الإجراءات المعقدة والطويلة للرد على انتفاضات الجماهير ساهمت في خنق مناخ الليبرالية السياسية والحريات. وربما لا يوجد بُعدٌ من أبعاد النظام الدولي مهددٌ حالياً أكثر من الليبرالية السياسية.
كانت المبادئ الديمقراطية الليبرالية مصدر إلهام عميق لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذه المبادئ باختصار تعني تشجيع وحماية حقوق الأفراد ومحاسبة الأفراد لقاء تورطهم في الجرائم أو الفساد.
صحيح أن تطبيق وفرض حقوق الإنسان ومواجهة الإبادة الجماعية كان منقوصاً. لكنَّ أهمية مثل هذه الحقوق والمبادئ الليبرالية واضحة حين نقارنها مع القواعد وممارسات الأنظمة الدولية السابقة.
ثم كان مطلع القرن الحادي والعشرين نقطة تحول مهمة.
ففي عام 2006، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، رصدت منظمة فريدوم هاوس غير الحكومية أنَّ عدد الدول التي تتراجع فيها معدلات الديمقراطية فاق عدد الدول التي تحسَّنت معدلات الديمقراطية فيها، 33 مقابل 18.
وتواصل هذا الاتجاه سنوياً منذ ذلك الحين. حيث قامت “الثورات الملونة” في أوراسيا، والتي حدثت في سنوات منتصف العقد الأول من هذا القرن، وحركات “الربيع العربي” في بداية سنوات العقد الثاني.
خلال الثورات الملونة، أطاحت احتجاجات الشوارع في عددٍ من البلدان السوفيتية السابقة بأنظمة لها علاقات وثيقة مع موسكو واستبدلتها بأخرى أكثر توجهاً نحو الغرب.
بدأت موسكو، إلى جانب الأنظمة المستبدة الأخرى في المنطقة، تنظر إلى الحركات الديمقراطية باعتبارها تهديدات ملحة للأمن، فقمعت روسيا والدول في أرجاء منطقة الاتحاد السوفيتي السابق احتجاجات الشوارع بقوة، ومنعت أو قيَّدت منظمات المجتمع المدني.
صوَّرت روسيا والأنظمة المستبدة النشطاء الديمقراطيين باعتبارهم الطابور الخامس، المُموَّل من الخارج. في هذه الثورات، إلى جانب حرب العراق، ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها قوة مهيمنة عازمة على الإطاحة بالنظم المستبدة.
أكَّد الربيع العربي هذه الصورة أكثر
شجعت واشنطن الاحتجاجات في أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ومنحت الضوء الأخضر للناتو من أجل التدخل في ليبيا، بل واستغلت علاقاتها الأمنية مع مصر لفرض الإطاحة بحاكم البلاد القديم حسني مبارك.
بينما صوَّرت الحكومات المستبدة القلقة في مناطق عدة المعارضة السياسية الداخلية ووسائل الإعلام المستقلة بها على أنَّها مصطفة بشكل ما إلى جانب القوى الغربية المتطفلة أو مع أجندة واشنطن الجيوسياسية.
لهذه المبررات يرفضون ليبرالية حقوق الإنسان
في مؤتمر صحفي لوزير العمل السعودي الأسبق غازي القصيبي في فندق ماريوت الرياض 2004، سأل مراسل “بي بي سي” البريطاني عن أسباب “قمع السلطات للحراك الإصلاحي” في جدة وقتها، ورد الوزير بهدوء دبلوماسي قضى وقتاً طويلاً سفيراً لبلاده في لندن نفسها، قال:
“أنت تسميه حراكاً إصلاحياً لأنك تراه بعيون ثقافتك وبلدك، ولذلك لا تشعر بالرضا. بالضبط كما أقرأ عن قاتل متسلسل تعرضه محكمة في لندن على طبيب نفسي فيكتشف أنه يعاني ضغوطاً كبيرة. فتقرر المحكمة إرساله في رحلة إلى “هونولولو لتهدئة أعصابه.
المبرر الأكثر استعمالاً لرفض قواعد الليبرالية، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان، هو مصطلح “التنوع الحضاري“، أو الاختلاف الثقافي. والصين هي أكثر الدول استعمالاً له: هناك نسبية ثقافية واختلافات حضارية ينبغي احترامها.
في الوقت نفسه يبتكر الطغاة مجموعة من “الأعراف المضادة” بوصفها “القيم التقليدية” المقدسة، ويربطون الليبرالية بالانحطاط والانحدار.
وقد روجت الحكومة الروسية، بدعم من بعض دول الشرق الأوسط، لفكرة أن الدين الخاضع لتنظيم الدولة يجب أن يلعب دوراً أكبر في الحياة السياسية، وفكرة القيم العائلية “التقليدية“، وكذلك فرض القيود على الهجرة لحماية الهويات الوطنية.
وحش الإرهاب يلتهم الحريات الشخصية
تتحمل الولايات المتحدة نفسها مسؤولية الترويج لواحد من أقوى الأعراف المضادة لليبرالية السياسية: الحاجة إلى تقييد الحريات المدنية وحقوق الإنسان بهدف مكافحة الإرهاب.
تضمنت “الحرب على الإرهاب” العالمية بقيادة الولايات المتحدة جهوداً دبلوماسية تهدف إلى القضاء على الحركات الإرهابية والمتطرفة في جميع أنحاء العالم وإدراجها على القائمة السوداء.
استفاد الطغاة من هذا التصنيف المريح لمعارضيهم: هم “إرهابيون” و“متطرفون“.
ونتيجةً لذلك، استخدمت الأنظمة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مكافحة الإرهاب ذريعةً لتعزيز السلطة التنفيذية، وتوسيع إجراءات المراقبة، وتقليص الحريات المدنية، وزيادة التعاون غير الرسمي بين أجهزتها الأمنية.
رجاءً لا تتدخلوا في شؤوننا الداخلية
نجح الطغاة أيضاً في تصوير الديمقراطية على أنها تهديد لأمن الأنظمة والمنظمات الإقليمية الجديدة. فمثلاً تبنت منظمة شنغهاي للتعاون ما يسمى “روح شنغهاي“، التي تناصر مبدأ عدم التدخل، فضلاً عن الاحترام والتفاهم الحضاري المتبادلين.
كما أسست منظمة شنغهاي للتعاون لإدراج المنظمات والأفراد الذين تعتبرهم إرهابيين، ومتطرفين، وانفصاليين على القوائم السوداء، مع غياب المعايير الواضحة لتلك التصنيفات.
والتزمت المنظمة بإجراءات متجاوزة للحدود الإقليمية، تسمح بتسليم الأفراد المدرجة أسماؤهم في القائمة، ومن بينهم المعارضون السياسيون، من أراضي الدول الأعضاء في المنظمة، دون أي حماية قانونية دولية.
وحذا مجلس التعاون الخليجي حذو منظمة شنغهاي، بمجموعة مماثلة من البنود في عام 2012، منها ما جاء بشأن الاحتجاجات الشيعية في البحرين وشرق السعودية، بأن إيران هي المحرك لهذه الاحتجاجات.
لننظر مثلاً إلى الإشراف الدولي على الانتخابات
في التسعينيات، كان الإشراف على الانتخابات مسعى متواضعاً ولكنه متخصص، اقتصر على الممارسين الملتزمين من أمثال مركز كارتر، أو دولياً مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
ولكن بحلول النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخرطت العديد من هذه المنظمات الإقليمية الجديدة في مجال الإشراف على الانتخابات لوقف موجة الانتقادات الدولية.
وليس مفاجأة أن تقييمات هذه المنظمات تدعم دوماً سلامة انتخابات معيبة يجريها الحكام المستبدون الحاليون.
وبدوره، يؤدي وجود هؤلاء المراقبين الدوليين الموالين للأنظمة إلى تعكير الأجواء والتقليل من احتمالات أن تصبح الانتخابات المزورة بؤرة للحشد المناهض للحكومات.
الخلاصة:
أعادت الحكومات السلطوية توظيف الأعراف والممارسات الدولية المصممة في الأصل لتعزيز القيم الليبرالية، لتستعملها في تعزيز السلطة السيادية للحكام المستبدين.
ما تعلمناه من الربيع العربي .. الطغاة لا يصنعون الاستقرار
-
سقوط الدكتاتورية ليس دائما أمرا يبعث على البهجة.
-
إذا اختار مواطنو دولة استبدادية بين الدكتاتورية والفوضي التي يخلّفها سقوط النظام ستكون الدكتاتورية أهون الشرّين حيث إنها توفر لهم ثباتا في الحالة المعيشية دون تغييرات.
-
تلك أطروحة مغرية تم تجديدها مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن.
-
الربيع العربي ساهم في إعطاء أمل مبالغ به ناحية التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط.
-
الرد الوحيد الذي تستخدمه الدكتاتورية في مواجهة الإستياءات الشعبية والصراعات العرقية هو القمع.
-
قساوة هذه الأنظمة في الحكم جعلها غير قادرة على احتواء الصراعات الداخلية في المجتمع، مما يعني أنه رغم بقاء هذه الصراعات الاجتماعية والسياسية مقموعة فإنها ستسبب خلخلة أساسات الحكم الدكتاتوري على المدى البعيد.
-
خلخلة أسس النظام الدكتاتوري لن تكون عن طريق تفجير الغرب للدكتاتوريات ومحوها من الوجود.
-
تعلمنا درسا من مأساة حرب العراق 2003، بأن الديمقراطية لا يمكن فرضها من الخارج ولا حتى عن طريق دعم استقرارية النظام الدكتاتوري الزائف كما أوضحت نتائج الربيع العربي.
-
الربيع العربي أظهر أن اتخاذ القرارات حول مصير بلد معين لا يحدده الغرب بل أهل البلد نفسه.
ماذا نتعلم من هذا الأمر؟
أن فكرة تعزيز الدكتاتورية للإستقرار هي مجرد خرافة، والفوضى غالبا هي تابعة للنظام الدكتاتوري.
_____________