الجزء الثاني
العدالة الانتقالية
إن أبرز معوقات التحول الديمقراطي في ليبيا حاليًّا -ومن أهم عناصره تحقيق عدالة تشريعية/مؤسساتية انتقالية- تكمن في تحديد المفاهيم (أي التنازع المفاهيمي – conceptual conflict). على الرغم من توافر مرجعيات موثوقة تحدد هذا المصطلح، وبشكل جلي إلى حدٍّ كبير، إلا أن الحالة الليبية، كما حصل في حالات أخرى مشابهة، تستوجب تفسيرات ومبررات متباينة. هذا دفعنا إلى استجلاء الخلط الحاصل في الاستخدام والتوظيف بين العدالة الانتقالية، والعدالة الانتقائية/الانتقامية.
حينما تمارَس العدالة بشكل انتقائي أو انتقامي يستوجب الأمر توافر بنية وظروف محددة. ورغم حقيقة تصنيف ليبيا “بالدولة البسيطة” وفق “نظرية الدولة” المتعارف عليها في أبجديات علم السياسة، إلا أن الصراع الدائر في ليبيا مردُّه أشخاص ونخب وفئات وتيارات وأيديولوجيات وقبائل ومناطق ومصالح وأجندات وتدخلات خارجية ونوايا مختلفة ومتقاطعة، سواء كانت مصادرها قديمة (ما قبل الاستقلال 1951) أو حديثة (حقبة النظام السابق 1969-2011) أم مستجدة (إفرازات ما بعد انتفاضة 2011). فكل طرف يسعي إلى تحقيق مأربه عبر الاستحواذ على السلطة واحتكارها، وبوسائل وتكتيكات، ومبررات متنوعة.
من وجهة نظرنا، إن تحديد مراكز القوى الفاعلة في ليبيا، مع إمكانية تطابقه مع دول أخرى، يكمن في أن الطرف الأقوى في “حلبة الصراع” هو من يمتلك خماسية السيطرة على مفاصل الدولة، أي تحديدًا: السلاح والمال والتوجه (مهما كان مبعثه ومآربه) والإعلام والدعم الخارجي. بالمقابل، ولا مجال هنا لوضع حسابات المصلحة الوطنية، إلا لأسباب تكتيكية تضليلية.
إن العدالة الانتقالية، وبمفهومها المجرد، تعني إحقاق الحق في المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية تسمى في نظريات تحليل وتسوية المنازعات بمرحلة ما بعد النزاع (post-conflict)، وتحديدًا عملية بناء السلام (peace building)، والتي تسعى من خلالها المؤسسات المؤقتة التي تسيِّر شؤون الدولة مجابهة التعامل مع إرث ضخم لأنظمة مستبدة يشمل انتهاكات لحقوق الإنسان؛ كالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وذلك في مسعى إلى رفع الحيف، ورد المظالم، وجبر الضرر، وتحقيق دولة المؤسسات والقانون. في هذا الصدد، تتبنى عملية العدالة الانتقالية عدة مقاربات متعارف عليها، لعل أبرزها: تقصي الحقائق ورفع الدعوى القضائية والتعويض وإصلاح مؤسسات الدولة، وخاصة الأمنية منها.
إن الحالة الليبية لا تحتاج إلى توضيح فيما يتعلق بضرورات تطبيق العدالة الانتقالية بعد عقود من الاستبداد المطلق والحرب المدمرة؛ ناهيك عن صراعات وسلوكيات وانتهاكات ما بعد انهيار النظام السابق، ولكن السؤال المطروح في المشهد الليبي هو الكيفية التي يجب التعامل بها لكي نصل إلى تحقيق عدالة انتقالية أمثل، وفي سياق زمني أسرع.
قبل محاولة توضيح هذا التساؤل المحوري المهم، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى التطبيقات على حالة الدراسة، ينبغي رصد وتحديد الإطار النظري لاختصاصات العدالة الانتقالية. فمن خلال المنطلقات الفكرية والتجارب العملية ذات الصلة، يمكن بلورة هذه الاختصاصات في أربعة جوانب، وهي:
- الجانب الزمني: أي المرتبط بالفترة الزمنية التي تقع في نطاقها عملية تحقيق العدالة. ففي حالة ليبيا، هناك مرحلتان تاريخيتان (قبل وبعد فبراير/شباط 2011) تدخلان في السجالات الدائرة حول تطبيقات العدالة الانتقالية.
- الجانب المكاني: أي بمعني مدى شمولية تطبيقات العدالة على الانتهاكات المرتكبة ضد المواطنين داخل النطاق الإقليمي الوطني وخارجه.
- الجانب الذاتي/الشخصي: المتعلق بماهية الأشخاص المرتكبين للانتهاكات. هذا يستدعي تحديد كونها مورست من قبلهم بحكم عملهم مع الحكومة، وفي إطار سلوك رسمي منظم، وليس بشكل فردي؛ كما تشمل هذه الشريحة المواطنين والأجانب، وكل من ساهم في ارتكابها أو التخطيط لها، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.
- الجانب الموضوعي: وهو المتعلق بتحديد نوعية ودوافع الانتهاكات المرتكبة، والتي تدخل في ضمن نطاق الأهداف والاختلافات السياسية/الأيديولوجية وقضايا حقوق الإنسان والشعوب، مثل القتل والتعذيب والخطف والإخفاء القسري ومصادرة الممتلكات والحريات وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية.
ما سبق يقودنا إلى مجابهة الحقيقة الأهم، ألا وهي أن مثل هذه الاختصاصات تتطلب اشتراطات مسبقة لتحقيق المبتغى (العدالة). إن أبرز هذه الاشتراطات يكمن في وجوب توافر مرجعية قانونية، أي قانون للعدالة الانتقالية، وهذا لا يتأتى إلا بوجود مشرِّع أو سلطة تتمتع بالشرعية والمشروعية، ولها صفة تشريعية. كما يجب أن تكون آليات التطبيق واضحة وقادرة وفعالة، مع وجوب توافر ضمانات لفرض ما يصدر عنها من أحكام وقرارات.
عند استحضار الحالة الليبية (عقب 2011)، ومدى مواءمتها للتأطير النظري للعدالة الانتقالية(4)، نستنتج أن موضوع صياغة تشريع يشمل العدالة كان من ضمن اهتمامات “المجلس الوطني الانتقالي المؤقت”، وهو سلطة تشريعية انتقالية تشكلت إبان الصراع للإطاحة بالنظام السابق. ففي 26 فبراير/شباط 2012، أصدر “المجلس الانتقالي” القانون رقم (17) لسنة 2012 “بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية”.
لقد عرَّف القانون في مادته الأولى، والتي خصها بالتعريفات، أن القصد من مصطلح العدالة الانتقالية هو: “مجموعة من الإجراءات التشريعية والقضائية والإدارية والاجتماعية التي تعالج ما حدث خلال فترة النظام السابق في ليبيا وما قامت به الدولة من انتهاكات لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والعمل على إصلاح ذات البين بالطرق الودية بين بعض فئات المجتمع”. كما حددت نفس المادة مصطلح “الوقائع” (أي الجانب الموضوعي) بأنه يشمل “كل فعل يشكل جرمًا أو انتهاكًا لحقوق الإنسان”.
أما المادة (2) من القانون، فقد نصت على تحديد النطاق الزمني لتطبيق هذا القانون، وأن أحكامه تسري “…على الوقائع التي حدثت منذ تاريخ 1 سبتمبر/أيلول 1969، إلى حين تحقق الأهداف المرجوة من هذا القانون ولا تسري على الأشخاص الذين أتموا الصلح في ظل النظام السابق كما لا تسري على المنازعات التي صدرت بشأنها أحكام قضائية تم تنفيذها”.
وأشار القانون، في المادة (3) منه، إلى أن أهدافه تتمثل في:
1- ترسيخ السلم الاجتماعي.
2- ردع انتهاكات حقوق الإنسان.
3- بث الطمأنينة في نفوس الناس وإقناعهم بأن العدالة قائمة وفعالة.
4- تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة عن انتهاكات حقوق الإنسان.
5- توثيق الوقائع موضع العدالة الانتقالية وحفظها ثم تسليمها للجهات الوطنية
المختصة.
6- تعويض الضحايا والمتضررين.
7- تحقيق مصالحات اجتماعية.
…
يتبع في الجزء التالي
***