بسام ناصر

كان لافتا بعد ثورات الربيع العربي تحالف بعض حركات الإسلام السياسي مع قوى وأجهزة الدولة العميقة، كتحالف جماعة الإخوان في مصر مع المجلس العسكري، كما تحالفت حركة “النهضة” في تونس مع قوى الدولة العميقة من النظام السابق، وهو ما اعتبر حينذاك تهديدا للثورات، والتفافا على مكتسباتها، واحتواء لمساراتها الرامية إلى تفكيك النموذج السلطوي الاستبدادي. 

تجربة تلك الحركات والأحزاب في التحالف مع قوى الدولة العميقة، أدخلها في دائرة تحمل مسؤولية إدارة البلاد، التي ترزح بالأساس تحت مشاكل مزمنة، وتعاني من أزمات متراكمة، ما جعلها عرضة للمحاسبة، ووضعها وجها لوجه أمام أسئلة الإصلاح والتغيير، مع أنها في حقيقة الأمر لا تملك صلاحيات حقيقية في الحكم والسلطة، لأن قوى الدولة العميقة ما زالت هي المتحكمة بمقاليد السلطة الحقيقية.  

ووفقا لمراقبين فإن تحالف تلك الحركات والأحزاب مع قوى الدولة العميقة أظهرها بمظهر الحريص على السلطة والطامع فيها بأي ثمن كان، كما أنها لن تجني من رهاناتها على تلك القوى إلا الفشل الذريع، وخيبة الأمل، وهو ما سينعكس سلبا على شعبيتها وحضورها الجماهيري الواسع، نتيجة سياستها تلك التي لم تحظَ بدراسة هادئة ومتأنية. 

ومن المعروف أن تلك الحركات درجت خلال مسيرتها السابقة على أن “تكون في دائرة الاحتجاج والمعارضة، لكنها بعد ثورات الربيع العربي التي مكنتها عبر الانتخابات، وباستثمارها لشعبيتها وصلت بأصوات الناس إلى الحكم في تونس ومصر.. وفي المغرب، إلا أنها عندما وجدت الحكم بيدها ارتبكت وفشلت في إدارته” وفق الكاتب التونسي نور الدين الغيلوفي. 

وأضاف: “وحتى تتخلص من صورها النمطية التي وضعتها لها أنظمة الحكم القديمة لإقصائها، وحتى تطبّع علاقتها مع الدولة التي ظلت مقطوعة عنها رأت أن تتحالف مع المنظومات القديمة، ما يُعبر عنه بالدولة العميقة، في مسعى غير مدروس إلى المصالحة مع أجهزة الدولة التي ظلت على ارتيابها منها، لكن المنظومات القديمة العارفة بمسارب التحكم في الدولة قطعت الطريق على الإسلاميين واستدرجتهم إلى فشل تقلصت معه شعبيتهم”. 

وتابع في حديثه لـ“عربي21”: “وفي وقت قياسي انتشرت نقمة الناس عليهم.. لقد نجحت المنظومات القديمة بأجهزة دعايتها الإعلامية في أن تحول نقمة الناس التي كانت عليها إلى نقمة على حركات الإسلام السياسي”. 

وتساءل الغيلوفي: هل فشلت حركة النهضة، في تونس مثلا في الحكم لأنها فشلت في تحالفاتها؟ ليجيب “يبدو أن النهضة، مثل الإخوان المسلمين في مصر، ومثل العدالة والتنمية في المغرب، قد خسروا رهانهم على الدولة العميقة التي كانت تملك خطة استدراجهم للإمعان في تشويههم، وإذا كان تشويههم قديما مقرونا بعزلهم فإن تشويههم الآن كان بإدماجهم في أنظمة حكم متحكمة في الدولة لا ترى لها وجودا ما دام هولاء (الدخلاء) أقوياء”.

وأردف: “لقد أدمجوهم ليفشلوهم ويُنهوا وجودهم بأكثر من طريقة، وكانت النتيجة فشل الإخوان في مصر، ولم ينفعهم انحناؤهم للمؤسسة العسكرية التي لم تتأخر في سحقهم، وفشل إسلاميو المغرب بآلية الصندوق بصورة لافتة، وتلاشى حضورهم في المشهد السياسي، وفشلت النهضة وقد أصبحت اليوم وجها لوجه مع منظومة تحالفت معها ولكنها ظلت على إنكارها لها حتى عزلتها بالانقلاب عليها”. 

وردا على سؤال إن كان بوسع حركات الإسلام السياسي تجنب المصائر التي صارت إليها، باعتصامها بالثورات حتى تخلص الشعوب من مخالب الدولة العميقة لتقيم دولة الحرية والعدالة، قال الغيلوفي: “أظن الإجابة عن ذلك تحتاج إلى غير قليل من التفكير والتحليل”.

من جهته استعرض الكاتب والباحث المصري، محمد إلهامي تجارب الحركات الإسلامية في تحالفها مع قوى الدولة العميقة، وأنها كانت جميعها تصب في مصلحة الأنظمة، ذاكرا أن “المكاسب التي حصَّلتها الحركات الإسلامية السياسية في المغرب لم تكن إلا ضمن صفقة عملية واقعية، في لحظة تهديد لنظام الحكم، فجرى استدعاؤهم لإنقاذ نظام الحكم وتسهيل مهمته في استعادة تمكنه”.

وواصل حديثه لـ“عربي21” بالقول: “حركة (حمس) في الجزائر لم تنتفع بشيء إلا حين وقفت مع الانقلاب العسكري في الجزائر، فأُنعم عليها بوجود شكلي في الحكومة، لم تستطع معه عبر ثلاثين سنة أن تنجز أي تغيير فعلي في سياسة الجزائر”. 

وأردف: “أما راشد الغنوشي فرغم كل تنظيراته الفكرية القلقة، ظل طريدا في أوروبا لا يأبه له أحد، ولم يتغير وضعه إلا من خلال ثورة تونس التي لم يكن هو باعثها ولا من الداعين إليها، وإنما جاءته على طبق من فضة، فأعادها مرة أخرى سالمة، وغنيمة باردة للنظام القديم، واستمرت وتيرة تنازلاته (المهينة) ولا تزال” على حد قوله. 

وأشار إلهامي إلى تجربة “حزب العدالة والتنمية في المغرب، الذي لم يؤبه له أيضا إلا حين جاءت موجة الربيع العربي، فجاء بهم الملك المغربي ليمتص بهم موجات الثورة، وقد عملوا كمصد ممتاز، فوقفوا بين الناس وبين الملك، رغم أنه لم ينلهم شيء من النفوذ الحقيقي، ولم يستطيعوا بعد عشر سنوات أن يفعلوا شيئا ذا بال، بل حينما قرر ملك المغرب التطبيع مع إسرائيل، لم يستطع الحزب إلا أن يسكت سكوت التأييد.. بل ظهر في صفوفه من يرى أن هذا نوع من الحكمة وتقدير المصالح والمفاسد”. 

وخلص إلى القول: “كان يمكن تفهم كل هذه التنازلات لو أنهم حصدوا في مقابلها تمكينا حقيقيا، ونفوذا حقيقيا، وسلطة قرار فعلية، فكان يمكن أن نتأول لهم أحكام الاضطرار، ونلتمس لهم الأعذار، ولكن لم يستفد من هذه الأوضاع إلا الأنظمة الحاكمة الاستبدادية، ولم تخسر إلا الحركة الإسلامية، وهو ما يؤيد بشدة النظرية الاستشراقية القائلة بأن إدماج الإسلاميين في لعبة الحكم، لن يؤسلم الحكم، بل سيعلمن الإسلاميين، وواقع التجربة المغاربية يمثل نموذجا ممتازا لنجاح هذه النظرية”.

وعادة ما تُدافع تلك الحركات عن سياستها في التحالف مع قوى الدولة العميقة، وقبولها بمبدأ المشاركة في الحكم تحت مظلة الدساتير والقوانين النافذة، بأنها حركات إصلاحية لا تؤمن بطريق الانقلابات الجذرية لتغيير الأوضاع القائمة، وأنها تؤمن بالإصلاح التدريجي من الداخل، وتعزز لديها هذا التوجه بعد ثورات الربيع العربي التي فتحت لها الأبواب للوصول إلى كراسي الحكم والسلطة. 

بدوره قال الباحث في السياسة الشرعية، الدكتور حسن سلمان: “بين نشأة الحركات الإسلامية وبداياتها، التي كانت تحمل مشروعا تغييريا وإصلاحيا شموليا، وما آلت إليه في وضعها الراهن، انتهى بها الحال إلى الخضوع لمنطق الإكراهات السياسية، وعندما اندلعت الثورات العربية دخلت الحركات الإسلامية بعقلية ما قبل الثورة، وهي عقلية إصلاحية محدودة”. 

وأردف في حواره مع “عربي21”: “كما كانت سقوف مطالبها منخفضة، وراضية بالتفاهمات الخارجية المانعة للتحرر من الاحتلال والاستبداد المتساند، وبالتالي فإن منهجية هذه الحركات الإسلامية الراهنة لا يمكنها تحقيق التحرير والنهضة والوحدة، لأنها رهينة لرؤية المحتل الخارجي والمستبد الداخلي”. 

وحول عدم تقبل تلك الحركات لنصائح علماء وسياسيين بعدم الانسياق وراء تلك التحالفات، مع ضرورة المحافظة على المسار الثوري، لفت سلمان إلى أن “تلك الحركات لا يمكنها تقبل أي فكرة خارج الصندوق السابق فهي أسيرة تفاهمات، ورهينة تحالفات داخلية وخارجية يصعب معها التحول لقوى ثورية تقتلع المنظومة السياسية كلها”. 

وشدد في ختام حديثه على أن تلك الحركات لم تجنِ من سياسة تحالفها مع قوى الدولة العميقة إلا الفشل والخراب، وخيبة الأمل، وتمكين قوى الدولة العميقة من العودة إلى صدارة المشهد السياسي من جديد، وفقدان تلك الحركات لمصداقيتها وطهوريتها السياسية، بعد أن حققت لقوى الدولة العميقة في بعض الدول ما لم يكن في الحسبان، مثل حالة التطبيع والفرنسة في التعليم وغير ذلك”. 

________________

مواد ذات علاقة