عرض: صباح عبدالصبور

لم تعد هناك مسافات بين الداخل والخارج؛ إذ باتت التطورات المحلية جزءاً من السياقات الإقليمية والدولية بطبيعة الحال، وكان للنظام الدولي الذي تبلور منذ نهاية الحرب الباردة، بقيادة الولايات المتحدة كقطب أوحد، دور بارز في تشكيل السياسات بمنطقة الشرق الأوسط.

وفي ضوء هذا تمثل الأزمة الليبية أحد النماذج الدالة على ذلك؛ إذ يجادل كتاب “ليبيا والاضطراب العالمي المستمر ” الصادر عن جامعة أكسفورد عام 2021 –وهو من تأليف الخبير بالشؤون الليبية ورائد الأعمال “جيسون باك”– أن المشكلة لا تكمن فقط في أن ليبيا الغنية بالنفط قد دمرتها الحرب، بل يتعلق الأمر على نطاق أوسع بانهيار النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة. ويؤكد الكاتب أن الصراع المستمر في ليبيا يشكل نموذجاً مصغراً مثالياً لتحديد السمات البارزة للحقبة الجديدة للجغرافيا السياسية.

إذ يحاول باك من خلال كتابه تقديم تقييم نقدي لحالة النظام العالمي الحالي من خلال دراسة حالة ليبيا ما بعد القذافي، كما يساهم في فهم تقلبات الشرق الأوسط، والنضال من أجل تشكيل نظام عالمي جديد وتأثيره على الشرق الأوسط، وكذلك الحماية الذاتية للمصالح الخاصة من قبل الدول المتحالفة، والبيروقراطيات المتنافسة، والشركات الكبرى.

ويوضح الكاتب أن ثمة نظاماً عالميّاً جديداً قد تشكَّل، وهو نظام “اللا قطبية” أو ما سماه “الاضطراب المستمر”، وأننا بصدد نهاية عصر الهيمنة القطبية الأحادية التي سادت لعقود بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، كما يقدم الكتاب، عبر فصوله المختلفة، خمس ديناميكيات مختلفة للصراع في ليبيا، توضح أيضاً الجوانب الرئيسية لحالة الفوضى الحالية في النظام الدولي.

نظام “الاضطراب المستمر”

حاول الكاتب تشريح النظام الدولي الحالي، وانتهاء عصر القطبية الأحادية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- انتقال العالم من الأحادية القطبية إلى اللا قطبية: بدأ باك كتابه بهذا الاقتباس: “إن شؤون إيطاليا وليبيا مرتبطة بشؤون آسيا واليونان، وميل الجميع إلى الوحدة”. وهذه كلمات للمؤرخ والسياسي اليوناني بوليبيوس. لكن بينما سعى الأخير إلى شرح صعود الجمهورية الرومانية، وكيف تحول عالم البحر الأبيض المتوسط من عالم متعدد الأقطاب إلى عالم ثنائي القطب إلى عالم أحادي القطبية في ظل الهيمنة الرومانية؛

فقد سعى باك إلى توضيح تراجع الهيمنة الأمريكية، كما تتبع التقدم من القطبية الثنائية خلال الحرب الباردة، إلى القطبية الأحادية خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، إلى الحالة الجديدة من عصر اللا قطبية، وأكد أن العالم قد دخل حقبة تاريخية جديدة أطلق عليها “الاضطراب المستمر”.

2- تصاعد “الذاتية” في مقابل “التنسيق الجماعي”: يفسر الكاتب كيف ولماذا خرج النظام الدولي من عصر القطبية الأحادية ودخل مرحلة جديدة من الاضطراب العالمي المستمر؛ إذ يرى أنه لم يعد العمل الجماعي ذو المنفعة المتبادلة بين مراكز القوى المختلفة، يُمارَس على نحو متماسك، بل دخل العالم في دوامة سلبية من الحوافز الذاتية التي تدفع نحو الفوضى والصراع.

3- تلاشي المسافات بين ما هو “محلي” وما هو “دولي”: يعد مفهوم الاضطراب المستمر -من نواحٍ عدة- إعادة صياغة للنظرية الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية؛ إذ ترى الواقعية النظام الدولي باعتباره عالماً من الفوضى. ومن ثم، فإن التعاون مشروط بدرجة كبيرة، والدول عرضة للصراع والمنافسة، كما يرى الواقعيون الاستقرار النسبي للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية نتيجةً للهيمنة الأمريكية.

ومع ذلك، فإنه مع تراجع الهيمنة الأمريكية تتراجع جوهريّاً قدرة المجتمع العالمي على العمل الجماعي. وعلى عكس الواقعيين، يراعي الكاتب أهمية الديناميكيات الوطنية والأنظمة السياسية ووسائل الإعلام والتقنيات الناشئة، فضلاً عن العوامل النفسية عند تشخيص حالة الاضطراب الحالية، ويشير باك إلى أنه في هذا العصر، لم يعد هناك إمكانية للتمييز الحاد الذي وضعه الواقعيون بين العوامل المحلية والدولية.

4- بروز “المذهب التجاري الجديد” على المستوى العالمي: قدم المؤلف مفهوم “سيكولوجية شاغلي المناصب incumbent psychology” لشرح ميل مَن هم في السلطة نحو تجنب المنافسة في السوق الحرة، ومنع الابتكار التجاري عن طريق منع المنافسين الجدد. ووفقاً للكتاب، فقد أصبح هذا هو المنطق المهيمن لبعض الفاعلين العالميين المعاصرين، سواء كانوا شركات أو أفراداً أو مؤسسات “شبه حكومية.

ووفقاً للكاتب استُبدلت مكانَ الأسواق العالمية التنافسية، ما سماه الكاتب “المذهب التجاري الجديد” الذي يعتمد على الاحتكار والوصول التفضيلي إلى الأسواق. وبينما ذهب البعض إلى أنه سيتم تشكيل نظام جديد غير ليبرالي، يؤكد باك أن هيمنة المذهب التجاري الجديد لا تنذر بأي نظام على الإطلاق. ويرى باك أن صعود النزعة التجارية الجديدة جاءت نتيجة حتمية لانخفاض القدرة التنافسية للشركات الأمريكية وغيرها من الشركات الغربية التي ترغب الآن في عزل نفسها عن المنافسين الجدد.

الانعكاسات على الوضع الليبي

يتحدث الكاتب عن وجود تشابكات بين التطورات في النظام العالمي ونهاية الهيمنة الأمريكية وبين تطورات الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا؛ وذلك على النحو التالي:

1- تدليل الأزمة الليبية على فشل الجغرافيا السياسية: يعتبر الكاتب الصراع في ليبيا نموذجاً مصغراً لفشل الجغرافيا السياسية الجديدة؛ حيث يعتقد أن العالم لم يعد يحكمه التنسيق الدولي، أو كتلة الناتو الموحدة، أو الهيمنة الأمريكية، بل الاضطرابات المستمرة، إذ بينما يؤدي انهيار الإمبراطورية المهيمِنة –تقليديّاً– إلى استعادة توازن القوى من خلال الصراع بين الأنظمة المتنافسة في النظام الدولي؛ يبدو أن هذه الديناميكية غائبة في النظام الحالي.

2- تحول ليبيا من “غياب الدبلوماسية” إلى “الانفجار”: اعتمد الكاتب على أكثر من عقدين من البحث في ليبيا لتسليط الضوء على جوانب الاضطراب في الشؤون العالمية الحالية؛ حيث يؤكد أنه تم تشكيل مسار الدولة بعد معمر القذافي من خلال غياب الدبلوماسية الدولية المتماسكة؛ ما أدى إلى الانفجار الداخلي المتزايد في الدولة، وهو ما ساعد بدوره في انتشار العدوى عبر الحدود، وزاد من تآكل المؤسسات العالمية والشراكة الدولية. ولفت الكاتب إلى أن ردود الفعل الضعيفة وغير المنسقة من صانعي السياسة الغربيين على انتفاضات الربيع العربي، واغتيال السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز في بنغازي؛ أدى بطريق غير مباشر إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة.

3- إمكانية فهم النظام العالمي من خلال انقسام ليبيا: تتمثل فرضية الكتاب في أن تجزئة ليبيا عقب الإطاحة بالقذافي لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً دون وضعها في سياق النظام العالمي ككل، الذي يسوده الاضطراب الدائم، كما يرى باك أن ليبيا هي النموذج المثالي الذي يمكن من خلاله رؤية السمات الأساسية لهذا الاضطراب العالمي.

4- خمس ديناميكيات تفسر الحالة الليبية الراهنة: يقدم الكتاب، عبر فصوله المختلفة، خمس ديناميكيات مختلفة للصراع في ليبيا، توضح أيضاً الجوانب الرئيسية لحالة الفوضى الحالية في النظام الدولي؛ بدءاً من كيف ولماذا فشلت جهود إعادة الإعمار الغربية في ليبيا، وكيف نشأت التنظيمات الجهادية نتيجة فشل الدولة، إلى العلاقة بين الفضاء السيبراني غير الخاضع للحكم والشعبوية الجديدة، وصولاً إلى شرح كيفية انعكاس انهيار الاقتصاد الليبي على الاختلالات الوظيفية للمؤسسات العالمية؛ وأخيراً توضيح سبب عدم قيام بعض الشركات المتعددة الجنسيات بالترويج للأسواق الحرة.

ختاماً، يقدم الكتاب رؤى مهمة؛ ليس حول خصوصية ليبيا فقط، بل حول الاتجاهات الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أيضاً. ويركز نهج باك على إعطاء مساحة ووزن متساويين لكل من الديناميكيات العالمية والمحلية (الليبية)؛ إذ إنه مع تأكيد المؤلف للكيفية التي أدت بها تصرفات صانعي السياسة الغربيين إلى تفاقم انهيار الدولة الليبية، فهو يؤكد أيضاً دور القادة الليبيين في الأزمة، ويوضح كيف أن فشل الدولة الليبية لم يكن حتميّاً، بل كان نتيجة اختيارات كل من الجهات الليبية والغربية.

ويؤكد الكاتب أهمية التعلم من حماقات الماضي والحاضر، ومن ثم –حسب الكاتب- إذا كان ما يحدث في ليبيا نتيجة اضطراب على مستوى النظام الدولي، فربما تكون أفضل مكان للبدء في إصلاحه.

_______________

مواد ذات علاقة