أحمد قاسم حسين

عقدت الدول المؤثرة في الأزمة الليبية سلسلة من المؤتمرات الدولية، منذ بداية المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام القذافي، ولم تسهم في وضع حد للأزمة التي ما زالت تعصف بالبلاد.

الجزء الأول

شكلت موضوعات الانتخابات، والدستور، وقطاع الطاقة، وتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية، والهجرة غير النظامية إلخ، أجندة معظم المؤتمرات حول الأزمة الليبية (الصخيرات، ولندن، وباريس، وروما، وأبوظبي، وباليرمو، وبرلين، وتونس، وجنيف)، التي شاركت فيها قوى سياسية وعسكرية ليبية، إضافة إلى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) .

هدفت تلك المؤتمرات، التي كان آخرها مؤتمر برلين بنسختيه الأولى والثانية، ومسار جنيف، إلى وضع خارطة طريق يتفق الفرقاء الليبيون بموجبها على حل الأزمة المعقدة التي تعصف بالبلاد.

لكن في كل مرة يخفق المجتمعون في التوصل إلى حل توافقي بسبب تعارض مصالحهم وتصوراتهم عن شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، والآليات التي من المفترض اتباعها من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد، إضافةً إلى التدخلات الخارجية التي تزيد المشهد السياسي والعسكري تعقيدًا، وهو ما يطرح مجموعة من التساؤلات عن جدوى المؤتمرات الدولية في اجتراح حلول للأزمة الليبية في ظل تعارض مصالح الدول المشاركة، حيث تمثّل تدخلاتها في الشأن الليبي عاملًا بنيويًا في الأزمة من ناحية، وعجز القوى السياسية الليبية ونخب المجتمع المدني عن الشروع في حوار ليبي داخلي يؤسس لتفاهمات سياسية قد تقود البلاد إلى الاستقرار السياسي والأمني من ناحية أخرى، في ظل نزاع أهلي بدأ منذ عام 2014 تسبّب في فشل الدولة، وإخفاق مؤسساتها المدنية والعسكرية في تحقيق الحد الأدنى من الاستحقاقات الخدمية والاقتصادية والأمنية، في بلد غني بالموارد والثروات الطبيعية.

يتركز اهتمام هذه الورقة في استعراض الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الأطراف الدولية لحل الأزمة الليبية ولحماية مصالحها أيضًا؛ سواء من جهة تقليل الضرر الذي يمكن أن يمتد إليها من استمرارها، أو الحصول على مكاسب سياسيةاقتصادية، وتخلص إلى تحديد الأسباب التي أدت إلى فشلها في طيّ صفحة النزاع السياسي والعسكري الداخلي في ليبيا.

مرحلة انتقالية متعثرة

أعلن المجلس الوطني الانتقالي الليبي في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 أنّ ليبيا قد تحرّرت بعد 42 سنةً من الدكتاتورية، في إثر مقتل القذافي، في مدينة سرت، على يد كتائب الثوار.

وبدأت في 23 تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته المرحلة الانتقالية، وقد جرى انتخاب المؤتمر الوطني العام في 7 تموز/ يوليو 2012، وتميّزت هذه المرحلة بعدم الاستقرار، وتفاقم الأزمات نتيجةً لفراغ القوّة الذي خلّفه سقوط نظام القذافي، وقد ترافق ذلك مع وجود مخزون هائل من الأسلحة.

وباتت السِّمة البارزة للبلاد هي فوضى السلاح المنتشر لدى الكتائب المسلحة التي لا تخضع لأيّ سلطة مركزية. وعززت حالة الفوضى التي شهدتها ليبيا افتقار الثورة إلى قيادة معترف بها وقادرة على إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية؛ ما سمح للكتائب المسلحة بملء الفراغ الذي خلّفه انهيار الأجهزة المسلحة لنظام القذافي.

وقد تعاقبت على ليبيا مجموعة من الحكومات، لكنّها فشلت في تحقيق الاستقرار وحلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والانتقال نحو بناء الدولة الليبية. وجرت انتخابات تشريعية في ليبيا في عام 2014، جاءت نتائجها في غير مصلحة التحالف الثوري المُهيمِن، الذي يمثّله حزب العدالة والبناء وحزب الوطن وأحزاب وقوى عسكرية ذات توجه إسلامي، على المؤتمر الوطني العام.

ونشبت في إثره أزمة دستورية بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام أثناء انعقاد الأول في طبرق في 2 آب/ أغسطس 2014، وهو ما عزّز الاستقطاب السياسي في البلاد، وهدّد مسار العملية السياسية. لقد مثّل الصراع على نقل السلطة من المؤتمر الوطني إلى مجلس النواب أحد أهمّ أسباب الأزمة السياسية. ودار محور الصراع حول السلطة التشريعية؛ لاعتقاد القوى السياسية الليبية أنّ مَنْ يسيطر عليها سيحدِّد ملامح الخارطة السياسية في ليبيا مستقبلًا.

تزامن ذلك مع إطلاق الكتائب المسلحة التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها، والمتحالفة مع قادة المؤتمر الوطني عملية فجر ليبياللسيطرة على المناطق الحيوية في العاصمة.

وفي المقابل، اجتمع أعضاء البرلمان الليبي في مدينة طبرق من دون أنْ تجري عملية تسليم رسمية من المؤتمر الوطني العام، في حين قاطع آخرون محسوبون على قوى سياسية وعسكرية إسلامية في المنطقة الغربية مجلس النواب بصفته غير دستوريّ. ورافق ذلك إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في أيار/ مايو 2014، عملية عسكرية أطلق عليها اسم الكرامة، لتدخل البلاد في أتون حرب أهلية.

وساهم قانون العزل السياسي، الذي جمع القوى المتضرّرة من القانون كافّةً لمقاومة مفاعيله وإسقاطه، في إعادة توزيع القوّة، وحافظ على الصراع القديم في ظلّ فاعلين جُدد يجدون أنفسهم في قلب عملية الاستبعاد، ومدعومين من قوى خارجية داعمة للثورات المضادّة، وهو ما أضعف الدولة الليبية وعزّز الانقسام. وبدا الصراع بين قوتين أساسيتين، هما: “الليبراليونوالفدراليون المنضوون إلى عملية الكرامة، والقوى السياسية والكتائب المسلحة المنضوية إلى عملية فجر ليبيا“.

التطور اللافت للانتباه أنّ بيئة الانقسام السياسي، وفوضى الميليشيات والسلاح وعجز القوى السياسية والعسكرية الليبية عن تحقيق مصالحة وطنية، قد وفّر كلّه بيئةً ملائمةً لنشاط تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي شكّل ناقوس خطرٍيهدّد الدول المجاورة لليبيا، وهو ما ساعد جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على دفع الأطراف إلى الدخول في حوار، أفضى في نهاية المطاف إلى توقيع الاتفاق السياسي الليبي الصخيرات“.

اتفاق الصخيرات” 2015: تعميق الانقسام السياسي والجغرافي

هدفت تلك المؤتمرات إلى وضع خارطة طريق يتفق الفرقاء الليبيون بموجبها على حل الأزمة المعقدة التي تعصف بالبلاد، لكن في كل مرة يخفق المجتمعون في التوصل إلى حل توافقي بسبب تعارض مصالحهم وتصوراتهم عن شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، والآليات التي من المفترض اتباعها من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد

بنى المغرب سياسته الخارجية تجاه ليبيا منذ بداية المرحلة الانتقالية على ضرورة دعم الاستقرار الداخلي وتشكيل حكومة جديدة في ليبيا تتبنى توجّهًا جديدًا تجاه قضية الصحراء. كما أنّ استقرار ليبيا يعني بالضرورة تحوّلها إلى بيئة آمنة للاستثمارات وسوق للعمالة المغربية، ومصدر مهمّ للطاقة التي يفتقر إليها المغرب.

لذا، احتضنت المغرب الحوار الليبي، وذلك بعد دعوة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا القوى السياسية إلى حوار في مدينة الصخيرات بإشراف مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، الإسباني برنارد ليون، وأفضى الأمر إلى توقيع الاتفاق السياسي الليبي الصخيراتفي 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015، ووقّع الاتفاق عن الأمم المتحدة المبعوث الألماني مارتن كوبلر الذي شغل منصب مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا خلفًا لبرنارد ليون.

شكّل الاتفاق مدخلًا لحل الصراع السياسي والعسكري في ليبيا، وانبثقت منه مؤسسات المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني وكذلك حكومة الوفاق الوطني، وهي مؤسسات ما زالت تشكّل ملامح النظام السياسي الليبي في مرحلته الانتقالية.

وترأّس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، الذي واجهت حكومته سلسلة أزمات سياسية واقتصادية وأمنية لم تنجح في حل أيٍّ منها؛ إذ دخلت البلاد في أتون حرب أهلية بين شرق ليبيا وغربها، على الرغم من وجود تأييد ودعم إقليمي ودولي لها، تمثّل في قرار مجلس الأمن رقم 2259، الصادر في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2015، الذي أقرّ شرعية حكومة الوفاق الوطني وضرورة تقديم الدعم اللازم لها.

البقية في الجزء التالي

_____________

مواد ذات علاقة