بعد 10 سنوات من وفاة القذافي، أصبحت الحالة الليبية تُنذر باضطرابات عالمية دائمة في المستقبل، حسب ما يخلُص إليه تقرير أعدَّه الكاتب جيسون باك. يبدأ الكاتب تقريره بالتذكير بالفرحة التي غمرت مواطنين ليبيين كُثر وبعض السياسيين الدوليين بعد سقوط معمر القذافي قبل 10 سنوات.
يقول الكاتب إن البعض يعتقدون على نحو خاطئ أنهم سيفرحون مرةً أخرى بعد أن تجلب الانتخابات التي تُجرى بوساطة الأمم المتحدة في 24 ديسمبر (كانون الأول) أول حكومة ليبية غير مؤقتة إلى السلطة بعد القذافي. غير أن هناك أسبابًا عديدة للتشكيك في هذا التفاؤل، ذلك أن التطورات في كل من النظام الدولي وفي ليبيا على مدى العقد الماضي تشير إلى أن القوى التي تشجع الفوضى والمنافسة القومية قد تفوق القوى التي تعزز النظام والتنسيق الدولي.

بين الأمس واليوم

وأشار الكاتب إلى أن أمور كثيرة تغيرت في الـ 10 سنوات الماضية، حتى أن حجم التغير فيها زاد عن التغير الذي حدث على مدى السنوات السبعين الماضية. وكان تأسيس الدولة الليبية المستقلة وذات السيادة في 24 ديسمبر 1951 تتويجًا لعملية نسَّق من خلالها القادة الأنجلو-أمريكيون حلًا وسطًا حصل تدريجيًّا على تأييد القوى المتنافسة.
حتى الاتحاد السوفيتي ومصر وفرنسا والأنظمة السياسية الإفريقية الناشئة وإيطاليا، وجميعهم كان لديه في البداية طموحات مختلفة تخص المقاطعات الليبية الثلاث آنذاك، تبنوا تأسيس ليبيا موحدة ذات سيادة، مما ساعد الدولة الفتية على الانطلاق إلى بداية جديدة. وقد كان كل هؤلاء الفاعلين يعتقدون أنهم سيجنون ثمار نجاح ليبيا
لكن اليوم، وحسب ما يضيف الكاتب، فإن الوضع يختلف اختلافا صارخًا. وحتى إذا نجحت ليبيا المعاصرة في إجراء انتخابات حرة ونزيهة في غضون شهرين، فمن المرجح أن تؤدي هذه الانتخابات إلى خلق مزيد من الارتباك وليس تخفيفه. ولا يزعم الداعمون للانتخابات أنها ستُنتج حكومة ليبية غير متنازع عليها وذات سيادة وشرعية دستوريًّا.

غياب التنسيق الدولي

وأوضح الكاتب أن وساطة الأمم المتحدة تفتقر أيضًا إلى سلطة معاقبة المفسدين، وعلى هذا النحو، فقد اختُطِفت العملية من لاعبين يتمتعون بالسلطة القائمة على الوضع الراهن مثل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح والعائلات الممتدة لرئيس الوزراء المؤقت عبد الحميد دبيبة والجنرال خليفة حفتر، وجميعهم لديهم علاقات واسعة مع شبكات سلطة النظام السابق.
وتابع الكاتب قائلًا: وللأسف لا يزال جميع اللاعبين الأساسيين على استعداد للاستفادة من ليبيا الناجحة القادرة على إنفاق مليارات الدولارات على تحديث خطوط الأنابيب، وتوظيف المهاجرين، ومراقبة حدودها، ودفع مستحقات الدائنين الدوليين، وتوفير مستوى معيشي أفضل لليبيين. غير أن إخفاقات التنسيق الدولي لا تزال تؤدي إلى نتائج أقل من مثالية سياسيًّا.
وقبل 10 سنوات، كانت الإطاحة بالقذافي مثالًا جيدًا على التنسيق والعمل الجماعي المربح للجميع، إذ عملت جهات فاعلة عدة معًا وقدموا تنازلات بشأن أهدافهم الخاصة في محاولة لتحقيق نتيجة مشتركة مفيدة للأطراف مجتمعة.
وقد ساد شعور مفعم بالأمل في مستقبل ليبي وعالمي أفضل في العام التالي، مع عودة انتعاش إنتاج النفط، وجدولة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإعادة تنفيذ بعض مشاريع البنية التحتية المتعثرة. ولكن مع تحول عام 2012 إلى عام 2013، تحت سطح التقدم الشكلي، بدأت قوى الفوضى في الظهور. ولم تُحرك الدول الغربية ساكنًا بينما انقسمت البلاد إلى سلطتين متنافستين.
وبدلًا من تكاتف كل تلك الدول التي كانت ستستفيد من النمو الاقتصادي الليبي الهائل المحتمل لحماية التزامهم الجماعي، تنازعوا حول من سيستفيد أكثر من الغنائم.

تعزيز الفوضى

ويرى الكاتب أن كثيرًا من هذه الديناميات يمكن إرجاعها إلى نهاية الهيمنة الأمريكية العالمية وصعود جهات شعبوية جديدة ترى في عالم مضطرب، ينتج عنه هجرة جماعية وحروب تجارية ومنافسة اقتصادية تجارية وإرهاب، خيار أفضل لفرصها الانتخابية، لافتًا إلى أن جهات فاعلة بارزة تختار تعزيز الفوضى بدلًا من تقديم تنازلات صغيرة من أجل الصالح العام.
وعلى الرغم من أن اللاعبين الغربيين الأساسيين عملوا معًا لفرض منطقة حظر الطيران التابعة لحلف الناتو فور انهيار نظام القذافي، فإنهم كانوا يسيرون في اتجاهات مختلفة، متشككين في دوافع بعضهم بعضًا ودوافع عملائهم وأفعالهم في ليبيا.
ونوَّه الكاتب إلى أن فراغ السلطة في حد ذاته يجذب الجهات الفاعلة الخارجية، ويتحقق هذا بصفة خاصة إذا كان البلد غنيًّا بالموارد وذا موقع جغرافي إستراتيجي، وكلاهما تتمتع به ليبيا. وسرعان ما سعى الأتراك والقطريون والإماراتيون والمصريون والروس إلى ترسيخ أقدامهم في ليبيا في مناطق كانت تسيطر عليها الدول الغربية في السابق
وبحسب الكاتب، لم يكن متصورًا إبان الحرب الباردة أن تدعم الدول الأوروبية الرئيسة في حلف الناتو مثل إيطاليا وفرنسا الجانبين المتحاربين في حال نشبت حرب أهلية. ولكن في العصر الحالي، هذا هو بالضبط ما حدث. وفي عالم اليوم، يبدي أعضاء حلف الناتو استعدادهم لتقويض أعمال حلفائهم، حتى دون التشاور معهم. وهذا يزيد من تآكل الثقة ويعزز مزيدًا من إخفاقات التنسيق. وما «اتفاقية أوكوس» بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، التي أغضبت فرنسا، منا ببعيد.
إن التوازن بين الثقة وانعدام الثقة، والنتائج المثلى وغير المثلى، توازن دقيق للغاية، فمع ميل المقاييس قليلًا يذهب التوازن السابق، ويُستعاض عنه بحلقة ردود فعل سلبية. ولذلك، وبمجرد تدهور الوضع، فمن المرجح للغاية أن تخرج الأمور عن السيطرة.
وأشار الكاتب إلى وضوح التأثيرات المتصاعدة المترتبة على فقدان الثقة بين الحلفاء الغربيين الأساسيين فور سقوط القذافي، مستشهدًا بموقف سيدني بلومنتال، مستشار كبير لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، في عام 2011، حينما اشتبه في أن البريطانيين والفرنسيين يعملون لمصلحتهم، داعيًا إلى عدم التنسيق معهما.

تداعيات الأحداث في ليبيا

ويلفت الكاتب إلى أنه على الرغم من أن الأحداث في ليبيا تبدو هامشية، فإنها أسهمت في انتخاب دونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016. وعلاوةً على ذلك، أدَّى فراغ السلطة في ليبيا إلى تصعيد الخلافات بين القوى المتنافسة في المنطقة، وهو ما أدَّى بدوره إلى مزيد من الفوضى في ليبيا والعالم.
ومن المفارقات أن كل هذه الجهات المتناحرة (والشعب الليبي) كانت ستستفيد من نتيجة توافقية في ليبيا، لكن طبيعة النظام العالمي الحالي جعل من بناء التحالفات الضرورية والتسويات أمرًا مستبعدًا.
وبعد مرور 10 سنوات على وفاة القذافي، تفتقر ليبيا إلى دستور، ودولة تحتكر القوة، ومؤسسات اقتصادية قادرة على تنظيم الاقتصاد بعقلانية. كما أنها غارقة في تعقيدات القوة المتنافسة: الميليشيات والقبائل والمتنافسون على السلطة والمؤسسات الاقتصادية شبه السيادية والمرتزقة الأجانب. ولحل هذه الفوضى في ليبيا، هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى للحوكمة العالمية، والتي تشهد أضعف حالاتها في الوقت الراهن.
ومع ذلك، وبحسب التقرير، تُظهر ليبيا أيضًا أن مؤسسات الحوكمة العالمية المكلَّفة بتنسيق استجابة المجتمع الدولي للأزمة، مثل الأمم المتحدة، تُخترق حاليًا بالكامل من تلك الدول التي ترغب في الفوضى (مثل روسيا والصين) بحيث تكون غير فعالة تمامًا.

عصر العلاقات الدولية الجديد

ويعتقد الكاتب أن النضال المستمر من أجل مستقبل ليبيا يوفر منظورًا مميزًا إلى حقبة جديدة تمامًا من العلاقات الدولية. والواقع أن دراسة نضال ليبيا المستمر من أجل خلافة ما بعد القذافي تثبت أن النظام العالمي الحالي لا يتبع قواعد اللعب التقليدية حين تتضاءل قوة الجهة المهيمنة، الأمر الذي يؤذن بحقبة من التنافس المتعدد الأقطاب على مناطق النفوذ.
بدلًا من ذلك، لا تسعى القوى الكبرى والإقليمية اليوم إلى فرض نظامها على ساحات الفوضى ذات الموقع الإستراتيجي. ولكن وعوضًا عن ذلك هناك حرية للجميع بين مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة التي لا تسعى بالضرورة إلى تعزيز النظام أو توسيع مجالات نفوذها القائمة على القواعد.
 وقد نظَّر كثيرون لهذا الوضع على أنه متعدد الأقطاب، ولكنه في الواقع غير قطبي، إذ لا ينوي أي من هذه الجهات بالضرورة تعزيز نظام عالمي شامل أو حتى نظام إقليمي متماسك داخل مجال نفوذهم. وهذا يتناقض تناقضًا صارخًا مع فترة الحرب الباردة.
واليوم، لا ترغب القوى الكبرى في استثمار رأس المال السياسي الكافي لتحقيق الاستقرار، في ليبيا أو على الصعيد العالمي، في الأمد القريب أو المتوسط. وتغيب الصين إلى حد كبير باعتبارها بديلًا للنظام في النقاط الجيوسياسية الساخنة. وفي هذا النظام العالمي الجديد، وبدلًا من استخدام قوتهم لتعزيز النظام، عمل الزعماء الشعبيون الجدد على تعزيز الفوضى عمدًا بحسب وصف الكاتب.
ويختم الكاتب بالقول إن ليبيا كانت المسرح الأول الذي ظهرت فيه السمات الرئيسة لعصر العلاقات الدولية الجديد هذا، ثم ظهرت سوريا وأوكرانيا في أعقابها، مشددًا على أن عصرًا جديدًا من الفوضى العالمية قد بدأ، وسوف يستمر على الأرجح.
_____________

مواد ذات علاقة