محمد النعاس

أول رقصة ليبية تعلمتها كنتُ فيها داخل حلقة في نوبة زُكرة، وعلى غير الرقصات التي تتضح فيها الأبعاد الرجولية كالكاسكا والكشك والرقص في حلقات الحضرة الدينية، إذ تعتمد الرقصات على القوة العضلية والبدنية وتمارس فيها طقوس، يصل بعضها إلى العنف والدم أحياناً.

كان الرقص داخل الزُكرة مختلفاً. هي رقصة حُرة أكثر، من ناحية ابتداع الحركات ومن ناحية شكل تلك الحركات.

حتى اليوم، وعندما أستمع لنوبات الزُكرة، وهي آلة هوائية تشبه القربة أخذت نوبة الزُكرة منها اسمها، أجد جسدي دون إرادة يتحرك، أمر يشاركني فيه الكثير من الشباب، رقصة الزُكرة بها تناص مع الرقصات الأنثوية للعين غير المتدربة، أو ربما في حالتي هذه للعين الخارجة عن العقل الثقافي الليبي، تخترق الحركات العقل الجمعي للراقصين في الحلقة، دون أن ينظر أحدهم للأمر على أنّه ممارسة للروح الأنثوية في جسد الرجل. أمر يخالف الكثير من المعتقدات والتقاليد داخل المجتمع الليبي.

أخبرني صديق ذات مرة أنّه لا يحبذ الزُكرة، عندما سألته لماذا، قال لي: “أراها رقصة لا تليق بالرجال”. “لماذا؟” سألته، “حسناً، مرة جعلتُ أصدقاء لي من سويسرا يشاهدون فيديو لزُكرة ليبية وقالت لي إحداهن هل هؤلاء الرجال مثليون؟”، قال لي. صعقتني إجابته، لم أكن أنظر لتلك الرقصة يوماً بهذا المنظور.

يمتزج الرقص مع الثقافة الليبية في مفردات اللهجة والرقصات المخصصة لكل نوعٍ من أنواع الموسيقى، موسيقى الريقي الليبية لها رقصاتها الخاصة، أكثر نشاطاً وتتطلب الكثير من التدريب لتعلمها كاملة، لا توجد رقصة “ريقي” في جمايكا حيثُ ترعرعت الموسيقى التي اشتهر بها البوب، لكنها موجودة في بلد تبعد عنها ما يقارب 10آلاف كيلومتر، وهي الموسيقى الغربية الوحيدة التي تمكنت من فعل ذلك في ليبيا؛ رقصة الريقي كغيرها من الرقصات الليبية، هي مجموعة من الخطوات على المرء تنفيذها وإلا فشل فيها، أنا من بين الفاشلين.

رقصة الماء

رقصات الرجال في العادة لها جذور مرتبطة بالعنف والإثارة الجنسية للشريك المحتمل كما يفعل طائر الطاووس للتباهي، رقصة الكاسكا أو رقصة الماء، هي رقصة قديمة لشعوب الليبو (الرجال الأحرار) كانوا يؤدونها احتفاءً بالماء الذي شكل محوراً مهماً في حياة البشرية عامة، وهي مؤرخة في الفن المصري الذي يظهر مجموعة من الليبيين يرقصونها قبل الحرب.

تتمحور الرقصة حول مجموعتين من الرجال يدخلون في أدوار تمثيلية لقبيلتيْن متناحرتيْن تتشاجران بالعصيْ، هي رقصة روحها الإيقاع والانسجام بين الأفراد الراقصين، وهي رقصة المقصد منها تهييج الغرائز الذكورية.

“جعلت أصدقاء لي من سويسرا يشاهدون فيديو لزُكرة ليبية، قالت لي إحداهن “هل هؤلاء الرجال مثليون؟”، عن رقصة عوض بها الليبيون غياب الأنثى في رقصاتهم

في السادسة من العمر، شاهدتُ إحدى أكثر الرقصات عنفاً في حياتي، كنت في حفلِ عشاءٍ احتفاءً بمئوية جدّي الذي قرر أن يعزم كل من تربطه به صلة قرابة لأكل البازين ومن ثمّ مشاهدة “الحضرة العروسية”، وهي واحدة من أشكال الفن الصوفي في البلاد، إلا أنّ ما تتميز به الحضرة العروسية هي ارتباطها “بالجديب” أكثر من غيرها من حضرات الطوائف الصوفية.

في الليل وبعد أن تعشى الرجال تحت ضوء القمر، وبدأوا بتجهيز حلبة الرقص وتحمية البنادير، انطلقت مجموعة من الرجال القاعدين بالقرب من جدي بالنهوض لضرب البندير (الدُف)، كنا كأطفال ممنوعين من السلطة الأبوية والخوف من حضور الحضرة؛ إذ أنّ “الصلّاح” قد يخطئون أجساد الراقصين وينزلوا في أجسادنا، حتى اليوم هناك تفسيران لهوية هؤلاء الصلّاح، البعض يقول أنّها أرواح المرابطين (أجداد بعض العائلات الليبية) والبعض الآخر يقول أنّهم الجن. كنا نخاف من لفظ هذه الكلمة بالتحديد.

تبدأ الحضرة كأغلب أنواع الموسيقى الليبية بالصلاة على النبي، ومن ثم تدخل في نوبات من المديح وذكر الله ببطءِ، يحرك الرجال رؤوسهم ببطء يمنةَ وشمالاً، متحلقين حول رجل يحملُ البخور ويدور بينهم، تتسارع مع تسارع ضربات البندير حتى لا يتبقى من كلمات سوى كلمتيْن تتكرران بسرعة: “الله حيْ… الله حيْ…الله حيْ”. عندها يتحول الرقص لحالة الجذب (الجديب).

“ناض عليه العون”، يصيح أحد الشباب المتحلقين بعد أن تتسارع ضربات البندير إلى أن سقط أحد الراقصين مغشياً عليه، ينهض كأنّه دمية مربوطة بخيوط شفافة يتحكم بها لاعب من فوق، ما رأيته بعد ذلك؛ لا زلتُ حتى هذه اللحظة لا أعرف كيف أتعامل معه، أخذ أحد “الملبوسين بأرواح الصلّاح” سكيناً وأدخله في فمه، آخر كان ينفخ ناراً من فمه بجنون بينما نوبات الحضرة لا تتوقف.

الرقص الديني

الرقص الديني في ليبيا قديم، في صبراتة الليبية يوجد معبد للإله المصري الإغريقي “بِس” وهو إله نصفه قزم ونصفه أسد، تقول الأساطير الدينية أنّ بِس كان يحب الرقص والموسيقى وقد يدخل على حفلات العشاء ويرقص بين الحاضرين ليرفه عنهم ويلاعبهم، كما أنّ موروث الرقصات الشعبية الليبية والذي أرخت له “فرقة الفنون الشعبية” في ليبيا، به مجموعة من الرقصات ذات المدلول الديني كالتحضير للتزاوج، أو الحرب أو الاحتفاء بالماء أو الاحتفاء بالربيع والإبحار والحصاد.

شكل الرقص داخل حلقات الزُكرة يعد جديداً، خصوصاً أنّ حركاتها من هز الخصر والتنافس بين الرجال في “الهز” يعد غريباً على مجتمع يرى في ذلك عيباً، وهذا أمر يتضح من ممارسات كبار السن الذين غالباً ما ينؤون بأنفسهم عن الرقص لأنّ ذلك يعيب مظهرهم الوقور، وإن فعلوا فإنّهم يرقصون بهدوء، ويظل ذلك حدثاً يحكي به الشباب ويؤرخون لحفلة العرس به؛ فغالباً ما يرقص الشباب بعيدا عن الأعين المراقبة لكبار السن حتى لا يهينوهم.

تبدو رقصة الزُكرة كتعويض لانعدام وجود الأنثى في حلقات الرقص الرجالية، يتضح هذا أيضاً في فيديوهات الرقص لفرق الزُكرة الذين يلتزمون برقص مختلف عما يفعله الشباب، رقصة الزُكرة هي رقصة غالباً ما تنتشر في مناطق الغرب الليبي فقط.

الشرق أكثر انفتاحاً

في الشرق الليبي يبو الوضع أكثر انفتاحاً عنه في الغرب، تنتشر في الأفراح والحفلات الرجالية ثقافة “الحجّالة” وهي راقصة ترتدي الملابس الليبية التقليدية للمرأة، وغالباً ما تحجب وجهها عن الحضور الرجالي، وترقص بينهم لتثير فيهم غرائزهم الجنسية.

في زمنٍ سابق كانت الحجّالة شخصية معروفة في القبائل لا تحجب وجهها عن الحضور الرجالي، بل كان رجال العائلة هم من يدفعونها لتكون راقصة في الأفراح. الحجالة دائماً ما تكون امرأة متزوجة ولا يليق بالعذارى رقصها، تبدو رقصة الحجالة في الشرق الليبي متقاربة جداً من ثقافة الراقصات الشرقيات في مصر.

ترقص “الحجالة” بين حلقة الرجال الذين يصفقون لها في حفلة كشك. في الشتاوة، وهي نوع آخر من الغناء يشبه الكشك، يرقص مجموعة من الرجال في حركات ذكورية بينما يتناوب أحدهم على الرقص في تماهٍ مع حركات “حجّالة”.

الآن، كلمة حجّالة لوحدها تعدُ إهانة للمرأة، وإذا ألصِقت بالرجل يصعب التخلص منها. بعد حملة قوات خليفة حفتر في نيسان/ أبريل 2019 ألصق نعمان بن عثمان، محلل سياسي شهير في ليبيا، كلمة “حجّالة” على الناطق الرسمي لقوات حفتر أحمد المسماري بوصفه له “الحجّالة ركن”.

لم تكن هذه المناسبة هي الوحيدة التي يستخدم فيها الرقص كإهانة سياسية للحط من قدر العدو ورجاله، في 2011 عندما أعلن العقيد الراحل معمر القذافي لليبيين بأن يقاوموا، أخبر الشباب في المدن التي يسيطر عليها “ارقصوا وغنّوا واستعدوا”، ففعل الشباب ذلك بالضبط، في باب العزيزية حيث بيته الصامد، تجمع الشباب والشابات للرقص والغناء، كان أنصار “ثورة فبراير” يسخرون ويستهزئون من أنصار العقيد بنعتهم بالراقصين.

عيب وإهانة

الرقص في العقل الجمعي الليبي يعد عيباً وإهانة للرجل؛ ولهذا يعد الرجل رجلاً حقيقياً حالما يتوقف عن الرقص كالمراهقين والشباب، تظهر في العادة فيديوهات لرجال قد فاقوا الخمسين من العمر يرقصون، تخرج ضدهم حملات شعبية على مواقع التواصل الاجتماعي ساخرة منهم، ومحذرة من الرجال الذين على شاكلتهم، خاصةً بهذه الدعوى أولئك الذين يرقصون خارج مناسبات الأعراس.

“رقصته”، كلمة ليبية تستخدم عندما يعمل رجل على خداع أحدهم سواء في موقف جدّي أو طريف، واحدة من أقوى الأفعال التي يمكن للرجل أن يفعلها لرجل آخر أن يرقّصه، هذا يعني أنّه تحكم به تحكما كاملاً في ذلك الموقف. ورغم مجازيتها، إلا أنّ هناك ما يدعم أخذها للمعنى الحقيقي للكلمة.

كانت الحجّالة شخصية معروفة في القبائل لا تحجب وجهها عن الحضور الرجالي، بل كان رجال العائلة هم من يدفعونها لتكون راقصة في الأفراح، ولا بد أن تكون متزوجة، ومع زيادة التشدد الديني تم استبدالها برجال

عند اعتزال خديجة الفونشة، الفنانة الشعبية المعروفة في بنغازي؛ كان الشارع في المدينة متعطشاً لصوت نسائي؛ وإن جاء ذلك الصوت من رجل، بزغ نجم الفنان الراحل “علي العريبي” كبديل لها.، كان ذلك في بداية الألفية الجديدة.

كان العريبي الفنان الشعبي الوحيد الذي تمكن من الدخول في حفلات النساء ليغني لهن من خلال غرفة تعزله وفرقته عنهن احتراماً للأعراف والتقاليد، بينما يظهر وفرقته للنساء عبر شاشة تلفاز يمكنهن متابعته منها.

كان الناس في المدينة يكنون احتراماً لفنه، ويتسابقون لحجزه لأفراحهم ويؤجلونها فقط ليحصلوا على شرف أن يغني لهم فيه، ولكنهم ضيّقوا عليه في حياته الشخصية ملصقين عليه لفظ “شكشاكة”، إحدى الكلمات التي يستخدمها الليبيون لوصف ووصم المثليين جنسياً أو الذين تظهر فيهم ملامح أنثوية، في ظل الحرب في بنغازي عام 2014، تجرأ العريبي على غناء أغنية سياسية في حفل شعبي قائلاً: “لا ضي ولا امية.. ولا شوخ الأنصار عليْ”، مفضلاً أن تنقطع عنه سبل الحياة على أن يحكمه أنصار الشريعة، بعد ذلك ألقت قوات أنصار الشريعة القبض عليه، وقاموا بالتحرش به وتصويره في فيديو يحلقون له شعره، ممارسة موروثة من أيام نظام القذافي للخدش بكرامة الرجال.

الحجالة الرجل

علي العريبي نفسه يظهر أحياناً في فيديوهات يرقص رقصات تعد نسائية بينما يغني، وإن كان العريبي يرقص في الحفلات الخاصة، إلا أنّه وبعد ازدياد انغلاق المجتمع الليبي وتشدده في السنوات العشر الماضية وصعوبة الوصول للحجالات، بدأ الرجال في حفلات الأعراس وبينما يحيون حفلاً للكشك يستعيضون بشاب كحجّالة بدلاً من امرأة.

تنتشر بين الفينة والأخرى لأولئك الشباب الذين غالباً ما تكون أعمارهم في بداية العشرينيات، مقاطع تظهرهم يرقصون في حركات إغوائية بين حلقة من الرجال الذي يصفقون ويهتفون لهم، يستنكر الناس في خانة التعليقات ما وصل له حال المجتمع الذي “قلّت فيه الرجولة”، على حد تعبيرهم، نفس استنكارهم إذا رأوا رقصات النساء.

تعد فيديوهات النساء الراقصات في الحفلات الليبية والتي تنتشر بين الفينة والأخرى في يوتيوب والمواقع الإباحية في ليبيا نوعاً من “الأفلام الجنسية”، تزخر محركات البحث بنتائج عن “فضائح” فتيات وشباب يرقصون، ورغم أنّ أولئك النساء اللائي انتشرت فيديوهاتهن في العادة لا يعرفن عن وجودها في الإنترنت، تنتشر الاتهامات بكونهن “عاهرات”.

أتذكر في منتصف الألفية وبعد أن أصبحت الهواتف النقالة في متناول العامة، كانت النساء تخاف الذهاب إلى حفلات الأعراس في صالات الأفراح، فقد تلتقط كاميرا مخفية رقصاتهن، وتنتشر عبر الأجهزة عن طريق البلوثوث.

ساقني القدر مرة أن أتحدث مع أحد أولئك الذين كانوا يرقصون في الحفلات الخاصة بمدينة طرابلس، أخبرني بأنّه “تاب” ولكن قبل أن يقول لي ذلك أطلعني على الحادثة التي أودت إلى “توبته”؛ في عطلة أحد الأسابيع اتصل به أحد زبائنه كالعادة، أخذوه من البيت، وذهب معهم إلى استراحة في الريف، بدأت الحفلة بأن أعد لهم العشاء ومن ثم بدأ الرقص لهم، وبينما كان المحتفلون المسلحون سكارى نهض أحدهم من سُكره وأوقفه عن الرقص وبدأ بضربه، أخذ منه كل ما يملك وألقى به في الشارع بعد أن هدده بأن يطلق عليه الرصاص.

هذا عادة ما يحدث للكثيرين من “الحجالات” الرجال، يعيشون بين رغبة الجمهور في الاستمتاع بنوع من الرقص النسائي وبين احتقارهم لهم ولما يمثلونه. ليرتبط الرقص مرة أخرى بالعنف والدم.

________________

مواد ذات علاقة