د. هشام خلوق

ترصد هذه الورقة البحثية حول واقع الأزمة الليبية، والصراع الدائر بين الأطراف العاملة على إيجاد حل لها، وبين الساعون لتدمير ليبيا وسرقة مستقبلها الديمقراطي . ثم تنتقل الورقة لرصد تداعياتها المستقبلية والسيناريوهات المتوقعة. وتحاول اقتراح الحلول من أجل السيناريو الأفضل وتجنيب البلاد والمنطقة السيناريو الأوسوأ.

الجزء الأول

ملخص

تعيش ليبيا اليوم أزمة سياسية متداخلة الأطراف، ذات آثار اقتصادية واجتماعية، وهي أكبر من كونها أزمة داخلية وصراع بين فريقين على السلطة والحكم، خاصة مع تورط العديد من الدول فيها.

فالمتربصون بليبيا أكثر، والطامعون في خيرات البلد النفطي أكثر، والساعون لإجهاض الحلم الديمقراطي خوفا من أن يصلهم ربيع الحرية ويفسد عليه شعوبهم أخطر.

مقدمة

كان أول استخدام لمصطلح إدارة الأزمة في مجال العلاقات الدولية سنة 1962م عندما نشبت أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، بسبب الخوف من احتمال تصاعد المواجهة بين الدول العظمى ووصولها إلى حرب نووية. فأدت هذه الأزمة لنمط جديد من الاهتمام العلمي المكثف بإدارة الأزمات.

وتجسد الأزمة الدولية الصورة الأكثر دراماتيكية والأشد كثافة للصراعات التي تجري داخل النظام الدولي، والتي يترتب عليها آثارا تنعكس ليس على أطرافها فحسب، بل يتضرر من جرائها العديد من أعضاء المجتمع الدولي، ويستفيد منها أعضاء أخرون، يبتهلونها كفرصة لتحقيق المكاسب وجني الأرباح، وهذا ما يحصل تماما في ليبيا.

نحن اليوم أمام أزمة حادة وأهداف متعددة، سقوط القذافي خلق الفراغ، والمتربصون يعشقون المساحات الفارغة، خاصة إن كان باطنها يعج بالنفط.

فانقسم الفاعلون الإقليميون والدوليون بين السعي لحل الأزمة، والسعي لتدبير الصراع الإقليمي عبرها.

فصرنا أمام حريق واحد وصنفين من رجال الإطفاء، صنف يصب المال، وصنف يصب الزيت وينفخ على النار كي يزداد الحريق اشتعالا. إشتعال الأزمة الليبية جعل دخانها الأسود يحجب الرؤية، فأصبح المشهد ضبابيا واختلط الحابل وبالنابل.

وحين تتحدث عن الأزمة الليبية الحالية، نجد أنفسنا مضطرين لربطها بطبيعة النظام الدولي القائم، الذي يؤثر فيها ويتأثر بها. وتطلق صفة النظام الدولي على مجموع العلاقات المنتظمة التي تربط الدول بعضها ببعض، والتي تقوم على الاعتمادية المتبادلة ضمن إطار سياسي واقتصادي واستراتيجي.

ومن هذا التعريف يمكننا القول أن هناك علاقة قوية بين الأزمة الليبية التي استعصت لحد الآن عن الحل، وبين هيكل النظام الدولي القائم على القطبية الأحادية، والذي وصل لمرحلة من الهشاشة لدرجة أن البعض أصبح يسميه نظام اللانظام، أو نظام اللاقطبية، لكونه أضحى غير قادر على حل الأزمات التي تنشأ في إطاره.

ودعونا في البداية نؤكد على أمر مهم قبل أن ندخل في صلب الموضوع ونتسرع في توزيع الاتهامات، وهو أن جميع الفاعلين في الأزمة تحركهم المصلحة، وهذا ليس عيبا، ذلك أن العلاقات الدولية والسياسات الإقليمية للدول تحركها المصالح المتبادلة والصراع على النفوذ.

لكن شتان بين من يجعل من مصلحة الشعب الليبي امتداد لمصلحته، وبين من يخدم مصلحته على حساب الليبيين، فيتخذ من قتلهم وتشريدهم وتدمير اقتصادهم وسيلة لتحقيق مآربه وأهدافه الإقليمية.

وتأسيسا على ما سبق تأتي الإشكالية الرئيسية التي يحاول هذا البحث الإجابة عنها وهي: في ظل تفاقم الأزمة الليبية وتحولها لأزمة إقليمية متعددة الأطراف والفاعلين، هل يمكن الحديث عن حل مستقبلي قريب لها؟

ومن أجل الإجابة على إشكالية البحث تم الاعتماد على المنهج الوصفي، من خلال وصف واقع الأزمة الليبية والأطراف الفاعلة فيها، والمنهج التحليلي من خلال تحليل الأزمة، لتحديد مكامن الخلل، ومحاولة البحث عن إمكانيات الحلّ.

وذلك عبر ثلاث مطالب:، الأول واقع الأزمة الليبية، الأسباب والخصائص والأثار، والثاني الفاعلون في الأزمة الليبية، وثالثا: “مستقبل الأزمة الليبية وسبل الحل“.

المطلب الأول: واقع الأزمة الليبية، الأسباب والخصائص والأثار

جاءت الأزمة الليبية نتيجة لأسباب سياسية بالأساس، وهي في شقها السياسي أزمة أصيلة تَولّد عنها وستولّد عنها في حال عدم الإسراع لحلها أزمات فرعية كثيرة. فقد تنتهي الأزمة السياسية، لكن ما قد يرشح عنها من أزمات اقتصادية واجتماعية في المستقبل قد يكون أخطر من الأزمة السياسية نفسها.

الفرع الأول: أسباب الليبية

الأزمة الليبية لم تعد اليوم مجرد صراع حول السلطة بين فصيلين، ذلك أن المشكل خرج عن السيطرة ووصل لمرحلة متقدمة، بسبب ارتباط الأزمة بالصراعات الإقليمية والدولية.

لكن هل يمكننا القول بأن ما يحصل في ليبيا يندرج تحت مفهوم الأزمة فقط لأن هناك صراعا بين فرقاء على السلطة وتدخّل جهات أجنبية؟

الحقيقة أن الضغوطات والصراعات الاعتيادية التي تعيشها المجتمعات ليست أزمة، فالحياة كلها ضغوط ومشاكل وصراعات، الصراع أمر بديهي وعادي. لكن ما يقع في ليبيا يعكس مرحلة متأزمة في الصراع، لذلك ارتفع المشكل لمرحلة الأزمة.

الضغط الكبير وتعدد المتدخلين ولّد الإنفجار، فأصبحنا نعيش واقع أزمة إقليمية مستعصية عن الحل فكيف وصلنا لهذه المرحلة المتقدمة من الصراع؟

سقوط نظام القذافي بعد ثورة شعبية نادت بالحرية والمساواة لم يكن لتقبله بعض الدول العربية الخائفة من امتداد الربيع العربي إليها، لذلك حاولت خنق الثورة الليبية ودعمت من يسعى لإجهاضها.

كما أن للنظام السابق أتباعا ومناصرين وأبناء يريدون العودة بالبلاد للعهد القديم، وقوى خارجية عينها على خيرات البلاد، فاشتعل الصراع بين ما يسعى لبناء ليبيا جديدة على أسس ديمقراطية وبين من يريد إرجاع آلة الزمن للوراء.

وبذلك أصبحت الأزمة الليبية امتدادا لصراعات الربيع العربي في منطقة الشرق الأوسط، بين من يريدونه مزهرا وبين من يستعجلون الخريف. فمصطلح عربي أصبح يختصر الكثير من الأسباب الذاتية والموضوعية للأزمة الليبية التي لا يمكن حصرها.

ليبيا اليوم ضحية لعروبتها ولجغرافيتها وثرواتها الطبيعية، فهي دولة عربية مترامية الأطراف من الناحية الجغرافية، ورابع دولة إفريقية من حيث المساحة، وقريبة من أوروبا ومن مصادر اليورانيوم الإفريقي الذي تعتمد عليه بعض الدول الغربية في تشغيل محطاتها النووية.

وبرز النفط كأحد محفزات عدم الاستقرار بعد الخلاف على كيفية توزيع مخصصاته على أبناء البلد كافة، مما يجعل الأزمة الليبية أزمة متعدية لنطاقها لتصل إلى دول الجوار، وعلى رأسها مصر ودول شمال المتوسط الأوروبية.

مع الإشارة إلى العاملَين الجغرافي والنفطي من المفروض أن يكونا محددين إيجابيين، لكن ضعف عدد السكان بالمقارنة مع اتساع مساحة البلاد، والإمتداد الكبير للحدود، جعل ضبطها صعبا، وفتح المجال لتسريب الأسلحة والممنوعات والمتطرفين التابعين للتنظيمات الإرهابية والمرتزقة الروس وغيرهم.

***

د. هشام خلوق ـ دكتوراة في القانون الدولي والعلاقات الدولية ـ استاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية ـ عين الشق ـ المغرب

______________

المصدر: مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل ـ المجلد السادس ـ العدد الثاني عشر ـ يوليو 2021م

مواد ذات علاقة