يعج المشهد الانتخابي الليبي بالكثير من التعقيدات، والتي قد تحول دون إقامة الانتخابات في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، وحتى في حال تمكن الليبيين من إقامتها وفوز أحد المرشحين وخاصة الجرنال خليفة حفتر، لا يوجد ضمانة أن باقي الفرقاء السياسيين سيقبلون بهذه النتيجة، هذا ما تُنبئنا به الخبرة الليبية على مدار السنوات الماضية، خاصةً في حالتي اتفاق الصخيرات وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وانتخابات السلطة التنفيذية الجديدة في فبراير (تشرين الثاني) 2021 وتشكيل المجلس الرئاسي الحالي.

فإذا خسر المشير خليفة حفتر الانتخابات لصالح أحد مرشحي الغرب الليبي، وتحديدًا رئيس الوزراء الحالي عبد الحميد الدبيبة ربما يقبل النتائج بشكل صوري، لكن وبعد عودته المضمونة لقيادة الجيش حسب الترتيب القائم مع نائبه الفريق الفريق عبد الرزاق الناظوري، ربما ينقلب على الرئيس الجديد، أو يتغوّل على سلطاته طمعًا في توسيع نفوذه. إذ يعلم الجنرال أنه لن يكون له مكان في النظام السياسي الليبي الجديد إن لم يكن على رأسه، وذلك لأن أي رئيس جديد سيسعى إلى تنحية نفوذ حفتر المتضخم من المشهد.

وينطبق الأمر ذاته على الغرب الليبي، الذي ليس من المتوقع أن تقبل القوات في الغرب فوز حفتر برئاسة ليبيا بسهولة، فهي تدرك أنه سيسعى إلى تفكيكها عسكريًا والقضاء على نفوذها السياسي، خاصةً أنه هذه المرة سيمتلك الشرعية السياسية والدولية، ولأن وصول الجنرال إلى كرسي الحكم عبر بوابة الانتخابات الرئاسية سيناريو قائم فإن ذلك يستدعي البحث حول مآلات هذه المشهد ومقومات السياسة المحتمل تبنيها من طرف الجنرال، إذا ما صار رئيسًا للجمهورية الليبية، وهو ما يفعله هذا التقرير.

وضع القوات المسلحة ومصير المشهد العسكري

لا شك أن الوضع الليبي يفرض على حفتر، أو رئيس آخر يصل إلى الحكم، أن يكون الملف الأمني هو الأولوية الأولى له، إذ أن الجنرال مازال – إلى هذه اللحظة – في حالة عداء مع ميليشيات الغرب الليبي، وحال وصوله إلى الحكم، سيكون أمام بلد غارق بالفعل في فوضى الميليشيات والسلاح.

وليس من المتوقع أن يصل حفتر إلى السلطة عن طريق أغلبية كاسحة، إذ إن مناطق نفوذه في الشرق والجنوب ذات وزن انتخابي محدود مقارنةً بالغرب، ناهيك عن تململ قواعده الشعبية في الشرق الذي شهد خلال عام 2020 مظاهرات واحتجاجات شعبية ضد سياسات الجنرال الأمنية والاقتصادية، وتحديدًا في محافظة الجفرة الإستراتيجية.

لذلك فإن تقوية أدواته العسكرية والأمنية ستكون شغل الجنرال الشاغل، عن طريق زيادة عدد جيشه، الذي سيصير حينئذ القوات المسلحة للبلاد، والمعترف بها رسميًا، مع محاولة استقطاب الدعم والتمويل والتسليح من الدول الحليفة له مثل مصر، والإمارات، وفرنسا، وروسيا.

ووفقًا لما جرى خلال السنوات الماضية فمن المتوقع أن يعمل الجنرال على تقوية روابط الولاء العائلي داخل الجيش، وتسليم المناصب العليا لأفرد عائلته، وليس ببعيد أن يتولى ابنه صدام قيادة الجيش، بعد فترة قصيرة من انتهاء الانتخابات، إذ يشغل صدام حاليًا منصب قائد كتيبة «طارق بن زياد»، أحد أهم كتائب الجيش وأكثرها تسليحًا، والتي عادةً ما يُسند إليها مهام العمليات الخاصة.

وفي إطار سعي حفتر لتفكيك قوات الغرب الليبي، وطرد القوات التابعة لتركيا، ربما يُكثف من اعتماده على واحدة من سياساته القديمة، وهي تصفية شخصيات حقوقية وعسكرية، وخاصة على المستوى القيادي، بالنظر إلى بساطة التركيب القيادي لبعض الميليشيات قد يدفعها إلى التفكك باغتيال قادتها.

أمّا الجانب الأهم، فيتعلق بالدور العسكري الروسي في ليبيا، والذي من المتوقع أن يكون أكبر، حال وصول الجنرال إلى السلطة، وربما يصل إلى حجم دورها في سوريا، ولكن بطرق أكثر مواربة، وستكون البداية بتدعيم وجود عناصر «فاجنر» العسكرية، عددًا وعتادًا، وهو أمر لا تعترف به روسيا على المستوى الرسمي.

وعن طريق «فاجنر»، ربما تقوم روسيا بتزويد حفتر بترسانة أكبر من الأسلحة الثقيلة، وهو أمر حدث بالفعل خلال السنوات الماضية، إذ شُوهدت أسلحة ثقيلة ضمن عتاد قوات حفتر (مثل طائرات سوخوي-24، وطائرات ميج-29)، والتي لا تستعملها «فاجنر» ولم تكن ضمن أسلحة جيش القذافي.

وتشير بعض التحليلات إلى أنه من الممكن أن تقنع موسكو حكومة حفتر المستقبلية بدعوة روسيا رسميًا لتتواجد عسكريًا في البلاد، وقد تتمكن روسيا من تأسيس قاعدة عسكرية لها في ليبيا بشكل رسمي، وهو أمر سيكون له أهمية إستراتيجية كبيرة لروسيا، في ضوء رغبتها في تعزيز موقعها الإستراتيجي في المنطقة.

أمّا السيناريو الأكثر تفاؤلًا، هو أن يسعى حفتر إلى دمج قوات الغرب الليبي في برامج مدنية وتنموية، وذلك عبر محاولة إعادة منح الثقة لقادة تلك القوات وإدخال بعضهم ضمن تكوين الحكومة الجديدة، والاستفادة من خبرة شخصيات أمنية ذات نفوذ في الغرب الليبي، مثل وزير الدفاع السابق محمد سيالة، ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، إلا أنه بالنظر إلى تاريخ حفتر السياسي، الذي يخلو من مثل هذه السياسات التوافقية فإن محاولات الدمج ستظل مستبعدة.

سياسات حفتر الاقتصادية.. الهيمنة على النفط أولًا

في حال وصول حفتر إلى الحكم، سيكون أمامه مهمة اقتصادية شاقة، فبعد سنوات من عسكرة الاقتصاد الليبي، وسيطرة الميليشيات العسكرية عليه، في محاولة لتضخيم مكاسبها وتعزيز وضعها الاقتصادي، سيكون على حفتر إنهاء الوضع الذي ساهم فيه بنفسه، كونه كان أحد الأطراف التي تسعى للسيطرة على موارد البلاد الاقتصادية (النفطية تحديدًا) عبر القوة المسلحة.

وسيكون على حفتر حفتر إنهاء حالة الحرب التي تعطل مسيرة الاقتصاد، والمسئولة عن تدهور الأحوال المعيشية في الشارع الليبي، في ظل نقص البنزين والكهرباء، وارتفاع معدلات التضخم، والبطالة، وغلاء الأسعار، واستمرار الفجوة في سعر صرف الدولار بين الأسعار الرسمية والسوق السوداء.

وكذلك سيعمل حفتر على إحكام سيطرته بالكامل على الموارد النفطية في البلاد، والتي تمثل 70% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع حاجته الملحة للاستفادة من الموارد النفطية في تمويل خططه الاقتصادية (وكذلك العسكرية)، سيكون عليه التعامل مع باقي الفرقاء العسكريين الذين يسيطرون جغرافيًا على جزء لا يُستهان به من هذه الموارد، سواء بالقوة العسكرية أو بالتفاوض والاحتواء، كذلك سيكون على الجنرال توحيد المصارف المركزية المتواجدة في الشرق وطرابلس، في مصرف مركزي موحد، يرمز لسيادة الجنرال على البلاد، ويضمن له تنفيذ سياساته النقدية.

أمّا على المستوى الخارجي، فقد يلجأ الجنرال إلى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، ولكن تكمن هنا أزمة علاقته مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن، التي ترفض سياساته وتتهمه محاكمها بجرائم حرب، وإمكانية فرض هذه المؤسسات عليه بعض الإصلاحات والسياسات على المستويين الاقتصادي والسياسي، والتي ربما لا يقبل بها الجنرال، سواء على مستوى تحجيم إنفاقه العسكري أو على مستوى خفض معدلات الفساد.

وفي ظل كل هذه الاحتمالات القائمة، يظل اليقين الوحيد مرتبط بمستقبل الدور الروسي في الاقتصاد الليبي حال وصول الجنرال إلى الحكم، إذ ستعمل روسيا على تعزيز تواجدها الاقتصادي في البلاد، مع تقديم الدعم المادي والسلعي لحكومة حفتر، ومحاولة السيطرة على موارد البلاد النفطية، وحصول الشركات الروسية على نسبة كبيرة من عقود إعادة الإعمار.

ويُذكر أن حفتر منذ عام 2015 وحتى عام 2020، كان يقوم بطباعة عملة ليبية جديدة، بدعم روسي بنحو 12 مليار دينار ليبي (8.5 مليارات دولار)، وأغرق السوق الليبي بنحو 90% منها، وكان ذلك أحد عوامل زيادة حجم التضخم في ليبيا. الأمر الذي يكشف عن المدى الذي قد تصل إليه روسيا في انخراطها في اقتصاد البلاد.

السياسات الخارجية.. إسرائيل الورقة الأخيرة في يد الجنرال

بعد معركة طرابلس وفشل الجنرال في حسم الأمور عسكريًا لصالحه، أشارت بعض التقارير إلى تراجع بين صفوف الدول الداعمة لحفتر إقليميًا ودوليًا، ولفتت إلى أنه ليس من المستبعد أن تتخلى مصر، والإمارات، والسعودية، وفرنسا عن دعمه، في حال اتخاذ بايدن موقف عدائي واضح وصريح تجاهه، أيضًا في أعقاب إعلان سيف الإسلام القذافي الترشح للانتخابات الرئاسية (قبل أن يجري رفض ترشحه رسميًا)، ظهرت تقارير تتحدث عن ضغوط موسكو على حفتر لدعم القذافي، وتشكيل تحالف سياسي – عسكري «لا يُهزم».

لكن مع وصول الجنرال إلى منصب الرئاسة ستكون هذه الدول مضطرة للتعامل معه، كونه صار الرئيس الشرعي للبلاد، وهو من كان سفير مصالحهم السياسية والاقتصادية في البلاد منذ سنوات، وهو الضامن لتحجيم قوى الإسلام السياسي، والحيلولة دون وصولها إلى مراكز الحكم، كما ترغب هذه الدول، لذلك من المتوقع أن تزدهر علاقات ليبيا بمصر والإمارات، على المستوى الإقليمي، وفرنسا وروسيا، على المستوى الدولي، بحيث يتمتع حفتر بالظهير السياسي والاقتصادي إقليميًا ودوليًا، مع وجود دور خاص لروسيا.

إلا أن معضلة الجنرال الحقيقية تكمن في علاقته مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن. ورغم عدم انخراط الولايات المتحدة بشكل كبير في الشأن الليبي، مقارنةً بدور غيرها من الدول، إلا أن كل المؤشرات تؤكد عدم رغبة إدارة بادين في التعامل مع حفتر، والذي يواجه قضيتين مرفوعتين ضده أمام محكمة فيدرالية أمريكية بولاية فرجينيا، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ومن المُرجّح أنه في حال جرت إدانته، أن تقوم واشنطن بمصادرة ممتلكاته هناك، والتي تُقدَّر بملايين الدولارات، وربما يواجه الجنرال مزيد من الدعوات القضائية، بالنظر إلى أن صورته الذهنية في واشنطن تستند إلى كونه مُجرم حرب.

لذا فإن ورقة اللعب الوحيدة التي يمتلكها الجنرال في مواجهة الولايات المتحدة، أو بالأحرى من أجل التقرّب منها، هو إسرائيل، وبالنظر إلى خريطة تحالفات حفتر الإقليمية، وموقفه العدائي تجاه قوى الإسلام السياسي في ليبيا وسائر الدول العربية، وبالنظر كذلك إلى تناقض المصالح بين إسرائيل وتيار الإسلام السياسي العربي والذي صل لمرحلة العداء في بعض الحالات، يمكن اعتبار حفتر «حليف طبيعي» لإسرائيل.

فمن جهة يرغب الجنرال في اكتساب حليف قوي إقليميًا، مثل إسرائيل، قادرة على دعمه عسكريًا واقتصاديًا حال وصوله إلى الحكم، ومن جهة أخرى ترغب إسرائيل في توسيع دوائر التطبيع العربي، والاستفادة من موقع ليبيا جغرافيًا، لدعم مشروعها «إيست ميد» لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.

وليس أدل على رغبة حفتر في تدعيم علاقته مع إسرائيل، إبان فترة الانتخابات، من تلك الزيارة التي نفذها نجله صدام إلى إسرائيل، في 1 نوفمبر 2021، والذي ذكرت التقارير أن الهدف منها عرض إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين الطرفين، وربما توقيع اتفاق تطبيع بشكل رسمي، وذلك في مقابل تقديم الدعم السياسي والعسكري الإسرائيلي لحفتر، وبالتحديد فيما يخص علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية.

****

محمد محمود السيد .. باحث دكتوراه في العلوم السياسية
_____________

مواد ذات علاقة