خالص جلبي

كانت القاضية الكنديَّة تقول في مهرجان توزيع الجنسيَّة على (85) مواطناً من (38) دولة: «إنَّنا نعلم أنَّكم ودَّعتم أوطاناً تحبونها ولكنَّكم تركتموها وراءكم ظهريا بسبب ميثاق الحريَّة عندنا». ثمَّ تقوم بتسليم ميثاق الحريات بنقاطه العشر مع بطاقة الجنسيَّة الكنديَّة.

الجزء الثالث

أنواع الهجرة

الهجرة أنواع: من جمهوريات الخوف والبطالة، أو بالانسحاب الاجتماعي، أو بالانتحار بـ «كاسيتات» الوعاظ الجدد.

الهجرة ليست لكلّ الناس، ولا يمكن ولو اشتهوها. ولا ينجح في الولوج إليها إلا من آثر الفرار من بلده حتى يلج الجمل في سم الخياط. ولو فتحت السفارة الكنديَّة أو الأستراليَّة أبوابها في عاصمة عربيَّة من دون قيود لهرع إليها الشباب في طوابير كجراد منتشر مهطعين إلى الداعي.

ومن قفز فنجح في الوصول إلى جنَّة المهجر لم يرجع إلى بلده إلا زائراً يتمتَّع بلحظات السعادة مرَّتين: على متن الطائرة (قبل دخول) الوطن و(بعد الخروج) منه، بعد أن يكتوي أياماً في جحيمه. وإذا احتاج إلى إنجاز أمر دار في حلقات البيروقراطيَّة مثل الحمار في الرحى. ويكون مثله مثل من غادر الجنَّة إلى جهنم، واكتوى بالنيران بعد أن ودَّع الجنَّة ورضوان

الهجرة ثلاثة أنواع:

أوَّلها الهجرة إلى الخارج في أيَّ اتجاه مثل انفجار قنبلة عنقوديَّة، وحالة هرب في جوٍّ من الفزع الأكبر في كلّ مفاصل المجتمع وشرائحه على نحو طردي، فكلما زاد وعي المواطن ازداد هربه من جمهوريات تجمَّدت في مربَّعات الخوف والبطالة، وتوقَّف الزمن فيها عند كافور الإخشيدي. فهي قفزة في الزمن تزيد على (500 عام)، في مجتمع يتثاءب، وهو يقلّب قصص السندباد. وإنَّ يوماً فيها كألف سنة ممَّا تعدُّون

أمَّا النوع الثاني، فهو من لم يهاجر إلى الخارج؛ بل هاجر بحركة عكسيَّة إلى الداخل، فانسحب من المجتمع، وفتح كتاب النبات، وحفظ وظائف الحشائش جيداً، وأدَّاها ببراعة في مجتمع ودَّع العقل وحريَّة التعبير إلى أجل غير مسمَّى حفاظاً على حياته ورزق عياله من غيلان الغابة

وهناك هجرة ثالثة انتحاراً بالمسبحة على قرع صنج الصوفيَّة، أو على صراخ «كاسيتات» التيَّارات المتشدّدة من الوعاظ الجدد الذين يجيدون حديث السحرة، وحقن الوعي بمواد مصلبة تنفع في نشفان الدماغ، كما يحقن الأطباء مريء المصابين بنزف الدوالي.

إنَّ حالة الاختناق ونقص أكسجين الحريَّة هذه الأيام في العالم العربي تشكّل طاعوناً جديداً، فهي تحزم العقل بحفاضات الأطفال، أو تودع العقل في القوالب الصينيَّة للمحافظة على الدماغ بحالة صبي بريء يحملق في الأوضاع ببلاهة، ويحمد الله على أنَّ المعتقلات فيها بضعة آلاف فقط.

وإذا كان العقل قد اختنق في الداخل، فليس أمام الصحافة العربيَّة إلا أن تهاجر ولو إلى بلاد الواق واق، فتطبع حرف الضاد في جزر يخيّم عليها الضباب؛ حيث لا يوجد أحد يفكُّ الخطَّ العربي، وتوزَّع في اليابان حيث العربيَّة غريبة عليهم بقدر غرابة اللغة اليابانيَّة علينا.

إنَّ هجرة البشر وسمك السلمون وأعشاش النحل كلها تخضع لقوانين مثل الطفو في الفيزياء، والحلقة البنزينيَّة في الكيمياء العضويَّة، والنسبيَّة في الكون، والكوانتوم في ميكانيكا الكم. فالأجسام تسقط إلى الأرض ولا ترتفع إلى السماء، والضوء يمشي بسرعة (300) ألف كم في الثانية، والناس يفرّونُ من ظلمات العهد السياسي إلى ضوء الحريَّة وأكسجين الفكرفيتنفَّسون.

وبهذا كانت الهجرة مأساة أمَّة ونهاية ثقافة إلى حين.

وعندما ترك (لوط) سدوم وعمورية قال له الله: «ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون». فالوطن حينما يتحوَّل إلى سجن يجب أن يُغادَر. ومن لا يفعل فأولئك مأواهم جهنمُّ وساءت مصيراً. لقد حضَّ القرآن على الهجرة ولعن القاعدين؛ لأنَّه يعلم أنَّ الفتنة أشدُّ من القتل، والظلم يفسد الشيم، والاستبداد يُحوّل الإنسان إلى مهرّج، والسيد إلى عبد، والمخبر السري إلى زعيم يتصدَّر القوم، ورجل الاستخبارات إلى قاضٍ في مصائر الناس.

ووظيفة (المعلم) في فرع الأمن ليس فقط أنَّه يتجسَّس على الأمَّة بجهاز من الديناصورات اللاحمة تدبُّ في أزقة مهملة لم تصلح منذ عهد الاستعمار، يمشي فيها مواطن حافٍ بأسمال، بل هو يقرّر من يدخل الجامعة، وأيَّ وظيفة يستحق، وأيَّ منصب يتقلد، ومن يفتح الدكان، ويشتري العقار

إنَّ الطواغيت إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة وكذلك يفعلون

وكما يحدث في انتشار الأوبئة، لا يخطر في بال أحد أن يجاور أو يعيش في مستنقع ينقل إليه الملاريا، أو التهاب الدماغ النومي بذبابة التسي تسي، أو حيث تزحف أفاعي الأناكوندا فتبتلعه. كذلك لا يخطر في بال أحد أن يفضّل المكث في بيئة عشَّش فيها الإرهاب مثل أعشاش الدبابير. واستقرَّ فيها الظلم كمرض الكوليرا المتوطّن في الهند. ونمت الديكتاتوريَّة كشجرة باسقة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنَّه رؤوس الشياطين

العرب يهاجرون من كلّ حدب وصوب، وإلى كلّ مكان، وبأيَّة شروط، ولو كانت أشبه بحياة الجرذان في مجاري المدن. فليس كلُّ من هاجر أصبح ثرياً. ومن لم يهاجر حدثته نفسه بالهجرة. ومن يرى المهاجر يقول يا ليت لي مثل ما أوتي قارون إنَّه لذو حظ عظيم. والبنت التي تُزوَّج حسبُها جنسيتها، فمن كانت أوربيَّة أو أمريكيَّة تهافت عليها الخطاب، وغلا مهرها في سوق الزواج.

ولا يوجد مواطن عربي لم يفكّر في الهجرة أو حاولها ولو كان مليونيراً، أو رئيس فرع استخبارات، أو جنرالاً في الجيش، أو مدير مستشفى لا ينقصه المال أو الوجاهة؛ لأنَّ سبب الهجرة هنا يتجاوز المال والنفوذ إلى شعور عدم الأمن، واضمحلال الأمَّة في ظروف البؤس والاختناق السياسي، وأنَّ الإنسان منسي في مربَّع الزمن

وعندما اعتدى ابن حاكم مصر عمرو بن العاص على ابن القبطي في السباق بغير حق، ركب القبطي ظهر الجمل يخبُّ به الصحارى مدَّة شهر كامل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يشكو الظلم، بسبب موجة الوعي والتحرُّر التي أطلقها الإسلام في قلوب الناس، ولشعور القبطي العميق بأنَّ لطمة (الكف) وضربة (السيف) أمران متلاحقان، وهي مسألة وقت لا أكثر، في مجتمع تمَّ اختراق كرامة الإنسان فيه. فقد صفَّ الناس جميعاً (على الدور).

وهذا يطول المواطن الميت، كما يصل إلى رئيس فرع المخابرات الذي يعذب المواطن. والمرض عندما يضرب بيئة ما لا يسأل عن الهويَّة العقائديَّة. والكوليرا أو الحُمَّى الشوكيَّة عندما تدخل بدن المصاب لا تقول له أَأنت شيعي أم شيوعي؟ وكلُّ ما تبحث عنه هو شروط الاستعداد للإصابة. ومن هنا رأى القرآن أنَّ من حبس نفساً واحدة فكأنّما حبس الناس جميعاً.

وهذا الذي حوَّل الوطن إلى سجن كبير. وهذا هو فرق الغابة عن المجتمع الإنساني، فعندما تفترس اللبوة الجاموس لا يعتبر القطيع أنَّها مسألة تدعو إلى القلق. ولكنَّ المجتمع الإنساني يرى أنَّ الثور الأحمر عندما يُؤكل فقد جاء دور بقية الثيران. ولو أنَّ الغرب يشتغل بهذا المنطق ما شنَّت أمريكا حربها على أفغانستان بدعوى أنَّ من قُتِلَ في (11) أيلول/ سبتمبر عدد زهيد يُقتل أكثر منه في شهر واحد في حوادث الطرقات.

وهذا هو الفرق بين كيف يفكّر العرب، وكيف يفكّر الغرب. فالعربي يرى أنَّ اعتقال المئات أمر عادي، ولكنَّه إذا وصل إلى ثلاثة ملايين فربما فكَّر! ربما فكَّر! ألا ساء ما يحكمون

وعندما يُجهِّز المسؤولون ورجال الاستخبارات أولادهم للهرب من الوطن بأسرع من الجرذان عندما تغرق سفينة، فسببه شعورهم الواضح والحاد بأنَّه لا ضمانة لأيّ شيء أو لأيّ إنسان في أيّ مكان أو زمان، وهو منطق قرآني: من هتك حرمة واحدة في مجتمع، وتمَّ اختراق القانون فيه، فلا نجاة لأحد، وعندما يمشي مجرم قاتل في قرية ولم يُقبض عليه معناه خطر الموت لكلّ أهل القرية، ومن قتل نفساً فكأنَّما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعاً. فهذا هو مغزى قصة صراع ابنَي آدم في القرآن، ولم يكن ليرويها من باب الترفيه والتسلية

إنَّ الهجرة إلى الغرب تحوَّلت إلى نعمة الانفكاك في الزمن من العبوديَّة العربيَّة بعد أن تحوَّل المواطنون إلى أقنان من دون سلاسل. ومن كُتِبَ عليه الشقاء في الداخل يحمد التقنيَّة الغربيَّة التي مكَّنته من التواصل، فأصبح الناس بنعمة الإنترنت إخواناً، وتملصوا من قبضة ثقافة ميتة أُصيبت بالصمل الجيفي، كما تفعل الجثث المتخشبة، فأصبحوا يستنشقون الحريَّة بأنفاس إلكترونيَّة، كي يعيش الضمير في القرن الحادي والعشرين، ويدع العرب في القرن الثاني عشر.

إنَّها لا تزيد على قلب بسيط للأرقام. والعرب أمَّة أمَّية تفخر بالأميَّة، فإذا انقلبت الأرقام عند مواطن أمّي فلن يحدث شيء؛ لأنَّهم أصلاً يمشون إلى الخلف مقلوبة رؤوسهم من دون أن يشعر أحد بالدوار

لماذا يجب أن يهاجر الإنسان؟

اجتمعتُ برجل أصولي أعرفه منذ أيام الطفولة، وفوجئت بأنَّه على وشك الفرار إلى كندا بعائلة كبيرة مكوَّنة من خمسة عشر نفراً. بما يكفل له راتباً كريماً ممَّا تقدّمه الحكومة الكنديَّة للأطفال يزيد على راتب ثلاثة وزراء في جمهوريات الخوف والبطالة. لم يكن الرجل يشكو من ضيق ذات اليد، ولم يكن ملاحقاً سياسياً، بل هو منغمس في بيئة منغلقة أشدّ من انغلاق عقله بمرَّات. ولا يزيد فهمه في السياسة على فهم فلاح في رياضيات التفاضل والتكامل، أو نجار في علوم الذرة والفضاء.

ويعتقد جازماً بأنَّه يعيش في بيئة أقرب إلى مجتمع الصحابة. مع كلّ هذا، فرَّ من رغد العيش ومجتمع الفضيلة إلى بيئة يَعدّها (جاهليَّة) تشمّر نساؤها عن فخذ، ولا يُسمح فيها بأذان، ولا يدرّس في مدارسها واعظ أيَّة ديانة. اتصل الرجل بي بعد فترة، وقال لي: تصوَّر أنَّ ابنتي تفرش لها معلمتها سجادة الصلاة، وأنَّها تمشي في الشارع العام وهي مغطاة الوجه.

قلت له: إنَّ كندا بلد متسامح مع كلّ القادمين، سواء من غطَّى وجهه أم كشف عورته، سواء صلى أم كفر. وعناية الدولة بالمجانين لا تقلُّ عن عنايتها بالعقلاء. ولكنَّ سؤالي إليك: لماذا هربت إلى دار الكفر، ولم تلجأ إلى دار الإسلام مثل السودان مثلاً؟ اضطرب الرجل ولم تسعفه الكلمات؛ قلت له سأريحك أنا بالإجابة: إنَّها (الضمانات) يا صاحبي، ولاسيما أنك تفرُّ بثروتك حيث يبحث رأس المال عن الأمان أكثر من الديانة

وروى أحدهم لزوجتي، وهو يؤدي القسم لنيل الجنسيَّة الكنديَّة أنَّه كان في حيرة من أمره بين (ديمقراطيَّة كافرة) يؤدي قسم الطاعة لحكومتها، وبين مجتمع ينعم فيه بالضمانات من كلّ لون ضدّ المرض والشيخوخة والبطالة، وينام قرير العين من دون خوف من رجال المخابرات. قال لقد دمعت عيني وأنا أسمع ما تقوله القاضية؛ لأنَّها ذكَّرتني بقيم تمنيتها لوطني الذي هربت منه

إنَّ مشكلة (الدوغمائي) أنَّه يقع في التناقض من دون أن يشعر به. كمن يمشي على رأسه من دون أن يحسَّ بالدوار

واليوم يفرُّ (المتشدّدون) إلى بلاد مثل: بريطانيا، والسويد، وكندا، وألمانيا، هي في نظرهم قمَّة التحلل والإباحيَّة ووطن الكفر. ويرفضون أن يعيشوا في بلاد الإسلام مثل اليمن السعيد، أو تحت قباب القيروان، وإلى جانب الأزهر الشريف، أو عند العتبات المقدَّسة في العراق

إنَّهم يرفضون كلَّ العالم الإسلامي، ويوجهون وجوههم شطر الغرب، فلماذا؟ 

إنَّ الهجرة تخضع لقانون ساحق ماحق يعمل تحت أبصارنا كلَّ يوم، سواء في الفيزياء أم منطق الطير أو ولادة الحضارات، سواء أدركناه أم خفي علينا.

في الفيزياء ينزاح الماء بين وسطين مختلفي التركيز يفصل بينهما غشاء نصف نفوذي باتجاه الوسط الأكثر تركيزاً بالأيونات. وفي قوانين المياه المستطرقة إذا اتصلت أوساط مختلفة الحجوم فإنَّ الماء يتحرَّك، حتى يحدث السواء في الارتفاع. وبرادة الحديد تنجذب حول القطب المغناطيسي تحت قانون الاستقطاب. وطيور السنونو تغادر بحثاً عن الحبّ والدفء. وشلالات نياغارا تتدفق من علٍ فتولد الكهرباء في مولدات التشغيل.

والعقول تفرُّ، حيث كرامة العلماء ومراكز البحث. والمال يطير بجناحين من يورو ودولار حيث الأمان والنمو. فهذه قوانين وجوديَّة لا علاقة لها باختيار وتفكير، بل هي تشفط العقول والأموال والكفاءات بأشدّ من تيار النينو الأطلسي، فتنهض أمم وتزول أخرى

وعندما يمتنع على الناس إمكانيَّة ممارسة العيش المشترك يتشظى المجتمع ويبدأ الفرار في ثلاثة اتجاهات: من أسعفه الحظ فقفز إلى الخارج ونجا. ومن انسحب (اجتماعياً) إلى الداخل، فمارس هجرة داخليَّة كما تفعل القطة بإخفاء صغارها. أو من انتحر بمسبحة المتصوّفة أو كهوف تورا بورا

***

خالص جلبي ـ كاتب ومفكر سوري، يحمل إجازة دكتور في الطب البشري والدراسات العليا (جراحة عامة) جامعة دمشق. نال إجازة بكالوريوس في الشريعة الإسلامية ـ جامعة دمشق. يؤلف ويكتب في مجال تنوير وتحرير العقل الإسلامي ونبذ العنف. صدر له العديد من الكتب منها (النقد الذاتي) (بناء ثقافة السلم). (الإيدز طاعون العصر) (عندما بزغت الشمس مرتين))مخطط الانحدار وإعادة البناء) (سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي).

___________

مواد ذات علاقة