عبدالرزاق العرادي

شهد الشعب الليبي الكرنفال، الذي عقد افتراضيا يومي 26 و 27 مايو 2021، ونقلته بعثة الأمم المتحدة على الهواء مباشرة، والذي طرح فيه أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي رؤيتهم للأساس الدستوري الذي ينبغي أن تُجرى عليه الانتخابات القادمة في 24 ديسمبر 2021.

الفرضية التي سأعتمد عليها في تحليل ما جرى؛ هي أن ليبيا يتجاذبها مشروعان أساسيان، ومشروع ثالث انقسم على ذاته على ثلاث.

فأما المشروعان الرئيسيان فإنهما يقعان في حيزين جغرافيين مختلفين؛ الأول هو مشروع الكرامة، ويتحكم فيه شخص واحد. والمشروع الثاني أصحابه لا يخضعون لرؤية فرد يتحكم فيهم ويملي عليهم آراءه وتوجهاته، بل إن آراءهم متنوعة ومتباينة في القضايا التي طرحت.

حتى الأخوان المسلمين، الذين ينتمون إلى المشروع الثاني، اتفقوا مع المشروع الأول، مشروع الكرامة، في انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، وفق القاعدة الدستورية المهلهلة.

أما المشروع الثالث فكما ذكرت انقسم أصحابه إلى ثلاثة حسب موقع أصحابها ومرجعيتهم السياسية من أتباع النظام السابق؛ فمن كان تحت جناح الكرامة خضع للتوجيه والإملاءات، ومن كان يعيش أجواء الحرية جاءت آراؤه متباينة، ومن كان له مرجعية سياسية؛ جاءت آراؤه وفق هذه المرجعية.

القضايا الرئيسية التي دار النقاش حولها من قبل أعضاء الملتقى وأصحاب المشاريع الثلاث هي؛ مشروع الدستور، والانتخابات المباشرة وغير المباسر للرئيس، وشروط الترشح.

الأعضاء المنتمون لمشروع الكرامة جاءت رسائلهم واحدة ومتشابهة، مما يوحي بوجود توجيه وإملاءات.

يؤكدون على مرجعية خارطة الطريق بانتقائية مخلّة، ويغمزون أعضاء اللجنة القانونية المخالفين لهم، بأنهم نكصوا عن القاعدة الدستورية المتفق عليها، وينادي بعضهم بشكل صبيانيبإيقاع العقوبات على زملائهم في هذه اللجنة!!

ويرفضون مشروع الدستور والاستفتاء عليه، ويصفون الهيئة التأسيسية المنتخبة من الشعب بأنها حزب وأنها منتهية الصلاحية.

وعندما جاء أتباع الكرامة إلى شروط الترشح اكتفوا بأن يكون المترشح ليبياً، وتلمّسوا العذر لمن يحمل جنسية أخرى، واستنكروا منع العسكريين من الترشح، وأكدوا على ضرورة استبعاد من هو متهم وعليه عقوبات أو مطلوب دوليا، من أجل إبعاد سيف منافس حفتر من الترشح في أي انتخابات رئاسية قادمة.

وقد ردد هذه الآراء جل إن لم يكن كل الذين يتبعون لسلطة مشروع الكرامة، باستثناء الذين يعيشون خارج هذا الحيّز الجغرافي الذي تسيطر عليه عملية الكرامة.

أتباع النظام السابق تنوّعوا، مع أنهم جميعا يطالبون بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب على أساس القاعدة الدستورية، ولكن بعضهم منفتحون لقبول حلول وسط بالنسبة لمشروع الدستور، والاستفتاء عليه، ولا يرفضون الهيئةالتأسيسية، وكذلك بالنسبة لشروط الترشح إلا الشروط التي تقصي مرجعياتهم لمن كان له مرجعية. كما اقترح بعضهم تشكيل لجنة للوساطة والتفاوض بغية الوصول إلى حلول وسط.

أما الذين يعيشون أجواء الحرية، سواء كانوا من الغرب أو الشرق أو الجنوب، فقد طالب بعضهم بانتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة على أساس القاعدة الدستورية، وطالب آخرون بإجراء انتخابات تشريعية أولا، وأن يتم انتخاب الرئيس من قبل المجلس التشريعي، ويؤجل مشروع الدستور والاستفتاء عليه إلى ما بعد انتخاب الجسم التشريعي.

بينما رأى آخرون إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متتالية؛ إجراء الانتخابات التشريعية أولا، وبعد أن يحدد شكل نظام الحكم من قبل الشعب، تجرى الانتخابات الرئاسية على أساس الدستور بعد الاستفتاء عليه.

أما شروط الترشح فيرى الغالبية العظمى في هذا الحيّز؛ منع العسكريين من الترشح إلا إذا استقالوا، وكذلك منع المتهم بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، والمطلوب محليا أو دوليا من الترشح.

وتباينت آراؤهم حول موضوع ازدواج الجنسية؛ فرأى بعضهم أن الرئيس ورئيس الحكومة ينبغي أن لا يحملا أي جنسية عدا الجنسية الليبية، وهناك من يضيف شرط الأذن من وزارة الداخلية، ومنهم من يتشدد في هذا الشرط.

أعضاء مجلس النواب وأعضاء المجلس الأعلى للدولة احتفظوا بحقهم في إصدار القاعدة الدستورية، وإبداء الرأي في مشروع الدستور والاستفتاء عليه، وبعضهم تمسك بمخرجات الغردقة بأنها أساس للتوافق بين المجلسين.

بينما أعتبر بعض أعضاء الملتقى بأن هذه تعد عرقلة، وأن أعضاء المجلسين همهم البقاء واستمرار مزاياهم.

بعض وسائل الإعلام التي غطت الملتقى؛ أظهرت الجانب الذي يتماشى مع آراء أصحابها، وحجبت الجانب الآخر من الملتقى. وأثبتت بذلك أنها مجرد دكاكين للتوجيه، وتزييف وعي الشعب الليبي، وليست وسائل إعلام مهنية تضع الحقائق أمام الناس كما هي دون تزييف.

بعد لقاء جنيف طلبتُ لقاء مع البعثة وحدد لي لقاء مع عضوين من فريق البعثة، قلت لهم أن يوم 5 فبراير كان فارقا، ويجب على البعثة أن تعي ذلك. البلاد كانت منقسمة وكذلك مؤسساتها، فأصبح لدينا حكومة واحدة يمكن أن توحّد هذه المؤسسات، كما أن رئاسة البعثة تغيّرت، وتغيرت رؤيتها للحل.

كان واضحا لي أن المبعوث الخاص الجديد سيختلف عن سابقه، وأنه سيركّز على المؤسسات الشرعية القائمة، وليس على الملتقى وهذا كان واضحا في جل تصريحاته بما فيها تصريحه في نهاية اجتماع الملتقى الأخير.

لذلك لا يعقل أن يستمر الملتقى كما هو، وأعضاؤه في الغالب ينتمون إلى حقبة الانقسام.

هناك من جاء للملتقى لأنه يمثل رئيس مجلس النواب أو يمثل رئيس المجلس الأعلى للدولة، وهناك من يمثل رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي السابق، ومن يمثل وزير الداخلية السابق، ومن يمثل حفتر.

وهؤلاء جميعا إما خرجوا من المشهد أو أنهم بحكم مناصبهم يخضعون للسلطة الجديدة، فلا يُعقل أن يستمر هذا الملتقى بشخوصه، وإلا فإن الاصطفاف سيترسخ.

بينما نحن بحاجة إلى فريق حوار قادر على التعاطي مع متغيرات المرحلة؛ سواء في المشهد السياسي أو في البعثة.

فريق الحوار المذكور في المادة 64 من الاتفاق السياسي، أغلبهم إن لم يكن كلهم ليسوا ممثلين في ملتقى الحوار السياسي الليبي، مع أن الملتقى يستند في مخرجاته إلى هذه المادة.

اقترحت على أعضاء البعثة أن يتم تكوين فريق حوار جديد من الشخصيات الوطنية التي تقف على مسافة واحدة من الجميع، ويمكن اختيارهم من أعضاء هيئة التدريس أو النخب القادرة على أعمال الوساطة والتفاوض، ويكون عددهم صغير، ويدعم من المجلس الرئاسي ومن البعثة، هكذا هي أبجديات السياسة والإدارة والواقع.

ومع ذلك، ورغم أن الكرنفال كان مملاً، إلا أن هناك أصوات عاقلة ورصينة من أعضاء الملتقى، أحسب أنها قادرة على صناعة توافق لحل وسط، يأخذ في الحسبان المخاوف الحقيقة للأطراف، ويتم التوصل في نهاية المطاف إلى مسودة قاعدة دستورية، تبقى احتياطية في حالة إخفاق المجلسان في التوصل لاتفاق بينهما.

هذه القاعدة الدستورية قادرة على تعزيز الشرعية، وتحافظ على المسار الدستوري، وتسمح بمشاركة كل الفرقاء السياسيين في أي استحقاق انتخابي قادم.

حفظ الله ليبيا

____________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مواد ذات علاقة