هنريك تراوتمان و أنطونيا ماري دي ميو

قد تم إجراء الكثير من البحوث من أجل إعداد هذا التقرير قبل نهاية عام 2020، ومع أن عددا من التغييرات السياسية قد حدثت في أوائل عام 2021، بما في ذلك إنشاء حكومة الوحدة الوطنية وتعيين الوزراء، فإن التوصيات الواردة في هذا التقرير يمكن أن تكون مفيدة لحكومة الوحدة الوطنية وكذلك للمسؤولين الآخرين وأصحاب المصلحة الدوليين

الجزء الثامن

جرائم الفساد

تنص المواد 15 إلى 25 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (2003) على سلسلة الأفعال المرتبطة بالفساد التالية: الرشوة والارتشاء من قبل الموظفين العموميين الوطنيين أو الأجانب، بما في ذلك موظفي المؤسسات الدولية؛ واختلاس الممتلكات أو تبديدها أو تسريبها بشكل آخر من قبل موظف عمومي؛ وإعاقة العدالة؛ والمتاجرة بالنفوذ بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وإساءة استغلال الوظائف؛ والإثراء غير المشروع.

الفساد أحد المصادر الرئيسية للتدفقات المالية غير المشروعة في أفريقيا. تشمل التدفقات المالية غير المشروعة الأموال المحولة إلى الموظفين العموميين الأجانب، مثل الأموال التي تدفع في الرشوة والابتزاز والعمولات غير القانونية والهدايا والترفيه.

تفيد التقارير أن المبالغ التي تدفع كرشوة في العالم النامي تصل إلى ما يعادل نسبة 15-30 %من تدفقات المساعدة الإنمائية الرسمية. قد يلحق الفساد الضرر بالاقتصاد بأكثر من مجرد تكلفته المالية. وقد تتسبب رشوة بمبلغ قدره مليون دولار أمريكي مقابل عقد قيمته 100 مليون دولار لتقديم خدمات عامة، إلى أوجه قصور كبيرة في الاستثمار واختلاس الأموال العامة وتقويض الشرعية الجبائية.

تبلغ التكاليف الإجتماعية والاقتصادية للتدفقات المالية غير المشروعة مستويات ضخمة تستمر في عرقلة التنمية في جميع البلدان المتضررة. وبالإضافة إلى استنزاف احتياطيات الصرف بالعملة الصعبة، والحد من تعبئة الموارد المحلية، ومنع تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، وتفاقم انعدام الأمن والفقر وعدم المساواة الاقتصادية، تقوض التدفقات المالية غير المشروعة أيضًا سيادة القانون، وتعرقل التجارة، وتؤدي إلى تدهور ظروف الاقتصاد الكلي في البلدان المتضررة.

الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة في صميم المناقشات حول التنمية في أفريقيا نظرا لتأثيرها السلبي على تمويل التنمية في القارة، وقد بلغت اليوم مستويات واسعة النطاق لدرجة أن أفريقيا تخسر 50 بليون دولار سنويا. ومع ذلك، فإن هذا الرقم أقل بكثير مما يحدث على أرض الواقع لأنه من الصعب الحصول على إحصاءات موثوقة، وبسبب الطبيعة السرية لهذه األموال.

توجد في ليبيا تقريبا جميع أشكال الفساد الموصوفة في اتفاقية الأمم المتحدة. تفيد التقارير بأن ليبيا واحدة من أكثر الدول فسادا في العالم، حيث احتلت المرتبة 168 من بين 198 دولة في مؤشر مؤسسة الشفافية الدولية الخاص بإدراك وجود الفساد لعام 2019 . ويعرقل الوضع الأمني الحالي في ليبيا الجهود المبذولة، حيث يمنع السلطات من معالجة الأسباب الرئيسية للفساد.

تتمثل إحدى نقاط الضعف الرئيسية في نظام النزاهة الليبي في الإدارة العامة الواسعة، التي وصفت بأنها ضعيفة الأداء فيما يخص قضايا الحوكمة والشفافية والإدارة والتنفيذ السليم في مجموعة واسعة من القطاعات.

للقطاع العام صورة سلبية لدى الجمهور، ووفقا لمقياس الفساد العالمي، فإن 48 %من الليبيين يرون أن المسؤولين الحكوميين وموظفي الخدمة المدنية إما فاسدون أو فاسدون للغاية. وعلاوة على ذلك، أشار ما يقرب من نصف المستجوبين في الدراسة الاستقصائية إلى أن الفساد قد ازداد بين عامي 2011 و 2013 ،حيث أشار 67 %منهم إلى تحسن طفيف أو معدوم بعد الثورة.

تعد المحسوبية من أهم المشاكل في القطاع العام. غالبا لا يتم تعيين الموظفين على أساس الجدارة؛ ومن الممارسات الشائعة في المجتمع الليبي تقديم الأقارب أو الأعضاء الأقوياء في نفس المجموعة الاجتماعية المساعدة أو المعاملة التفضيلية للآخرين في نفس المجموعة.

يوظف القطاع العام الغالبية العظمى من الليبيين (ما بين 70 و 85 %من القوى العاملة الرسمية) ويدعم السلع الأساسية مثل الأغذية والوقود. يستخدم أعضاء الإدارة العليا والمتوسطة نظام المحسوبية لتوسيع دائرة الأشخاص المعتمدين عليهم في الوظائف ومعيشتهم، وبالتالي زيادة نفوذهم. وتؤكد دراسة استقصائية أجريت عام 2012 مع موظفين رفيعي المستوى من الوزارات والحكومة والقطاع الخاص هذا الانطباع.

وافق حوالي 63 %من المستجوبين بشدة على أن الرشوة والفساد لا يزالان من بين العقبات الرئيسية التي تحول دون تنفيذ الدولة لبرامج التنمية، حيث وافق 93 %منهم بقوة على أن انتشار المحسوبية يعيق تنفيذ برامج التنمية. وهذه هي الحال أيضًا على المستوى الإداري حيث يوافق 83 %من المستجوبين أو يوافقون بشدة على أن القادة في القطاع العام يفتقرون إلى المهارات اللازمة لأداء وظائفهم بكفاءة.

في قطاع النفط، يؤدي الافتقار إلى الشفافية، إلى جانب الأداء الرديء للمؤسسات العامة وإدارة الإيرادات في ليبيا، إلى زيادة مخاطر الممارسات الفاسدة. ففي ليبيا، تموّل عائدات النفط شبكة أمان معتدلة لفائدة السكان، حيث تقدم خدمات تعليمية وصحية مجانية في الغالب، ولكنها تمول أيضًا قطاعا عاما واسعا غير فعالا يوصف بأنه أكثر القطاعات فسادا في البلاد.

أحد الأمثلة على هذا الفساد ظهر في عام 2014 عندما تم تغريم شركة إسكندنافية مبلغ 48 مليون دولار لدفعها أو موافقتها على دفع أكثر من 12 مليون دولار في شكل رشاوى بين عامي 2004 و2009 لكبار المسؤولين الحكوميين في ليبيا، بما في ذلك وزير النفط.

في قضية أخرى، تورطت فيها الشركة الكندية (اس ان سي لافلاين) تم تغريم هذه الشركة مبلغ 280 مليون دولار كندي لدفعها 112 مليون دولار كندي في شكل رشاوى، من 2001 إلى 2011 ، لشركات وهمية، دفعت منها أموال لمسؤولين عموميين في نظام القذافي للحصول على مشاريع البناء.

الاعتماد المفرط على عائدات النفط له آثار جانبية سلبية على نظام الحوكمة في ليبيا ويزيد من مخاطر الفساد. تصعب أسعار النفط المتقلبة على الحكومة المركزية إجراء اإلدارة المالية والتخطيط المناسبين.

ففي عام 2018 ،حققت صادرات النفط في ليبيا عائدات بلغ مجموعها 24.5 بليون دولار. يتحكم البنك المركزي في طرابلس في هذه الأموال وهو مسؤول عن صرفها في جميع أنحاء البلاد، لكن لا توجد آليات قانونية وتنظيمية كافية تضمن شفافية كافية من البنك للإفصاح عن كيفية استخدام هذه األموال العامة. وعلاوة على ذلك، استخدم النظام السابق الثروة النفطية كوسيلة للتوظيف في القطاع العام وبالتالي تزويد أفراد المجتمع بمصدر رزق لتجنب استياء الشعب.

وقد أدى ذلك إلى انتشار ثقافة تعتبر الرواتب في القطاع العام على أنها حق أكثر منها شيئا يكتسب بالعمل، وقد يكون ذلك أحد الأسباب الجذرية لأخلاقيات العمل السيئة التي لوحظت في جميع أنحاء القطاع العام. لا يزال النظام القضائي الليبي مثقل بعبء ثقيل موروث من النظام السابق الذي كان يسيطر بشكل كامل على القضاء.

هناك عدم ثقة عامة في قطاع العدالة، حيث أن 35 %من الشعب الليبي يوافقون بشدة أو يوافقون على أن القضاء فاسد، بينما اعترف 20 %من المتقاضين أنهم دفعوا رشوة. إحدى المشاكل الرئيسية في النظام القانوني في ليبيا هي الريبة فيما يتعلق بتطبيق القوانين والقواعد القانونية، حيث يرجع القضاة إلى القوانين والقواعد الموروثة عن نظام القذافي والعهد الملكي والعهد العثماني.

ويتسبب هذا التطبيق لمعايير قانونية مختلفة في احتمال وجود الفساد في القضاء. بنى القذافي، مثل حكام شمال أفريقيا السابقين الآخرين، ثروته غير المشروعة إلى حد كبير من الاستيلاء على الأصول العامة، من خلال عمليات الخصخصة الغامضة، وإقامة الاحتكارات الخاصة في القطاعات الرئيسية للاقتصاد، واختلاس الأموال العامة، بما في ذلك على الأرجح القروض الخارجية والمساعدات الإنمائية من الخارج.

ومع انهيار نظامه، تم الكشف عن كميات كبيرة من الأصول كان يحتفظ بها القذافي وأفراد أسرته في الخارج. وحسب ما ورد تشمل ثروة القذافي أصولا في الولايات المتحدة (تقدر ب 37 بليون دولار)، وفي المملكة المتحدة (15 بليون دولار)، وفي هولندا (2.1 بليون دولار)، وفي النمسا (1.8 بليون دولار)، وفي السويد (1.6 بليون دوالر)، وفي سويسرا (416 مليون دوالر)، من بين العديد من البلدان الأخرى.

في لندن بقيمة 16 في عام 2012 ،استعادت الحكومة الليبية قصر مليون دولار من أحد أبناء القذافي، بعد أن قضت محكمة بريطانية بأنه تم شراؤه باستخدام أموال الدولة الليبية المسروقة. كما حولت الخزينة الليبية مبلغا يقدر بحوالي 1.5 مليون يورو (1.97 مليون دولار) إلى سفارتها في بروكسل، تم سحب معظمه نقدا.

وأفادت وحدة معالجة الاستخبارات المالية البلجيكية أن الأموال قد تكون تابعة لمنظمات ليبية تسيطر عليها عائلة القذافي. ويتضح من هذه اللمحة العامة أن ميراث نظام القذافي قد أثر ولا يزال يؤثر على ليبيا وسكانها. ساهمت عوامل مثل نقص الشفافية، وقضايا الفساد في المستويات العليا في قطاع النفط، وتصور قوي لدى المجتمع بأن هناك فساد في القطاع العام ونظام العدالة، والتفاوتات المستمرة الكبيرة، ساهمت في قلة الثقة في المؤسسات العامة والدولة، مما أدى إلى تأجيج الصراع.

تفيد الأنباء أن ما يزيد عن 160 بليون دولار من الأموال العامة تمت سرقتها من قبل مسؤولين في الأنظمة الحاكمة في ليبيا وفي الدول المجاورة. وهناك حاجة ملحة لاتخاذ إجراءات لوضع حد للإفلات من العقاب ولتعزيز مساءلة الحكومة، وكذلك إعطاء الأولوية لحجز ومصادرة الأصول المرتبطة بالفساد.

أساسيا في تحسين الحوكمة في ليبيا، تعد مكافحة الفساد عنصر والحد من هروب رؤوس الأموال، وتحقيق أهداف التحول الهيكلي، حيث أن الفساد يترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام التدفقات المالية غير المشروعة.

تشير التقديرات إلى أن خمسة بالمائة من التدفقات المالية غير المشروعة في العالم ناتجة عن أعمال الفساد وإساءة استخدام السلطة. ومع ذلك، قد لا يعكس هذا الرقم الوضع في القارة الإفريقية، ناهيك عن الواقع الليبي، حيث أصبحت الظاهرة مقلقة جدا.

وقعت ليبيا على اتفاقية األمم المتحدة لمكافحة الفساد في عام 2003 ،وصادقت عليها في عام 2005 . وعلى هذا النحو، كان برنامج مكافحة الفساد موجود بالفعل في ظل نظام القذافي.

تتطلب المادة 6 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من الدول الموقعة أن تنشئ هيئة أو هيئات تتولى منع الفساد عن طريق تنفيذ سياسات مختلفة باإلضافة إلى زيادة المعرفة العامة بمنع الفساد. لذلك، أنشأ النظام أجهزة لدعم الشفافية المالية والحد من الفساد، مثل هيئة الرقابة الشعبية العامة.

ولكن، كان تأثيرها على مكافحة الفساد محدودا. يشمل الإطار الوطني لمكافحة الفساد في ليبيا أحكاما مقتبسة من عدة نصوص تشريعية، وخاصة القانون الجنائي؛ وقانون الإجراءات الجنائية؛ وقانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد؛ وقانون الجرائم االقتصادية؛ وقانون مكافحة غسل الإموال وتمويل الإرهاب. وضعت ليبيا بالفعل إطارا قانونيا ومؤسسيا لغياب لمكافحة الفساد على المستوى الوطني.

ولكن، نظر البيانات ذات الصلة، يصعب إجراء تقييم مفصل للممارسات الليبية فيما يتعلق بالتجريم وإنفاذ القانون في قضايا الفساد.

وتنص التشريعات القائمة على أن الجرائم التالية مرتبطة بالفساد: رشو الموظف العمومي، وغسل الأموال المتأتية من عائدات إجرامية والإخفاء، والإختلاس، وإساءة استخدام الوظائف، والإثراء غير المشروع، وإعاقة سير العدالة، وإفشاء السرية المصرفية، من بين عدة أعمال أخرى.

ومع ذلك، لا تتوفر الكثير من الأمثلة في ليبيا على المقاضاة الناجحة لهذه الجرائم. ويمكن، فيما يتعلق بجرائم الفساد، استخدام أساليب التحري الخاصة التي ينص عليها قانون الإجراءات الجنائية وقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. للإستثمار في سياسات مكافحة الفساد آثار إيجابية، إذ تظهر تجربة الجهات المانحة في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أنه مقابل كل دولار نُفق على التحقيق في عائدات الفساد المتأتية من العالم النامي والمحوّلة إلى دول هذه المنظمة، تم تَتبُّع وتجميد ما يصل إلى 20 دولار.

ويمكن أن يؤدي التصدي للفساد إلى انتخاب قادة يتمتعون بالمصداقية، وتحسين إنفاذ القوانين التي تقرها الهيئة التشريعية، وتحسين مقاضاة المسؤولين العموميين على الجرائم المتعلقة بالفساد. ويمكن إدارة التدفقات المالية غير المشروعة في ليبيا وتقييدها بشكل أفضل إذا أعطيت لمكافحة الفساد األولوية القصوى.

يتبع في الجزء التالي

***

هنريك تراوتمان ـ المدير بالنيابة للجوار الجنوبي، مديرية سياسة الجوار الأوروبية ومفاوضات التوسع

أنطونيا ماري دي ميو ـ مديرة معهد الأمم المتحدة الأقاليمي لبحوث الجريمة والعدالة

_____________

مواد ذات علاقة