يزداد احتمال توقف إنتاج النفط في ليبيا مع سعي جهات عدة في القطاع النفطي لتحقيق أجندتها الخاصة، حسب ما يخلص إليه تقرير للكاتب جايسون باك، نشره موقع «المونيتور» الأمريكي.

يشير الكاتب في مطلع تقريره إلى أن صراع السيطرة على قطاع الطاقة الليبي لم يقتصر على الحرب الكلامية، بل تعداها إلى عمليات القطاع النفطي، موضحًا أن مصطفى صنع الله، أحد أقوى الرجال في ليبيا ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط، اتهم الأسبوع الماضي وزير النفط والغاز، محمد عون، بالسعي إلى زعزعة استقرار المؤسسة الوطنية للنفط بدوافع شخصية.

صراع يحتدم

وقال الكاتب إن ملاحظات صنع الله قد تتضمن أكثر من مجرد جزء من الحقيقة، ولكن كان من الممكن تغليف تلك الملاحظات بقدر أكبر من اللياقة، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام المصالحة.

ولفهم هذا الصراع المحتدم على السيطرة على قطاع النفط، من الأهمية بمكان الوضع في الاعتبار أن عون لم يُعيَّن إلا في شهر مارس (آذار) عندما تولَّت حكومة الوحدة الوطنية السلطة بهدف إضعاف صنع الله، واسترضاء أصحاب النفوذ في شرق ليبيا، الذين سعوا إلى إطاحته منذ مدة طويلة.

والواقع أن عون كان قد اختِير على الأرجح لأنه كان قبل أعوام جزءًا من مخطط «المؤسسة الوطنية للنفط في شرق ليبيا» الانفصالية لإضعاف صنع الله والمؤسسة الوطنية الأم برمتها بوصفها مؤسسة تكنوقراطية تتمركز في طرابلس.

ويرى الكاتب أن هناك حجة قوية في مَطلَب صنع الله بأن يكون الرئيس الرسمي لكل ما يتعلق بالقطاع النفطي في ليبيا، فهو رئيس المؤسسة الوطنية للنفط بلا منازع، وفقًا للقانون الدولي.

وقد أظهر براعة تقنية لاستئناف الإنتاج بعد توقف طويل، ووظَّف شبكة علاقاته الاجتماعية لإقناع المجموعات المُحاصِرة لاستئناف الإنتاج.

وبالإضافة إلى ذلك، يقع هيكل اقتصاد ليبيا ضمن مؤسسات اقتصادية شبه سيادية، فضلًا عن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقطاع النفط الليبي، مما يعزل المؤسسة الوطنية للنفط عن القطاعات الأخرى ويجعل من المستحيل تقريبًا على وزارة تُعيِّنَها الحكومة المطالبة بسلطة أو الإشراف على تصرفات المؤسسة الوطنية للنفط.

ولذلك، حاول عون إقالة صنع الله أثناء سفره إلى الخارج على الرغم من افتقاره الواضح إلى سلطة القيام بذلك، متهمًا صنع الله بارتكاب جريمة وصفها الكاتب بالـ«تافهة»، وهي «انتهاك أنظمة السفر».

وفي الوقت نفسه، شكَّك عون علنًا في الصفقات التي تبدو مشروعة بين المؤسسة الوطنية للنفط وشركات النفط الدولية.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء، عبد الحميد دبيبة، «ألغى» قرار عون غير القانوني بإقالة صنع الله، في 8 سبتمبر (أيلول)، فقد تناول دبيبة تساؤلات طرحها مجلس النواب في طبرق، والتي كشف خلالها عن أن مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط سيُعاد تشكيله.

وذكر دبيبة أيضًا أنه سيكون منفتحًا على فكرة نقل مقر المؤسسة الوطنية للنفط إلى بنغازي، ولكنه أشار إلى أن ذلك لن يحدث على الفور؛ نظرًا إلى الحاجة إلى إجراء تحضيرات لخطوة من هذا القبيل.

توظيف الخلاف

ونوَّه الكاتب إلى أن هذه الأجواء المسرحية تجعل الأمر يبدو وكأن دبيبة ربما يمارس مناورة، بل ربما شجَّع بقوة النزاع المزعزع للاستقرار، لمنح نفسه قدرًا أكبر من السيطرة على قطاع النفط والانقضاض عليه بوصفه المنقذ الشعبوي الراغب في إنهاء المظالم التي يشعر بها سكان شرق ليبيا والقضاء على المحسوبية.

ومما زاد من هذا اللغط، أن مكتب عون أصدر بيانًا لا معنى له أعلن فيه أن تعليق عمل صنع الله لا يزال «ساريًا». ومن المؤكد أن لدى صنع الله أسبابًا مشروعة للشعور بالظلم ورؤية مؤامرة تُحاك ضده تجري على قدم وساق.

ولكن بدلًا من مجرد الاتكاء إلى مكانته الأخلاقية العالية في مواجهة تحدي عون، واصل صنع الله الهجوم بحملة من مقاطع الفيديو.

وردًّا على ذلك، وفي 8 سبتمبر (أيلول)، منع المتظاهرون المطالبون بإقالة صنع الله الناقلات في المحطتين الشرقيتين المهمتين في مينائي السدرة ورأس لانوف من تحميل النفط الخام.

واتهم هؤلاء المحتجون صنع الله بالفشل في توفير فرص العمل لسكان المنطقة في قطاع النفط، على الرغم من أنهم يزعمون أنهم أصحاب «جهودٍ تاريخية في الدفاع عن حقول النفط ضد تنظيم الدولة الإسلامية».

(لم يسيطر تنظيم الدولة على هذه المناطق مُطلقًا، وطُرد التنظيم من الهلال النفطي قبل ما يقرب من خمس سنوات).

وكذلك هددت مجموعة أخرى في الجنوب الليبي بإغلاق حقل شرارة النفطي، وهو أكبر حقل نفطي في ليبيا، في غضون أسبوع ما لم يُقَل صنع الله.

وتأتي هذه الأحداث بعد عدة أيام من تقارير عن تهديداتٍ أطلقها متظاهرون بحجب الصادرات من ميناء السدرة وغيرها من الموانئ الرئيسة، على الرغم من تأثُّر الإنتاج.

ومن الأهمية بمكان أن نضع في الاعتبار أن الجهات نفسها التي قُصد إرضاؤها بتعيين عون، هي ذاتها من يضطلع بتلك التصرفات الحالية.

والواقع أن رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية اختار عون رغبة منه – بحسب الكاتبفي استرضاء هذه المناطق على وجه التحديد وتحويل قطاع النفط في ليبيا جزئيًّا إلى أداة رعاية لترضيتهم بدلًا من مؤسسة تكنوقراطية يحتكرها خبراء بيروقراطيون يحمون سلطتهم الشخصية بحماسة.

عداء شخصي

وأضاف الكاتب أنه على الرغم من الأبعاد المؤسسية والإقليمية والأيديولوجية العميقة، يبدو أن التوترات الحالية تنبع في الأساس من العداء الشخصي بين عون وصنع الله، والذي قد يتلاعب به دبيبة عن عمد، مشيرًا إلى أن هذا العداء كان من الممكن حله من خلال وساطة خارجية إذا راعى كلا اللاعبين اهتمامات ورغبات الآخر.

لكن لم يحدث هذا باتباع الأسلوب الليبي التقليدي، وتهدد الأزمة الشخصية بين الخصمين بإلحاق أضرار جسيمة بالاستقرار في ليبيا المضطربة بالفعل.

ومع امتلاك ليبيا لأكبر احتياطي خام من النفط في أفريقيا، يعتمد الشعب الليبي على السلع الأساسية التي لا تزال أسعارها منخفضة بفضل الإعانات الحكومية المستمدة من عائدات النفط.

ومن ناحية أخرى، ازدادت النخبة في البلاد ثراءً، وغالبًا من مشروعات القطاع العام الفاسدة التي تمولها أموال النفط، الأمر الذي يجعل السيطرة على هذا القطاع الحاسم قضية سياسية كبرى.

وعلى الرغم من إساءة استخدام هذه الأموال النفطية وإغلاق القطاع النفطي أيضًا في كثير من الأحيان بسبب الإضرابات أو حصار أمراء الحرب، لم تكن هناك أبدًا أزمة شرعية حقيقية على مَنْ له الحق في ممارسة السيطرة التكنوقراطية على هذا القطاع.

ما الذي يؤخّر حل ملف «المرتزقة» في ليبيا؟

ويرى الكاتب أن النجاح الرئيس الوحيد الذي حققته ليبيا في مرحلة الانتقال بعد معمر القذافي هو الحفاظ الواضح على احتكار مؤسسة النفط الوطنية لإنتاج المواد الهيدروكربونية وتصديرها واستيرادها.

وحتى عندما كانت إدارة ليبيا منقسمة إلى حكومتين متنافستين، شرقية وغربية، فإن المؤسسة الوطنية للنفط «الحقيقية» هي الوحيدة التي كانت تسيطر على قطاع النفط.

ولذلك فإن التشكيك في هذا الأمر من خلال تعيين حكومة الوحدة الوطنية وزيرًا للنفط والغاز كان إشكاليًّا للغاية، ويُرجَح أن يؤدي إلى هذا النوع من الدراما.

وبالتوازي مع محاولة عون انتزاع السلطة من صنع الله، هدَّدت إحدى الشركات الرئيسة التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، وهي شركة الخليج العربي للنفط، بإغلاق عملياتها إذا لم تحصل على التمويل اللازم للإصلاحات والصيانة.

وهناك شائعات بأن شركة أخرى تابعة للمؤسسة، شركة سرت للنفط، قد تنضم هي الأخرى إلى هذا النزاع. وينبع قصور التمويل من صراع طويل بين حكومة الوحدة الوطنية، التي وصلت إلى السلطة عبر عملية حوار بوساطة الأمم المتحدة، والبرلمان الموجود مسبقًا الذي تجاوز مدة ولايته منذ أمد بعيد.

وقد استحدث رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية دبيبة، منصب وزير النفط عندما تولى حكومة الوحدة الوطنية السلطة في أوائل عام 2021 دون تحديد واضح لمجالات المسؤولية بين المؤسستين.

مخاطر كبيرة

ويتوقع الكاتب أن تُزِيد التوترات المتصاعدة بين المؤسسة الوطنية للنفط والوزارة من صعوبة توفير التمويل اللازم لهذا القطاع. وإذا ما نفَّذت هاتان الشركتان تهديدهما بالإغلاق بالفعل، فسيتوقف إنتاج ما قد يصل إلى 400 ألف برميل من النفط يوميًّا، أي ما يقرب من ثلث الإنتاج الحالي في ليبيا.

وفي الوقت نفسه، تغتنم مجموعات مختلفة في جميع أنحاء ليبيا الفرصة لدفع أجندتها الخاصة، مع إطلاق عمليات الحصار ورفعه، وكذلك يبدو الإغلاق المتقطع واستئناف الإنتاج أكثر احتمالًا.

ويضيف الكاتب أن المعركة بين صنع الله وعون لا تهدد بزعزعة استقرار قطاع النفط فحسب، بل تهدد استمرار حكومة الوحدة برمتها.

وقد تأسست المؤسسة الوطنية للنفط تحت حكم القذافي في عام 1970، بعد مدة وجيزة من توليه السلطة لعزل قطاع النفط عن السياسة الرعوية التي كان ينتهجها مع بقية قطاعات الاقتصاد.

وبعد سقوط القذافي، بدأت المؤسسات الحاكمة بالانقسام بين شرق ليبيا وغربها في عام 2014 مع انتخابات متنازع عليها لبرلمان جديد، والذي رفض البرلمان المنتهية ولايته الاعتراف به.

وقد حاول صنع الله إبقاء المؤسسة الوطنية للنفط محايدة وحماية إنتاج النفط من هذه التجاذبات السياسية المزعزعة للاستقرار. بيد أن تحركات عون لإقالة صنع الله، التي تأتي قبل أشهر فقط من الانتخابات الوطنية المقررة، والتي من غير المرجح أن تحدث على الرغم من الضجة الأخيرة بشأن مشروع قانون انتخاب البرلمان، لا تتعلق بالتخلص منه في واقع الأمر بقدر ما تتعلق بأن يبدو مُتحدو دبيبة في شرق ليبيا قادرين على حل المأزق.

ومن بين هؤلاء رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الذي كان من بين من يأملون في تولِّي منصب الرئاسة عندما شُكِّلت حكومة الوحدة الوطنية، وكان يبحث عن طرق لتوجيه خارطة الطريق الانتخابية الحالية لصالحه.

ويعتقد الكاتب أنه نتيجةً للمخاطر العالية، فمن الأهمية بمكان أن يرفع أعضاء المجتمع الدولي الذين يرغبون في تحقيق انتقال مستقر في ليبيا أصواتهم علانيةً ضد تغيير صنع الله، موضِّحين أنهم لن يؤيدوا الإجراءات التي من شأنها تقويض المؤسسة الوطنية للنفط بوصفها مؤسسة مستقلة، لافتًا إلى أنهم كانوا يقولون بالفعل ما يجب قوله خلف الكواليس، والآن حان وقت المكاشفة، كما يرى الكاتب.

وإذا ما ألقي الآن بالعبء الكامل للعقوبات الدولية على عون ردًّا على انتهاكه للقانون الدولي والليبي من خلال تشجيعه الحصار غير القانوني لموانئ ليبيا، فمن المحتمل أن تتوقف هذه الأنشطة على الفور ويمكن الحفاظ على ما يشبه الحكم التكنوقراطي على قطاع النفط في ليبيا.

وسيكون من المفيد أيضًا أن يسعى أصدقاء صنع الله لإقناع الأخير بالعدول عن تصريحاته اللاذعة وذلك لتوفير إمكانية إجراء عملية مصالحة أوسع.

ويحذر الكاتب في نهاية تقريره قائلًا: كلما طال أمد هذه الأزمة، زاد حافز الجهات الشائنة الأخرى لتُلقي بثقلها سعيًا إلى اقتطاع أجزاء من الاقتصاد الليبي بوصفه آليات صرف رعايتهم الخاصة.

___________

مواد ذات علاقة