لا يزال الصراع على الهوية في القدس حيًّا والمدينة مرشحة لأن تشهد جولات تصعيد في المستقبل، لأن إسرائيل تتجه سياسيًّا بخطى ثابتة إلى أقصى اليمين الذي لا يرى إمكانية للتفاوض مع الفلسطينيين حول مصير القدس، وليس أمام الفلسطينيين إلا الاستمرار في المواجهة.

الجزء الثاني

فلسطينيو القدس

إن الضم الأول لشرقي القدس، عام 1967، تم قانونيًّا للأرض دون السكان، فاعتبرت إسرائيل الأرض جزءًا من الدولة، فيما اعتبرت السكان الفلسطينيين مقيمينداخل المناطق التي تم ضمها، لا مواطنين.

وهذا الأمر حوَّل المقدسيَّ صاحب الأرض في لحظة إلى أجنبي مقيم داخل دولة لا يملك فيها أية حقوق؛ حيث إن إسرائيل منحت المقدسيين بطاقة الهوية الإسرائيلية المدنية الصادرة عن وزارة الداخلية الإسرائيلية، لكنها اعتبرت أن هذه البطاقات هي بطاقات إقامة وليست بطاقة مواطنة، فبقي المقدسيون يحملون جوازات السفر الأردنية حتى بعد قرار فكِّ الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، عام 1988، الذي جرَّدهم من الجنسية الأردنية، كما أن تأجيل موضوع القدس إلى مفاوضات الحل النهائي في اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية منع السلطة الوطنية الفلسطينية من الحصول على أية صلاحيات إدارية على المقدسيين.

والتكييف المتعلق بالهوية لدى المقدسيين بالتالي معقد، فهم فلسطينيون، يحملون بطاقة الهوية/الإقامة الإسرائيلية، وجوازات سفر أردنية. والأردن يعتبرهم مواطنين فلسطينيين بحكم قرار فك الارتباط، وبينما تعتبرهم السلطة الفلسطينية تحت السلطة الإسرائيلية بحكم واقع الاحتلال واتفاقية أوسلو، وفي نفس الوقت تعتبرهم إسرائيل مواطنين أردنيين مقيمين فيها.

فهم أردنيون فلسطينيون إسرائيليون، وفي نفس الوقت ليسوا قانونيًّا أردنيين ولا فلسطينيين ولا إسرائيليين، وهذه معضلة في الهوية لا يزال المقدسيون يعيشونها باستمرار.

كما أن المقدسيين يعانون من قيود كثيرة بسبب هذا التوصيف القانوني الإسرائيلي لهم، فباعتبارهم مقيمين في الدولة، يمكن للحكومة الإسرائيلية سحب بطاقة الإقامة من أي مقدسي وحرمانه من السكن في القدس في حالات كثيرة منها إثبات إقامته خارج حدود بلدية القدس مدةً تتجاوز 3 سنوات!

بل وترفض سلطات الاحتلال مثلًا تسجيل المواليد في القدس ومنحهم بطاقة إقامة فيما لو ثبت أن أحد الوالدين في لحظةِ ولادة المولود كان خارج حدود بلدية القدس.

وفيما يتعلق بأعداد المقدسيين، فقد بيَّنت الإحصائيات الإسرائيلية لعام 2018 أن عدد سكان شرقي القدس من الفلسطينيين ضمن الحدود البلدية الإسرائيلية بلغ حوالي 345 ألف مقدسي، تصل نسبتهم في القدس بشطريها إلى 38%، علمًا بأن هذه الإحصائيات تشمل حَمَلة الهوية الإسرائيلية في القدس ولا تأخذ بالاعتبار وجودهم داخل أو خارج جدار الفصل الذي بدأ بناؤه عام 2003، فهؤلاء الأخيرون قد يكونون عرضة لسحب بطاقات الهوية منهم إذا ما تم تعديل حدود بلدية القدس، أي إذا أصبحت مطابقة لمسار الجدار الفاصل.

فبين عامي 1970 و1972، وعندما كانت نسبة المقدسيين في القدس تصل إلى حوالي 26% قدَّمت لجنة (غافني) المشَكَّلة من الحكومة الإسرائيلية توصياتها للحكومة بضرورة العمل على ألا تزيد نسبة المقدسيين على 30% منذ اعتماد هذه التوصية عام 1974.

لكن نسبة المقدسيين استمرت في الارتفاع، لتصل عام 2000 إلى 32%، فعادت بلدية القدس في مخطط مشروع القدس الهيكلي لعام 2020 (المصطلح عليه باسم مشروع القدس 2020″) لتعتمد توصية جديدة بالعمل على أن يكون هدف المخطط الهيكلي لبلدية القدس ألا تصل نسبة المقدسيين حتى عام 2020 إلى 40% أو قريبًا منها.

وذلك من خلال فرض قيود كثيرة تضطرهم للخروج من القدس، منها على سبيل المثال منع المقدسي من ترميم منزله أو البناء أو التوسع فيه دون ترخيصٍ من بلدية الاحتلال، وتضع البلدية لذلك شروطًا كثيرة ومبالغ طائلة تصل إلى 30 ألف دولار للرخصة الواحدة، مع الانتظار فترات قد تصل إلى 5 سنوات لإعطاء قرار بالموافقة أو الرفض، بما يضطر المقدسي للبناء دون ترخيص، فيتم هدم منزله ويضطر بالتالي للسكن خارج المدينة، فتُسحب منه بطاقة الإقامة.

وحسب تلك الإحصائيات، فإن نسبة المقدسيين وصلت إلى 38% عام 2018، وذلك بنسبة اختلال (وزيادة سكانية عربية) لا تتجاوز 0.8% لكل عام. بمعنى أنه حسب هذه الأرقام، فإن نسبة المقدسيين حاليًّا عام 2021 في القدس يُفترض أن تكون قد وصلت إلى حوالي 39.7% وتستمر بالزيادة بانتظام.

وهذا ما يعني أن الهدف الإسرائيلي بتخفيض نسبة السكان المقدسيين في القدس لا يتحقق فعليًّا، وهو ما يجعل الاحتلال يضغط باستمرار ناحية اتخاذ أساليب متطرفة في تخفيض نسب المقدسيين كقضم المناطق المختلفة أو إخراجها من حدود البلدية ومنع المقدسيين من التصرف بحرية في الأراضي التي تتبع مناطق وجودهم بحيث يتم دفعهم باستمرار للنزوح خارج المدينة والابتعاد عنها، وبالتالي تقليل نسبتهم فيها، بالرغم مما يظهر من عدم نجاعة هذه الإجراءات فعليًّا.

كما أن الاحتلال يسعى في هذا الصدد إلى منع تكوين هوية سياسية واضحة للمقدسيين في القدس، فعدم وجود سلطة فعلية تحكم المقدسيين غير سلطة الاحتلاليعني أن المقدسيين فيها يعيشون بلا ممثل سياسي سواء من الأحزاب أو القوى السياسية الموجودة في الضفة الغربية وغزة وحتى داخل الخط الأخضر، وهو بذلك يسعى إلى تشكيل فراغ سياسي في القدس يمنع منحها هويةً سياسيةً واضحةً ويجعلها تابعةً بالكامل للسلطة الإسرائيلية، ويمنع المقدسيين من وجود تمثيل سياسي بما يمكن أن يشكِّل مرجعيةً قياديةً لهم، ويجعل إسرائيل الممثل الوحيد للمقدسيين، ولعل هذا هو سبب إصرار الاحتلال على منع دخول القدس ضمن منظومة الانتخابات الفلسطينية التي كانت مزمعة في مايو/أيار 2021.

__________

مواد ذات علاقة