د. أحمد علي الأطرش
تبين هذه الورقة كيف أنه لا ينحصر السبب في عدم القدرة على بسط السيطرة، بل يكمن في توجس وعدم رغبة بعض الأطراف في إقرار وتفعيل قانون عدالة انتقالية شامل وغير انتقائي موضحة الأسباب ومناقشة تأثيرها.

الجزء الرابع

المصالحة الوطنية

عند التمعن في القوانين الصادرة بخصوص موضوع الدراسة، والتي خصصنا لها حيزًا للخوض في بعض التفاصيل ذات الصلة، نستنج أن الجانب الرسمي، والمتمثل في الأجهزة التشريعية بعد 2011، سواء منها المختارة (المجلس الانتقالي) أو المنتخبة (المؤتمر الوطني) والذي حل محله “مجلس النواب” في فترة لاحقة، تبنى مقاربة التعاطي مع المصالحة الوطنية بالتلازم مع تحقيق العدالة الانتقالية، إلا أن صيغ تناول كلا العنصرين شابها شيء من التعارض والغموض والانتقائية؛ مما أسهم إلى حد كبير في عدم التوصل إلى نجاحات عملية، وذلك بسبب اختلاف الرؤى والتوجهات والمصالح والمطامع.

بالإضافة إلى الملاحظات والمآخذ التي تعرضنا لها سلفًا، فيما يخص تطبيقات أحكام نصوص العدالة الانتقالية من زوايا المدى الزمني ومن يشملهم في ذلك (الجانب الذاتي/الشخصي)، ترى الدراسة أن من أبرز الإخفاقات والانتكاسات التي تعرضت لها مساعي القدر المأمول من المصالحات والعدالة، وتحقيق قدر من الاستقرار، وتجنب حدة التصعيد الذي وصل إلى درجة الصراعات المسلحة، تكمن في القانون الصادر من قبل “المؤتمر الوطني العام”؛ تحت اسم “قانون رقم (13) لسنة 2013 في شأن العزل السياسي والإداري”.

إن هذا القانون، الذي نعته الكثير بالكيدي/الغرضي، من حيث النوايا والمقاصد والأهداف، شمل شرائح كبيرة من الليبيين؛ مما تسبب في خلق استعداءات مجانية مضافة، وفسح المجال لسجال كبير على النطاق الشعبي، لأنه شمل الوظائف والمناصب، وليس السلوكيات. كما أنه جاء تحت ضغوطات وإكراهات وتهديدات، وذلك نتيجة صراعات على السلطة بين أحزاب وكتل وتيارات سياسية يسعى كل منها لتخوين وإقصاء الآخر من مشهد السلطة وتولي المناصب القيادية العامة، دون مراعاة للمصالح العليا للدولة (العراق أنموذجًا).

ومن القضايا الخلافية أن القانون، خلافًا للقانون رقم (17) الملغى بحكم القانون رقم (29)، لم يشمل، وبشكل جلي وقاطع، كل من تصالح مع منظومة الحكم السابقة، والذي يشمل معارضين وسجناء سياسيين، إلا أنه أكد على تطبيق أحكامه على كل الممارسات غير القانونية منذ 1 سبتمبر/أيلول 1969 وحتى 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011؛ أي بمعنى عدم سقوطه بالتقادم، مع عدم ترك مجال لسريانه على الانتهاكات التي وقعت عقب “التحرير”.

عقب الانتخابات النيابية التي نجم عنها استحداث وتشكيل “مجلس النواب الليبي” ليحل محل “المؤتمر الوطني العام”، في 25 يونيو/حزيران 2014، واستدراكًا للخلل الذي شاب “قانون العزل السياسي والإداري”، وفي مسعى لكسب ود ورضا شريحة عريضة (إثر الانقسام السياسي/المؤسساتي)، من قبل من شملهم العزل وتضرروا من تطبيقاته، أصدر مجلس النواب القانون رقم 2 لسنة 2015 ، والذي ألغى بموجبه “قانون العزل” الصادر عن “المؤتمر الوطني” في مرحلة سابقة، معلِّلًا ذلك بأن إقراره كان تحت ضغوطات وليس وفق قناعات، وأنه يشكل حجر عثرة في مسار المصالحة، وبناء الدولة.

ليس هذا وحسب، فلنفس الدواعي والمقاصد المبطنة، أصدر نفس المجلس “القانون رقم (6) لسنة 2015 في شأن العفو العام”.

وعلى النقيض من الوهن والعوائق التي تعرض لها الجانب الرسمي في مجال المصالحات، تمكن الجانب غير الرسمي/الأهلي، وعلى مستويات مجتمعية ومناطقية متنوعة، من تحقيق قدر من الإنجازات المهمة في هذا الصدد، مما أسهم في تهدئة(17) عديد التوترات التي كادت أن تنزلق نحو التصعيد، وتأجيج الصراعات.

هذا القصور من قبل أداء الجانب الرسمي يتطلب العمل على تبني مقاربة “دبلوماسية المسارات المتعددة” (multi-track diplomacy) في نظرية تسوية المنازعات بالطرق الدبلوماسية، والمطالبة بحوار وطني مجتمعي غير إقصائي تطرح من خلاله كافة القضايا الخلافية الجوهرية.

على الرغم من الاستعصاءات الجمة التي تعتري تحقيق توافق بشأن الحوار -سواء فيما يخص الملفات المطروحة أو الأطراف الداعمة والراعية والمشاركة أو الظروف المصاحبة- إلا أن المصالحة الوطنية لا تزال تشكل الركيزة الأهم في تفعيل الحوار، وذلك بسبب تركيبة النسيج الاجتماعي الليبي؛ وتأثير الموروث الديني/المجتمعي/التاريخي/لثقافي على مفاضلة فض الخلافات سلميًّا. هذا يستوجب التعريج على مفاصل المصالحة الوطنية في السياق الليبي.

في إحدى إسهاماتنا العلمية المنشورة في كتاب حول تسوية المنازعات، أوضحنا أن وسائل التسوية السلمية للمنازعات تستند إلى مصدرين أساسيين: أحدهما دبلوماسي والآخر قانوني. كما اقترحنا التعويل أكثر على الوسائل الدبلوماسية لعدة اعتبارات، لعل أهمها:

  • تأصل وتجذر تسخير الوسائل الدبلوماسية في موروثنا الثقافي والاجتماعي.
  • الروتينية وما ينجم عنها من ضياع للوقت وهدر للجهود والأموال عند توظيف الآليات القانونية.
  • اعتماد الأسلوب الدبلوماسي على الحلول التوافقية أي معادلة الربحية win-win outcome، بمعنى أنه بإمكان كل الأطراف المتنازعة الحصول على حد أدنى من المكاسب. أما القانوني فيبقى خاضعًا لإمكانية الربح أو الخسارة (win-loose outcome)، أي قد يربح طرف ويخسر آخر.
  • تنامي ظاهرة الميل للأسلوب الدبلوماسي على الصعيد العالمي.

بالإضافة إلى ما سبق ذكره، يمكن القول: إن هناك أسبابًا جوهرية عديدة تجعلنا ننحاز للمسار الدبلوماسي في التسوية. فحين نرصد التفاعلات والتعاملات الحياتية اليومية في مجتمعاتنا قد لا نكون مغالين في الإفصاح عن أن تقاليد اللجوء إلى للوساطة والتفاوض في منطقتنا تحديدًا قديمة قدم النزاعات نفسها.

وتأسيسًا على إرثنا الثقافي المستمد في مجمله من ديننا الإسلامي الحنيف، ونتيجة للتركيبة المتميزة لنسيجنا المجتمعي، فإن الوساطة -وخصوصًا في نسقها الشعبي أو غير الرسمي- لا تزال ضمن القيم الاجتماعية الراسخة التي تحتل مقامًا رفيعًا في أوساطنا الاجتماعية. في هذا الإطار، حيث يجري احتواء النزاع دون اللجوء للوسائل القضائية، فإن أطراف النزاع، ومن ضمنهم الوسيط، أو ما اصطلح على نعته بالطرف الثالث (third party)، يسجَّل في رصيدهم الثناء والتقدير، وذلك من قبل الجماعات التي يقطنون معها أو ينتمون لها.

وفقًا للأعراف والتقاليد السائدة والمتأصلة في هذا الجزء من العالم، فإن عملية اللجوء للمحاكم (أو أية جهة قضائية أخرى) عادةً ما تُفسَّر على أنها سلوك غير سوي، أو مُخزٍ. في هذا السياق، أزعم أن الوسائل القانونية قد تضع حدًّا للخلافات ولكنها في الغالب لا تضع حلًّا نهائيًّا لها. لذا، فإن احتمالية استئناف العداوة، واتساع نطاقها وحدتها بين الأطراف ذوي العلاقة، تبقى قائمة.

فالوسيط في منطقتنا عادةً ما يكون شخصًا قادرًا وذا مكانة متميزة (كشيخ قبيلة أو عشيرة)، أو متعلمًا (والأفضلية للمتخصص في الشؤون الدينية)، أو من يتمتع بسمعة مرموقة في وسطه الاجتماعي (أي من الحكماء والوجهاء والأعيان). أما في عصرنا الراهن، فقد أفرزت الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة شرائح جديدة بدأت تتبوأ مكانةً بارزةً داخل دائرة تسوية الخلافات. من هؤلاء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، المتنفذون أو الأشخاص الفاعلون في المجتمع، كذوي التأثير والنفوذ المادي (الأثرياء) والسياسي (النخب السياسية الحاكمة وصناع القرار.

تأسيسًا على هذه المقاربة النظرية، ومدى مواءمتها مع واقع الحالة الليبية -إثر تأزم الأوضاع بعد 2011- وذلك من حيث المبادرات والجهود التي بذلت من أطراف ومكونات وفاعلين وطنيين مجتمعيين غير رسميين (زعامات قبلية ومناطقية/ شخصيات عامة/ مؤسسات مجتمع مدني/ منظمات غير حكومية) يمكن التأكيد على حقيقة أن نجاحات نسبية قد تحققت؛ مما أسهم إلى حد كبير من محاولة رأب الصدع والحد من تنامي حدة الصراعات. ولكن التجاذبات السياسية والأيديولوجية الناجمة عن غلبة المصالح الفئوية الضيقة، والتدخل الأجنبي بكافة ألوانه، مع انتشار السلاح وتغول التشكيلات المسلحة المارقة، وغيرها من العوامل، قد أربكت المسار غير الرسمي في تحقيق المأمول من درجات المصالحة والسلم والاستقرار وبناء الدولة.

ملاحظات ختامية

من خلال ما سبق طرحه من أفكار ورؤى في ثنايا هذه الدراسة، يمكن القول بأن واقع الحال في ليبيا في هذا الشأن لا يزال تعتريه جملة من المعوقات التي يمكن إيجازها كما يلي:

  • يرى البعض ممن تضرر من مرحلة “النظام السابق”، بأنه لا مجال لتطبيق عدالة انتقالية دون تطهير الأجهزة القضائية والعدلية والأمنية من كافة العناصر الموالية والمحسوبة على هذا “النظام”؛ وخاصة ممن ارتكبوا أفعالًا وجرائم مشينة، أو أصدروا قرارات وأحكامًا جائرة ضد كل من عارض معمر القذافي، أو حمل السلاح ضده. كما يرى بعضهم أن المصالحة لا يمكن أن تشمل الجرائم الأخلاقية كالاغتصاب والتحرش الجنسي (أي جرائم العِرض)، أما الجرائم الأخرى، والمتعلقة بالدم، وغيرها من الممارسات الإجرامية (خطف/تعذيب/مصادرة أموال وممتلكات…إلخ)، فهي عرضة للتفاوض وفق قاعدة “الدية” والتعويض وجبر الضرر ورد المظالم، مع إبقاء الحق العام، والمطالبة به عند تفعيل آليات العدالة.
  • بالمقابل، نجد الطرف المؤيد لمنظومة الحكم السابقة (أثناءها وخلال حرب 2011)، بمن في ذلك جلُّ من تضرر من التشكيلات المسلحة غير الشرعية وسلوكيات المروق، فيما بعد فبراير/شباط، يطالب بتطبيق العدالة الانتقالية على كل المراحل، دون استثناء، وذلك لتشمل الانتهاكات التي مورست في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق؛ والقصد هنا حالات التهجير والنزوح والخطف والحرابة والإخفاء القسري والقتل والاستيلاء على الأموال والممتلكات والاعتقال خارج إطار سلطة الدولة، وغيرها من التصرفات غير القانونية.

خاتمة

من خلال ما ورد، ومن تتبع واقع الحال المستعصي الراهن في ليبيا، يمكن استنتاج أن السبب لا ينحصر في عدم القدرة على بسط السيطرة، بل يكمن في توجس وعدم رغبة بعض الأطراف في إقرار وتفعيل قانون عدالة انتقالية شامل وغير انتقائي، ولأسباب سعت الدراسة لتفحُّصها وإماطة اللثام عنها. والجدير بالذكر أن الدليل القاطع على حساسية هذا الملف هو بقاؤه من أبرز القضايا الخلافية في المفاوضات الوطنية الليبية، وخاصة فيما يتعلق بتشكيل الحكومة (مهما كانت مسمياتها) والمعايير ذات الصلة بتولي المناصب السيادية الحساسة مستقبلًا.

وخلاصة القول: إن على جميع الفرقاء إعادة النظر في مواقفهم المتصلبة حيال الموضوع، وذلك بالتوافق والعمل معًا من أجل تفعيل قانون للعدالة الانتقالية مع فسح المجال للمؤسسات غير الرسمية لبذل جهود متوازية لتحقيق المصالحة الوطنية وجبر الضرر ورد المظالم والعفو عند المقدرة، والشواهد على إيجابيات هذا المنحى لا تستدعي التعمق وبذل الجهد في التفكير. من هذا المنطلق، أرى أن على القوى المجتمعية الليبية الفاعلة والمؤثرة، ومن أهمها وجهاء وأعيان القبائل والمناطق والحكماء، والنخب الأكاديمية والثقافية، ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ومؤسسات المجتمع المدني (حديثة العهد نسبيًّا) -مع دعم حقيقي من قبل المنظمات الدولية والإقليمية المعنية- أن تكثف جهودها من أجل فض الخلافات والسلم الاجتماعي واستتباب الأمن في بناء دولة القانون والمؤسسات، التي كانت غائبة (أو بالأحرى مغيبة) عن ليبيا ردحًا طويلًا من الزمن.

***

______________

مواد ذات علاقة