عزمي بشارة

نشر مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدكتور عزمي بشارة ، اليوم الإثنين، تعليقاً عبر صفحته في “فيسبوك”، استعرض فيه “أخطاء حركة النهضة كما سمّاها، وذلك بعد أن بيّن سابقاً منجزات الحركة، من إصلاح فكري، وتمسّك بالديمقراطية، إلى رفض الإملاء الديني القسري والتكيف مع علمانيّة الدولة، والبراغماتية السياسية، والاستعداد لتقديم التنازلات في اللحظات التي بدا فيها الانتقال إلى الديمقراطية مهدداً، وغيرها.

وقدّم بشارة في تعليق بعنوان: “في أخطاء حركة النهضة”، 10 أخطاء سياسية وقعت فيها الحركة، بوصفها حزباً سياسياً ظلّ منذ الثورة جزءاً من الائتلافات الحاكمة المتغيرة، كالآتي:

1- تمسكت “النهضة” بالسلطة بأي ثمن، حتى حين كان يجب أن تنتقل إلى المعارضة، وحتى حين كان الطريق الوحيد هو بناء تحالفات انتهازية ليس فقط في نظر الجمهور الواسع، بل أيضاً في نظر قواعدها الاجتماعية.

2- كان الثمن الموضوعي للتحالف مع “نداء تونس” المساومة على العدالة الانتقالية ومكافحة الفساد.

3- كان على “النهضة” و”نداء تونس” واجب انتخاب محكمة دستورية، فهي ضرورة ماسة في نظام رئاسي/برلماني مختلط. ولكنهما لم يقوما بهذا الواجب، كانت “النهضة” عموماً تشك بالقانونيين والنخب العلمانية، وتخشى تكرار تجربة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.

4- كان عليهما تغيير طريقة الانتخابات بوضع عتبة انتخابية ووضع قانون يمنع السياحة الحزبية وتشويه صورة الأحزاب. ولكن استمرار طريقة الانتخابات القائمة أسهم إسهاماً أساسياً في تعطيله.

5- ركزت “النهضة” هجومها في الانتخابات الأخيرة على نبيل القروي إلى درجة شيطنته، وكان المستفيد الوحيد هو المرشح المنافس سعيد الذي لم تنطق ضده بكلمة نقد واحدة، وهو الفاقد لأي برنامج والذي يصرح علناً بمواقف مناهضة للدستور والنظام البرلماني. والأنكى والأمرّ أنها ما لبثت أن تحالفت مع من شيطنته، فبدت بذلك جزءاً من نظام حزبي فاسد لا تهمه المبادئ والقيم بقدر ما تهمه السلطة ومنافعها.

خسرت “النهضة” بذلك مرة أخرى جمهوراً سبق أن أيّدها، ولكنها لم تكسب جمهور القروي. وفقدت تبريرات “النهضة” فاعليتها هذه المرة. التحالف مع السبسي (الذي لم يكن بحاجة للتحالف مع النهضة إذ كان بوسعه تشكيل ائتلاف أغلبية في البرلمان من دونها) كان لإنقاذ الانتقال الديمقراطي، فما هو تبرير التحالف مع “قلب تونس”؟ البقاء في السلطة.

6- سبق أن تحالفت “النهضة” مع يوسف الشاهد ضد حزبه وضد من عيّنه (السبسي) ومع ذلك لم تكسبه حليفاً لها، فهو سياسي وصولي لا غير، فاستفاد منها ولم تستفد منه. وحاولت أن تكرر ذلك مع المشيشي، المكلف المجهول الذي أتى به الرئيس، والذي “عصى” من عيّنه وحاول أن يجعل منه مجرد وزير أول في نظام رئاسي، فأدت المحاولة إلى أزمة شلت الدولة طوال عام كامل. حكومة مدعومة من “النهضة” غير قادرة على العمل، رئيس يفعل كل شيء لشل حكومة قامت عكس مشيئته، وبرلمان مشغول بالمناكفات والمشاكسات كما تبدو صورته.

7- لم تكن أجندة سعيّد ضد “النهضة” التي دعمته في الجولة الثانية من الانتخابات، فليست هذه معركته الأساسية، بل كانت معركته ضد البرلمان لصالح نظام رئاسي فردي، ولكن سهل عليه تصوير المعركة على أنها معركة ضد الأحزاب والنخب السياسية عموماً (وهذا جوهر الخطاب الشعبوي)، أما التركيز على “النهضة” فيسهل استقطاب فئات واسعة لديها موقف متأصل ضد “النهضة”، وإن كانت غير متعاطفة مع شعبوية الرئيس وتفضل الفرنسية الفصحى على لغته.

8- الغريب أن “النهضة” فوجئت من وجود أجندة مناهضة للنظام البرلماني لدى سعيد، مع أنها كانت معلنة، والغريب أيضاً أنها لم تتمكن من التعامل مع شعبوية سعيد التي لم تتجاهلها فحسب في الانتخابات، بل تعاطفت معها.

9- حين تصدّت “النهضة” لخوض المعركة مع سعيد، لم تدرك مدى سوء صورة البرلمان في الشارع التونسي (هيئة من دون فاعلية في حل قضايا الشعب ومكان للمناكفات والتهريج، وأصحاب المصالح الفردية المتنقلين من حزب إلى آخر)، وكم تدهور وضعها في الشارع. وظهرت “النهضة” وكأنها تمثل صورة الأحزاب المتردية كلها حين أصرت على رئاسة البرلمان، والإصرار على أن يكون رئيس الحركة (وليس غيره) هو رئيس البرلمان، وقيادة ائتلاف يدعم حكومة معطلة. ولو كانت في المعارضة لكانت في وضع أسلم بكثير، ولو بقي رئيس الحركة خارج هذه المعمعة لكان أفضل له وللحركة.

10- ارتكبت الأحزاب الكبيرة الأخرى أخطاءً أكثر فداحة بالتأكيد، ولكن “النهضة” كانت الحزب الثابت في الخارطة التونسية منذ الثورة، والأكثر تواجداً في السلطة، وإليه وجهت سهام الخطاب الشعبوي.

********

أخطأت النهضة وأصابت وأخطأت!

طه البعزاوي

أما “الأخطاء” الأولى، فهو في حرص النهضة على أن تكون شريكا أو داعما لكل الحكومات السابقة، فمهما كانت المبررات والأسباب فإنها أساءت تقدير مضار المشاركة في الحكم والموازنة الدقيقة بين إيجابياتها وسلبياتها. وأخطأت في غمرة المشاغل اليومية إذ وكلت أنصارها وناخبيها إلى وعي غير متوفر وتعفف غير مقدور عليه.

وباسم المحافظة على “الشقف” لم تهتم بمعاناة “البحارة”، وبذلك وجد القراصنة الفرصة سانحة للسطو على المركب دون مقاومة تذكر! كما تحول بعض “البحارة” إلى أعوان للقرصان “الأعور”!

وكان فشل النهضة ذريعا في التواصل مع صفها ومع ناخبيها ومع عموم الشعب، حيث أنها لاذت بالصمت في مواجهة الشائعات وعمليات الهدم الممنهج، ولم تخبر الشعب بالتحديات والعراقيل ولا الضغوط المحلية والدولية.

وكان أغلب تعاملها تكتيكيا آنيا أبعد ما يكون عن العمل الاستراتيجي المدروس. وأما إذا تعلق الأمر بإطلاع الناس على ما أنجز وتحقق فالفشل أشد وأنكى!

ولم تحسن النهضة تقدير مآلات الأمور التي تعيشها اليوم تقديرا مسبقا، وما تتعرض له من نقمة شعبية. ولم تفعل شيئا يذكر لدحض الاتهامات وتوضيح الصورة حتى يكون الناس على بينة من أمرهم!

فكان الإخفاق كبيرا وبعضه أو جله كان يمكن تفاديه بمصارحة الناس أو التخفف من أعباء الحكم!

وقد “أصابت”، حين توافقت مع المرحوم الباجي لتجنيب البلاد حرب استئصال إيديولوجية، أعلنت صراحة وخطط لها من طرف “حلف الاتحاد من أجل تونس” وجماعة “الرز بالفاكية”! الذين تحدثوا عن إعادة النهضويين للسجون والمنافي أو تقتيل عشرين ألفا “لتطهير” البلاد منهم!

وقد أفلح الغنوشي يومها في نزع فتيل اشتعال حقيقي عبر اتفاقه مع الباجي، وهو الاتفاق الذي رعته فرنسا ولم تتبين ملامحه بعد!

وأصابت النهضة بعد انقلاب قيس سعيد على الدستور بتخطيط مصري إماراتي فرنسي لا تخطئه إلا عين الحول أو الدجل. فقد كان الموقف في بدايته صريحا لا لبس فيه بأن ما حصل انقلاب لا شبهة فيه ولا علاقة له “بإجراءات استثنائية” فرضها وضع طارئ!

فالأمر مخطط مبرمج وخطواته واضحة ومتتابعة بمكر ودهاء.

وأهم ما أصابت فيه النهضة حيال هذا الموقف هو دعوة أنصارها للانسحاب من الساحات وعدم المواجهة! رغم أن كثيرين اعتبروا ذلك جبنا، ولكن العقلاء حتى من خارج الصف النهضوي اعتبروا ذلك عين الصواب!

لأن المجرمين الذين خططوا للانقلاب وعلى رأسهم السيسي احتملوا فرضية واحدة وهي المواجهة!

ومن يعد لخطاب اعلان الانقلاب يجد ذلك واضحا في كلام الطرطور “السيساوي” بأن “أطرافا” تعد الأموال من أجل بث الفوضى، وتوقع من نسج خياله أن يواجه انقلابه بالرصاص، وهدد بأن رصاصة واحدة “من الرافضين” ستواجه بوابل من الرصاص!

وقد أحرجه وأربكه وأربك أسياده ومخططيه عدم اختيار النهضة للمواجهة ونزع فتيل التناحر الشعبي، خاصة أمام ما أبداه أنصاره من حماقة وغباء واستعداد لإدخال البلاد في الفوضى والدماء!

فمن سالت دماؤهم أمام البرلمان هم الرافضون للانقلاب! وسحبت النهضة بقرار عدم المواجهة مبرر الانقلاب في تمديد “الإجراءات الاستثنائية”!

والغريب أن بعض من يأمل في الانقلاب خيرا ويطالب بإعطائه فرصة لم يعجبه موقف النهضة وكان يتمنى أن تصعد وتواجه، وهو تناقض غريب! فمن جهة يدعو لمنح الفرصة للانقلاب لعله ينجح في إخراج البلاد من المأزق السياسي متوقعا أن يجني العسل من “بوفرززو”، ومعرضا عن قاعدة “فاقد الشيء لا يعطيه” ومن الجهة الأخري يدين النهضة لجبنها وعدم مواجهتها.

اختارت النهضة عدم المواجهة وهو قرار صائب فليست وصية على الثورة ولا على الحرية ولا على الديمقراطية، وقد قيل لمناضليها من قبل “ما قلنالكمش ناضلوا علينا”!

وأحسنت إذ منحت الفرصة لثوريي الوقت الضائع كي يتداركوا ما فاتهم من نضال ويحموا الديمقراطية والحرية، أو يكونوا ظهورا طيعة يركبها الاستبداد، وجسورا للسيسي ونهيان يئدون بها حلم التونسين في العيش بحرية وكرامة!

مع قناعتي بأنه رغم التهري الذي سببته تجربة الحكمة وخيبة الآمال فإن النهضة مازالت سيدة الشارع، وتقديري أن كل الذين خرجوا يهتفون للانقلاب ويناصرونه في كامل تونس لا تتجاوز أعدادهم مسيرة النهضة يوم 27 فيفري 2021!

ولكن الإعلام المأجور يقزم العمالقة و”يعملق” الأقزام! دون أن أنكر الابتهاج الشعبي بإزاحة النهضة! ولكن ليس هذا موضوعنا الآن، فالشارع للتعبير عن الرأي وليس لتقرير المصير!

فأهم ما وصلت إليه الإنسانية من وسائل تنظيم الاختلاف بين الفرقاء السياسيين هو الاحتكام السلمي للصندوق مادامت العملية سليمة من التزوير!

أما الاستناد للشارع فكذبة كبرى، لأن كل جماهير تخرج لمناصرة أمر ما يمكن أن تخرج جماهير مثلها أو أكثر لمناصرة نقيضه، وهي دائرة شعبوية عبثية!

وحتى الزعم بكره الأحزاب والساسة والسياسيين فهو في حد ذاته موقف “سياسوي شعبوي” لا يطرح حلا غير الفوضوية والاستثمار في الغباء واليأس والحسد!

وأما “الأخطاء” الثانية للنهضة، فقد حصلت في بيان مجلس شوراها لدورته 52، وقد عدلت رأيي فيه بعد حوارات إذ رأيت في البداية أنه متوازن، خاصة وأنه سمى الانقلاب باسمه. ولكن لهجة البيان لم تكن بالحدة المطلوبة في وصف ما حصل بالوصف الحقيقي وفي التعبير عن رفضه.

فكان الخطاب “شاد العصا من الوسط”، ولا أدري لمن يوجه مثل ذلك الخطاب، فالشخص المعني به ثبت أنه مبرمج مثل الروبو، لا يغير مواقفه إلا إذا تغيرت برمجته!

والجهة المبرمجة لا تقبل نوعية خطاب بيان شورى النهضة ولا ترضى بغير وأد التجربة نهائيا حتى لا تتوق شعوبها للحرية!

أعلم أن السياسة في أغلبها الأعم ليست تعبيرا على مبادئ ثابتة ومواقف لا تتغير وإنما هي توازنات وتقديرات قد تتخالف وتتناقض حد التضارب حسب اللحظة وموازين القوي، ولا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة!

ومن زعم خلاف ذلك فقد جانب الصواب. ولكن الموقف السياسي الصحيح حسب تقديري هو رفض الانقلاب ووصفه بما يجب دون الدخول في مواجهة مع مؤسسات الدولة أو مناصريه لأنه معرض للفشل.

وقد سبق موقفي هذا اجتماع النهضة وبيانها وعبرت عنه في مقال بعنوان “اتركوهم في التسلل” لأنني قدرت أن بأس أنصار الانقلاب سيكون بينهم شديدا، وسينقلبون على “زعيمهم السيسافي” عند أول منعطف من خيبة آمالهم وتبدد أحلامهم وأطماعهم، وقد بدأت بوادر ذلك تأتي من اجتماعات “لجانه الشعبية”!

أجزم أن أكبر ما يغيض الانقلابيين اليوم في الداخل والخارج هو اختيار النهضة عدم المواجهة فذلك يفقد مخططهم الانقلابي جدواه.

وذلك هو الموقف الاخف ضررا للنهضة ولتونس معا!

__________

مواد ذات علاقة