شادي إبراهيم

إن تصاعد التنافس الدولي في إفريقيا يدفع الدول للصراع والتصادم خاصة مع تنامي دور الصين وروسيا، وهو ما قد يكون غير مرحب به من قبل فرنسا خصوصًا والاتحاد الأوروبي وأميركا عمومًا، وهو ما ينذر بارتفاع صادرات السلاح في السنوات القادمة.

الجزء الثاني

عقب اجتماع العسكري الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، عام 2018، مع قيادات من الجيش الروسي، بدأ حضور قوات فاغنر على الأرض واضحًا بشكل لافت وموثق خلال عمليات حصار العاصمة الليبية، طرابلس، في أبريل/نيسان 2019، فضلًا عن تأمينها للمنشآت النفطية وحقول النفط والغاز.

ويعد هذا المثال عيِّنة على كيفية استخدام الشركات العسكرية الخاصة من قبل الدول في تنفيذ سياساتها الاستراتيجية بتكلفة أقل ماليًّا وسياسيًّا؛ حيث ترى روسيا أن ليبيا تمثل تموضعًا استراتيجيًّا لها من أجل الوصول إلى قلب إفريقيا بسهولة والتحكم في حقول النفط والغاز التي تعتبر ليبيا أحد كبار مصدِّرِيهما إلى أوروبا ما سيمكِّن روسيا من ممارسة ضغوط على السوق الأوروبية حيث تعتمد ألمانيا على الغاز الروسي بشكل كبير، وسيمكِّن روسيا من بطاقات ضغط قوية في توجيه السوق؛ وهذا ليس إلا مثالًا يمكن أن يوضح التقاطعات بين المصالح الجيوسياسية للدول والشركات العسكرية الخاصة.

كذلك يمكن أن نجد شركات أمنية وعسكرية خاصة في جنوب إفريقيا تعمل على توفير الأمن داخل الدولة نفسها في معزل عن الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للدولة، بل وتمتد نشاطاتها إلى دول أخرى، على سبيل المثال شركة Executive Outcomes، وهي شركة عسكرية خاصة في جنوب إفريقيا، فرضت على حكومة سيراليون 35 مليون دولار لمدة 21 شهرًا، في حين أن وجود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لمدة ثمانية أشهر كان سيكلف 47 مليون دولار.

لذلك، لا نستغرب أن نرى بعض الدول والحكومات تذهب للتعامل مع الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بعيدًا عن المظلات الدولية التي تعتمد على حسابات معقدة سياسيًّا واقتصاديًّا، لذلك بات اللجوء إلى الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مفضلًا من الناحيتين، الميدانية والمالية؛ إذ لا تُفرض عليها أية رقابة وتتمتع بصلاحيات عالية في استخدام العنف وهو ما يجعلها مفضَّلة للأنظمة الديكتاتورية والعسكرية والانقلابية.

كشف تقرير لشبكة بي بي سي عن معلومات مهمة من جهاز لوحي فقده أحد عناصر فاغنر في ليبيا خلال المعارك التي كان يشارك فيها مع اللواء المنشق، خليفة حفتر، غرب ليبيا خلال عمليات حصار مدينة طرابلس ضد حكومة الوفاق المعترف بها دوليًّا؛ حيث كشفت المعلومات التي كانت بالجهاز عن تفاصيل دقيقة وموثقة عن الشركة، خاصة فيما يتعلق بطبيعة عملياتها التي لا تلتزم بأي معايير أخلاقية.

ولعل ما قاله عضو مجلس النواب الليبي، ربيعة بو راس: “إنهم لا يتنافسون على ليبيا فقط، بل أيضًا على صنع القرار الدولي في إفريقيا والعالموصف دقيق لطبيعة الدور الذي تقوم به الشركة في تحقيق أهداف روسيا. ليست فاغنر وحدها فقط، بل هناك قائمة طويلة من الشركات الأميركية والفرنسية والبريطانية والصينية والسويسرية التي تتمتع بسمعة سيئة.

تنامي الاستثمارات في المناطق غير الآمنة

إن ارتفاع استثمارات الدول في المناطق غير الآمنة يدفع الدول إلى الاعتماد على شركات عسكرية وأمنية خاصة، حتى تستطيع الدول أن تؤمِّن استثماراتها وتحميها.

ونقصد هنا بالتحديد الصين وفرنسا؛ إذ تبلغ على سبيل المثالالمخاطر المتوسطة والعالية على استثمارات الصين في الدول التي تتقاطع مع مبادرة الحزام والطريق (BRI) 84%

. نفذت الصين نحو 16 عملية إجلاء لغير المقاتلين، في جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا واليمن.

ولعل ما حدث عام 2011 خلال أحداث الثورة الليبية خير مثال حيث استأجرت الحكومة الصينية ثلاث سفن سياحية و100 حافلة من اليونان لإنقاذ مواطنيها، البالغ عددهم 13500 شخص، كما أن تنامي العلاقات الصينية مع الدول الإفريقية يدفع بكين إلى التعاقد مع الأمنيين لحماية استثماراتها ومواطنيها والدبلوماسيين.

أغلب تلك المعاملات ستذهب لصالح الشركات الصينية المملوكة للدولة (SOEs)؛ حيث يوجد أكثر من 10 آلاف شركة صينية تعمل في إفريقيا وقرابة مليون مواطن صيني يعمل هناك.

وقد حققت الشركات الصينية المملوكة للدولة قرابة 51 مليار دولار من العائدات من مشاريع الحزام والطريق وفقًا لمكتب الإحصاء الوطني الصيني.

واعتبارًا من عام 2020، كانت الصين مسؤولة عن مشاريع بناء في إفريقيا أكثر من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة مجتمعة.

لدى الصين حوالي 4000 شركة أمنية مسجلة مع ما يقدر بنحو 4.3 ملايين موظف، معظمهم من أفراد الجيش والشرطة المسرَّحين(11)، ما سيدفعها لاستغلال تلك القدرات في إفريقيا لاحقًا.

الاستثمار في الأمن وحده غير كافٍ

تسعى الدول الأوروبية إلى إيجاد حلول أمنية من أجل إيقاف الهجرة غير الشرعية، ويعد نموذج قوات G5 الساحل أحد تلك النماذج؛ حيث تسعى أوروبا إلى ضبط الأمن الحدودي بين الدول عبر تعزيز التنسيق بين جيوش الدول من أجل مراقبة الحدود ومواجهة المتمردين والجماعات المسلحة ووقف عمليات التهريب والهجرة غير الشرعية.

لكن ورغم حجم الاستثمارات الضخمة في قطاع الأمن عند دول الساحل إلا أنها في طريقها للفشل.

على سبيل المثال، شهدت مالي انقلابًا في شهر مايو/أيار الماضي، اعتقل الجيش على إثره الرئيس، باه نداو، ورئيس الوزراء ووزير الدفاع وأعلن عن تشكيل مجلس عسكري، ولا تزال حتى الآن الأوضاع في مالي متوترة بشكل كبير، وهو ما دفع فرنسا للانسحاب من شمال مالي، وإغلاق ثلاث قواعد عسكرية في مدن كيدال، وتمبكتو، وتيسالي شمال مالي، وتقليص عدد قواتها من 5 آلاف و100 عنصر إلى نحو 2500 عنصر، وذلك في إطار خطة تنفذ خلال الفترة بين النصف الثاني من 2021 إلى بداية 2022؛

وهو ما ينذر بانسحابها كما حدث مع القوات الأميركية مؤخرًا في أفغانستان؛ حيث إن تكلفة بقائها أعلى من قيمة الأهداف التي تحققها من وجودها المباشر، بجانب تنامي عمليات استهداف القوات الفرنسية من قبل الجماعات المتمردة خاصة مع تراجع قوة الحكومة في فرض سيطرة فعلية على الأرض.

العلاقات بين المرتزقة المحليين والشركات العسكرية والأمنية الخاصة

هناك بُعد آخر في خارطة السلاح في إفريقيا وهو تنامي العلاقات بين الشركات العسكرية والأمنية الخاصة والمرتزقة المحليين؛ حيث يمكن أن يجري توظيفهم من خلال الشركات الخاصة بأسعار أقل، وينحصر دور الشركات الخاصة هنا في الإشراف والتوجيه، فيما ينخرط المرتزقة المحليون في المواجهات وتنفيذ المهام التي غالبًا ما تعتمد على تجنيد الأطفال المختطفين أو من هم دون سن 18.

الخطورة هنا في هذه العلاقة هو تطور أداء المرتزقة المحليين وانتقالهم إلى تنفيذ مهام خارج حدود دولهم وقبائلهم ما يجعل من الصعب تقدير مخاطر الشركات والمرتزقة على حدٍّ سواء، ويصعب حصر نطاق حضورها بل وحتى طبيعة أعمالها، وإلى جانب ذلك فإنها تكتسب خبرات فنية عالية، ما يجعل حكومات عدة عاجزة عن مواجهتها.

على سبيل المثال، تقاتل مجموعات مسلحة سودانية وتشادية في ليبيا إلى جانب خليفة حفتر مثل حركة (جيش تحرير السودان)، وحركة العدل والمساواة، وميليشيات الجنجويد (قوات التدخل السريع) التي يتزعمها حميدتي، كما يمكن أن تمارس تلك القوات أدوارًا خارج إفريقيا أيضًا كما هي الحال في اليمن حيث تشارك ميليشيات الجنجويد في القتال هناك فالعامل المحرك هنا هو المال في المقام الأول.

وتوفر بعض الدول غطاء سياسيًّا للعديد من المرتزقة والمتمردين. فعلى سبيل المثال، افتتحت إسرائيل مكتبًا في تل أبيب، عام 2008، لزعيم جيش تحرير السودان، عبد الواحد نور، وتصرف له راتبًا شهريًا وتفتح له المجال العام وتدعمه في بناء علاقات مع أوروبا وهو ما يعطيه غطاء دوليًّا.

يشكِّل تعريف بعض المفاهيم جدلًا حيث يتداخل العديد من المفاهيم والتعريفات فنجد جماعات يطلق عليها متطرفة أو إرهابية أو متمردة أو مرتزقة، دون وجود مرجعية ثابتة يمكن الإجماع عليها.

ويمكن أن نقف هنا عند نقطة مهمة قد تسهم في توضيح الصورة ولو قليلًا وهي نقطة المشروع السياسي، فالجماعة المسلحة التي تفتقد إلى مشروع سياسي يمكن أن نعرِّفها بجماعة مرتزقة، بينما امتلاك مشروع سياسي سواء مستند على أساس عرقي أو ديني يجعلنا نعرِّفهم بمتمردين.

وبين هذا وذاك يمكن أن نرصد تحولات عند العديد من هذه الجماعات سواء بدافع الحصول على المال أو بدافع السياسة أو بدافع تنفيذ أفكارهم.

وفي المقابل، نجد الدول الاستعمارية تسعى لفرض مفاهيمها من أجل استخدمها كمظلة لبقائها. لكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن الدول الاستعمارية هي من مارست الإرهاب أولًا منذ دخولها إفريقيا بشكل دموي واستعلاء عنصري.

خاتمة

إن تصاعد التنافس الدولي في إفريقيا يدفع الدول للصراع والتصادم خاصة مع تنامي دور الصين وروسيا، وهو ما قد يكون غير مرحب به من قبل فرنسا خصوصًا والاتحاد الأوروبي وأميركا عمومًا، وهو ما ينذر بارتفاع صادرات السلاح في السنوات القادمة.

كما أنه يرجح أن تكون الإحصائيات الدولية حول تجارة السلاح بين الدول المصنِّعة والدول الإفريقية غير دقيقة، ويرجح أنها أكبر مما هو معلن؛ إذ تعمل الدول الاستعمارية على صناعة بيئة صراع حتى تستثمره في تحقيق مصالحها وهيمنتها.

كما أن ارتفاع التكلفة المالية والسياسية للقواعد العسكرية دفعها لمراجعة سياساتها والانسحاب رسميًّا مقابل تطوير سياسات ناعمة تضمن مصالحها، لذلك برز استخدام مسار آخر بديل عن القواعد العسكرية وهو تعزيز دور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، واستخدام المرتزقة المحليين ومدهم بالسلاح، وهو ما يخفض التكلفة المالية والسياسية.

وربما تكون فرنسا مثالًا مناسبًا إذ كانت تملك نحو 100 قاعدة عسكرية في إفريقيا عام 1960 أما الآن فقد تراجع عدد القواعد إلى خمس، لكن هذا الانسحاب لم يكن نهائيًّا بل تغيرًا في الأسلوب فقط بحيث تبنَّت فرنسا نهجًا جديدًا من أجل الهيمنة على القرار السياسي لمستعمراتها الإفريقية السابقة.

حرصت فرنسا فيه على تغيير ثقافة المجتمعات وإحلال أفكار الغرب وقيمه محلها، وهي القيم التي تتضاد مع الثقافة المحلية وتدفع لانقسام الشعوب وعودة التدخلات الخارجية بغطاء جديد وبوكالة الشركات الأمنية والعسكرية.

***

شادي إبراهيم ـ باحث بمركز سيجا بجامعة صباح الدين زعيم.

___________

مواد ذات علاقة