تصوَّر البعض أن تحريك خليفة حفتر ميليشياته نحو الجنوب الغربي وإعلانه إغلاق أحد المعابر الحدودية مع الجزائر لم يكن ليتم إلا بضوء أخضر من واشنطن، فما حقيقة هذا التصور؟

كانت ميليشيات حفتر التي تطلق على نفسها الجيش الوطني الليبي“- قد أعلنت قبل نحو أسبوع عن إطلاق عملية عسكرية في الجنوب الليبي، لملاحقة مَن وصفتهم بـالإرهابيين التكفيريين“.

لكن بدلاً من التوجه نحو الحدود الليبية مع تشاد، أعلنت تلك الميليشيات سيطرتها على معبر إيسين/ تين الكوم، الذي يفصل مدينتي جانت الجزائرية وغات الليبية، اللتين تقطنهما قبائل الطوارق، التي كانت تسيطر على المعبر.

ورداً على إعلان حفتر إغلاق الحدود الليبيةالجزائرية، وهو إعلان غير دقيق، أعلن المجلس الرئاسي في ليبيا حظر أي تحركات عسكرية في البلاد إلا بعد موافقته، وكانت تلك الأحداث سابقة بأيام قليلة على مؤتمر برلين 2 الخاص بالمسار السياسي في ليبيا.

كيف ردت واشنطن على تحركات حفتر؟

وكانت بعض التحليلات قد ذهبت للقول إن تحريك حفتر لميليشياته من شرق البلاد إلى غاية أقصى الجنوب الغربي لم تكن لتتم إلا بضوء أخضر أمريكي أو فرنسي، بهدف استفزاز الجزائر أو إشغالها، وابتزازها في عدة ملفات، بينها امتلاكهالمنظومة صواريخ إس 400″ المضادة للطيران، والتي تثير قلق واشنطن وحلفائها، سواء في غرب البحر الأبيض المتوسط، أو حتى في منطقة الساحل الإفريقي، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.

غير أن تصريحات مساعد وزير الخارجية الأمريكي بالإنابة لشؤون الشرق الأدنى، جوي هود، أعلن فيها أن غلق ميليشيات حفتر لمعبر حدودي مع الجزائر لا تحظى بدعم المجتمع الدولي، تنفي أي مزاعم بشأن منح واشنطن أي ضوء أخضر أو حتى برتقالي للتحرك باتجاه الحدود الجزائرية.

وتعليقاً على غلق ميليشيات حفتر لمعبر إسين/ تين الكوم الحدودي، قال المسؤول الأمريكي، إن حكومة الوحدة الوطنية، هي الحكومة المعترف بها لليبيا، والإجراءات الأحادية، مثل إغلاق حدود دولية، ليس لها أي دعم من المجتمع الدولي، وتأتي بنتائج عكسية للانتقال السياسي“.

هود، الذي شارك في مؤتمر برلين الثاني إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ذكّر حفتر أنه بموجب خارطة طريق ملتقى الحوار السياسي الليبي، فإن المجلس الرئاسي يفترض أن يقوم بأعمال القائد الأعلى للجيش الليبي، بموجب التشريعات الليبية“.

فمنذ مارس/آذار الماضي، تولت السلطة التنفيذية الجديدة مقاليد الأمور. وتتشكل تلك السلطة الموحدة من المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي وحكومة الوحدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة، والمهمة الرئيسية للسلطة المعترف بها من جانب المجتمع الدولي والأطراف الليبية تتمثل في التحضير لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ليبيا، في ديسمبر/كانون الأول المقبل.

لكن تظل العقبة الرئيسية متمثلة في توحيد المؤسسة العسكرية المنقسمة بين الشرق والغرب، وإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من البلاد. وحالياً يتولى المجلس الرئاسي في ليبيا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما يتولى رئيس الوزراء الدبيبة مهمة وزير الدفاع، وهو السيناريو الذي تم التوصل إليه مؤقتاً تفادياً للصدام مع حفتر، لكن يبدو أن الصدام أمر لا مفر منه في ظل إصرار الجنرال الانقلابي على عدم التخلي عن طموحاته في فرض نفسه حاكماً عسكرياً على ليبيا بالقوة.

ماذا يعني ذلك بالنسبة لحفتر؟

من المهم هنا التوقف عند موقف الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن من الصراع الليبي وكيفية الخروج منه إلى فرض الاستقرار والحفاظ على وحدة ليبيا، حيث تتبنى واشنطن حالياً النهج الدبلوماسي الهادئ والقائم على الحوار. وهذا الموقف مختلف تماماً عن موقف إدارة ترامب، الذي يرى كثير من المحللين أنها قد ساهمت في تعميق أزمة ليبيا بعد ذلك الاتصال الذي أجراه الرئيس الأمريكي السابق بحفتر عندما كان الأخير يهاجم طرابلس منقلباً على العملية السياسية المعترف بها دولياً.

أما فيما يتعلق بالخطوة التي اتخذها حفتر تجاه الجزائر مؤخراً، فإن هود أجاب على سؤال بهذا الشأن، بحسب إيجاز نشره موقع السفارة الأمريكية في ليبيا، بقوله: “لا شك في أن الجزائر شريك قيم للولايات المتحدة ونعتقد أنها قادرة على لعب دور بناء لمساعدة ليبيا على الوقوف على قدميها. وفيما يتعلق بإغلاق الحدود، أو ما يسمى بإغلاق الحدود… إن حكومة الوحدة الوطنية هي حكومة ليبيا المعترف بها. لا تحظى الإجراءات الأحادية الجانب مثل إغلاق الحدود الدولية بدعم المجتمع الدولي، وهي تأتي برأينا بنتائج عكسية على الانتقال السياسي“.

وأضاف هود: “وبموجب خارطة طريق منتدى الحوار السياسي الليبي، من المفترض أن يتولى المجلس الرئاسي مهام القائد الأعلى للجيش الليبي وفق التشريعات الليبية. لذا دعم ما يسمى بالجيش الوطني الليبي عملية خارطة الطريق حتى الآن ويحتاج إلى مواصلة القيام بذلك، بما في ذلك ما يتعلق بالانتخابات الوطنية المقبلة في كانون الأول/ديسمبر“.

وهذا هو أول انتقاد دولي مباشر لغلق ميليشيات حفتر لمعبر حدودي مع الجزائر، وتعتبر رسالة قوية أخرى لحفتر، بضرورة إخضاع ميليشياته لسلطة المجلس الرئاسي، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي، وأن تحريك وحداته المسلحة من الشرق إلى أقصى الجنوب الغربي، رغم أوامر المجلس الرئاسي بحظر إعادة تمركز الوحدات العسكرية، يشكل خروجاً عن الشرعية الليبية المدعومة أممياً.

المسؤول الأمريكي لفت انتباه حفتر إلى أن ما يسمى الجيش الوطني الليبي (ميليشيات حفتر) قد دعم عملية خارطة الطريق حتى الآن، وعليه مواصلة القيام بذلك، خصوصاً فيما يتعلق بالانتخابات المقبلة في ديسمبر/كانون الأول“.

وهذا تذكير لحفتر بضرورة احترام تعهداته بالاعتراف بسلطة المجلس الرئاسي، كقائد أعلى للجيش، وعدم عرقلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل.

ماذا يريد حفتر الآن؟

أحد الأهداف من تحرك ميليشيات حفتر، الضغط على الأطراف المحلية والدولية المشاركة في مؤتمر برلين الثاني، بهدف الاعتراف به كطرف رئيسي في الميدان، رغم افتقاده أي صفة سياسية أو عسكرية رسمية.

كما أن خططه للترشح لرئاسة البلاد تصطدم بإصرار أغلبية أعضاء ملتقى الحوار السياسي، على اشتراط عدم ازدواجية الجنسية للمرشحين للرئاسة، وهو ما لا يتوفر في حفتر وأبنائه الذين يحملون الجنسية الأمريكية.

لذلك يحاول حفتر من خلال مناوراته العسكرية وتحريك ميليشياته نحو الحدود الجزائر، التلويح بإمكانيته في خلط الأوراق مجدداً في حال حرمانه من الترشح للرئاسة لأي سبب، ولو بافتعال مواجهات محدودةمع الجزائر، لحشد التعاطف الشعبي نحو عدو أجنبي، وإرباك المشهد السياسي مما يؤدي إلى إلغاء أو تأجيل الانتخابات. لكن الجزائر لم تبدِ ردود فعل منفعلة تجاه استفزازات حفتر، وتستمر في تجاهله دبلوماسياً مع تشديد الرقابة الأمنية على حدودها.

فمعبر إيسين/ تين الكوم، الواقع في أقصى الجنوب الغربي الليبي في منطقة صحراوية نائية، لا يشكل أهمية استراتيجية بالنسبة للجزائر، التي أغلقته في 2011 بسبب الأوضاع الأمنية، لكنها كانت تسمح بفتحه في حالات استثنائية لعبور المساعدات الإنسانية إلى المناطق المهمشة والمنسية في الجنوب الليبي، واستقبال بعض المرضى.

لذلك فحديث ميليشيات حفتر عن غلق معبر مغلق لا يراد منه سوى إثارة فقاعة إعلامية، ناهيك عن أن ميليشيات حفتر أعلنت في فبراير/شباط 2019، سيطرتها على غات، أقرب مدينة من معبر إيسين/ تين الكوم، وإرسال وحدات مسلحة من الشرق للسيطرة مجدداً على المعبر، يعني أنها لم تكن تُسيطر فعلياً، طيلة هذه الأشهر، على الحدود مع الجزائر.

والمتضرر الأكبر من غلق معبر إيسين/تين الكوم هم السكان المحليون من الطوارق في كل من غات وأوباري، والذي يمثل المعبر منفذاً لهم نحو العالم الخارجي، في ظل البعد عن العاصمة طرابلس (نحو 1350 كلم)، وتهميش ميليشيات حفتر للمنطقة، ما قد يؤلبهم (الطوارق) عليها.

فحفتر بعدما أهمل إقليم فزان أكثر من عامين من سيطرته عليه، يعود مجدداً قبل 6 أشهر من موعد الانتخابات، لضمان أصوات الإقليم في حال ترشح للرئاسيات وتعزيز فرص الموالين له في الانتخابات البرلمانية، لأنه ما زال يحتاج لغطاء سياسي، لحمايته من أي عقوبات دولية.

مؤتمر برلين الثاني الذي انعقد في 23 يونيو/حزيران الجاري، وإن لم يذكر حفتر بالاسم، إلا أنه لوَّح بفرض عقوبات على المعرقلين للانتخابات وللاستقرار الأمني للبلاد وأيضاً للمنتهكين لحقوق الإنسان.

وعزَّز المؤتمر من شرعية المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، وأكد دعمه لهما، مما ضيّق الخناق أكثر على ميليشيات حفتر، وأظهرها كجماعات مسلحة غير منضبطة توشك على الخروج من التوافق الليبي والدولي حول ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها تحت إشراف الحكومة التي منحها البرلمان الثقة بشبه إجماع.

وتأتي تصريحات مساعد وزير الخارجية الأمريكية لزيادة الضغوط على حفتر، باعتباره الطرف الرئيسي المعرقل للانتخابات، ولخروج البلاد من مرحلتها الانتقالية، التي استغرقت 10 سنوات لحد الآن. ومن المرتقب أن تتضاعف الضغوط الدولية على حفتر في المرحلة المقبلة إذا استمر في عرقلة التحضيرات لإجراء الانتخابات، وتوحيد المؤسسة العسكرية.

ويبدو أن حفتر بدأ يشعر بتضاعف الضغوط الدولية ضده، ما يفسر إعلان ميليشياته دعمها لإجراء الانتخابات في موعدها، وتأييدها لإخراج المرتزقة من البلاد، رغم أن تحركاتها على الأرض تعاكس تصريحاتها.

____________

مواد ذات علاقة