردها الطبيعية وغير الطبيعية، وتستفيد منهابصورة أكثر فعالية.

وبصفة عامة، تشمل الخطة تعاقب التدخلات المتعلقة بالأمن والتنمية والديمقراطية. ويتوافق التعاقب بدقة مع الأولويات الحيوية للدولة التنموية ويتقاطع مع سياسة إعادة الإعمار والتنمية الخاصة في الإتحاد الإفريقي.

ويعرّف الاتحاد الإفريقي خطة إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع بأنها مجموعة تدابير شاملة تسعى إلى تلبية احتياجات البلدان الخارجة من صراعات، بما في ذلك احتياجات السكان المتضررين، لمنع تصعيد الخلافات، وتجنب الإنزلاق إلى دوامة العنف، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراعات، وتوطيد الأمن المستدام“.

وتفسّر الخطة على نحو متزايد بأنها بناء دولة حديثة ذات حكم شامل يمكنه منع الدولة من الفشل وتعزيز الأمن وتقديم المنافع العامة. وفي حالة مثل الحالة الليبية، ينبغي أن تهدف الخطة إلى إنشاء إو إعادة بناء هيكل الدولة، بما في ذلك تأسيس الدولة القضائية وإصلاح القطاع الأمني عبر السيطرة المدنية الديمقراطية على القوات المسلحة ومشاركة المجتمع المدني.

لهذا السبب، تشكّل هيكلة الحكم والحيز السياسي أهمية بالغة لخطة ناجحة لإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع.

على المدى القصير، قد تبطئ الديمقراطية وسيادة القانون من عملية تشكيل دولة قوية ومقتدرة وذات سلطة. غير أن الحكم المستدام بحاجة إلى ديمقراطية دستورية بمشاركة شاملة ومساءلة صارمة، لا سيما في القوات المسلحة.

بهذه الطريقة، قد تحقق ليبيا درجة من الاستقرار وتبني دولة تنموية تمثل طموح شعبها على المدى الطويل. وبالنظر إلى درجة المنافسة العالية بين القوات الخارجية في ليبيا، قد يساعد تركيز الدولة التنموية الكامل على سيادتها على الأراضي الليبية في تحجيم اهتمامات الجهات الفاعلة، الإقليمية والخارجية.

وقد يساعد موقفها الحيادي من السياسات الخارجية في إنهاء التدخلات المستمرة غير الضرورية في ليبيا، على غرار ما حدث في حقبة الحرب الباردة.

أمن الدولة ودفاعها

تتطلب الدولة التنموية الناجحة قدرا من الاستقرار. إذ تتيح الاستقرار تخصيص الموارد لتنمية الدولة، ما يعزّز شرعية الدولة الشعبية وشرعية أدائها في أعين مواطنيها.

وبينما تتطلب عملية الانتقال إلى الاستقرار في ليبيا قطاعا أمنيا قويا، غير أن السلام المستدام لن يتحقق إلا بالتعاون السياسي بين مختلف مراكز الشرعية ومؤسسات الدولة.

في حقيقة الأمر، تبدأ الدولة التنموية بافتراض أن أفضل مصدر للشرعية وتعزيز الدولة يأتي من الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي المدفوع اجتماعيا مع دور محدود للقطاع الأمني، بما في ذلك الجيش.

ففي الدولة التنموية، لا ينبغي تدخل القوات المسلحة في السياسات، بل يجب على السياسات التدخل في دور القوات المسلحة.

لذلك، تخضع سياسة الأمن والدفاع في البلاد إلى الدور التنموي للدولة، وتحدد المبادئ التنموية الميزانية الموارد المخصصة للقوات المسلحة. في المقابل، يجب على سياسة الأمن والدفاع أن تحدد شكل ووحدة الجيش. فالدول بحاجة أولا إلى حد أدنى من القوى القادرة على إنفاذ القانون قبل التركيز على تنمية المنافع العامة، كما يحدث في الدولة التنموية.

وفي هذا الصدد، تضع الدولة التنموية توحيد القيادة ومساءلتها والسيطرة على العناصر المسلحة والاتصالات فيما بينها على رأس أولوياتها. كما تركز على بناء الحد الأدنى من القدرات اللازمة لوضع جميع وسائل العنف والإكراه تحت سلطتها. لأن أولوية حكومة كهذه تتمثل في الدفاع عن البلاد من التهديدات الخارجية.

الحكم الكونفدرالي

لا تعني الدولة التنموية في ليبيا مزيدا من الاعتماد على الحكم الكونفدرالي والنظام اللامركزي (الفيدرالي الفضفاض) مع تناقض في مركزية الحكومة. ويمكن تعريف الدولة كعملية انتقالية للحكم تحلّ نفسها تدريجيا أثناء انتقالها إلى ديمقراطية حيّة.

من هذا المنظور، يعد وجود درجة معينة من الحكم الذاتي والاعتراف بالمظالم التي تقع في حق الفئات الاجتماعية والاستجابة لها أمرا بالغ الأهمية بغية إدامة الدولة التنموية.

ويضم المجلس الرئاسي الجديد وقيادة حكومة الوحدة الوطنية الذين انتخبهما ملتقى الحوار السياسي الليبي في شباط/فبراير 2021 عناصر كونفدرالية.

وفي غياب احتكار القوة، كما هي الحال في ليبيا، سيسمح عقد تسوية كونفدرالية بالبدء بعملية بناء السلام عبر وضع مراكز الشرعية المتفرقة في نظام حكم واحد. وتعود جذور الكونفدرالية إلى دستور عام 1951 الذي أعاد إحياء ثلاث مقاطعات ذاتية الحكم.

وفي ضوء غياب احتكار استخدام القوة ووجود تدخل خارجي كبير، قد يُطرح خطر التجزئة والتدخل الخارجي غير المبرر باعتبارهما من المخاوف الرئيسية المرتبطة بإقامة نظام كونفدرالي. بيد أن التسوية الكونفدرالية قد تساعد على تماسك البلاد في مواجهة القوى الانفصالية المدمرة والتدخل الخارجي.

ففي الوقت الراهن والمستقبل المنظور على الأقل، يبدو أن نظام الحكم الكونفدرالي الذي يتيح الفرصة الأفضل لتحقيق درجة ما من الاستقرار الراسخ.

وقد ينشئ التعاون بين مؤسسات الدولة الراغبة والقادرة على توفير أمن حقيقي ومستوى ما من المساءلة، مجالات من السلطة التي تضمن مستوى من الاستقرار الراسخ.

وقد تساعد التسوية أيضا على تخصيص الموارد، الأمر الذي يحفز السلطات المحلية لاستغلال قربها وخبراتها. وحين تتحمل السلطات المحلية مسؤولياتها بتوفير الأمن، سيتم استخدام معظم موارد الدولة وطاقاتها لمهامها التنموية. إضافة إلى تعزيز جيوب الاستقرار والقانون والنظام القائمة، من شأن التسوية الكونفدرالية أن تحرر موارد كانت تخصص إلى الجيش دون ذلك.

يتبع في الجزء السادس

***

ميهاري تاديل مارو ـ أستاذ (دوام جزئي) في مركز سياسات الهجرة، ومنسق أكاديمي لبرنامج القادة الشباب من أفريقيا في كلية الحوكمة عبر الوطنية، المعهد الجامعة األوروبية؛ يشكر المؤلف الزملاء في برنامج مسارات الشرق الأوسط على تعليقاتهم ومساعدتهم في هذا البحث.

__________

المصدر: منصة الحوار الليبيتابعة لبرنامج مسارات الشرق األوسط في معهد الجامعة الأوروبية. يرمي المشروع إلى إقامة منتدى للحوار والتبادل بين القوى السياسية الرئيسية في ليبيا، والباحثين الليبيين والدوليين، والجهات الفاعلة الأساسية في المجتمع الدولي، بشأن سياسات أساسية لمستقبل ليبيا.

مواد ذات علاقة