جوناثان واينر

دخل الصراع على الشرعية في ليبيا جولة ثالثة جديدة بوجود حكومتين متنافستين

نشر معهد الشرق الأوسط الأمريكي تقريرًا لجوناثان وينر، الباحث غير المقيم في المعهد والمبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا بين عامي 2014- 2016، تحدث فيه عما تشهده الساحة الليبية من حكومات مزدوجة وصراع على الشرعية لا يبدو أنه في طريقه إلى الحل في وقت قريب، خاصة بعد تعيين باشاغا رئيسًا للحكومة الليبية.

نظرة على تاريخ باشاغا

يستهل الكاتب تقريره بالقول إنه مع انتخاب مجلس النواب الليبي في 10 فبراير (شباط) الجاري، المصراتي فتحي باشاغا لشغل منصب رئيس جديد للوزراء في البلاد، دخلت ليبيا جولة ثالثة جديدة من وجود حكومتين تتنافسان على الشرعية في البلاد.

ونظرة على تاريخ باشاغا تعطينا نافذة نفهم من خلالها كيف وصلت ليبيا إلى هذا الواقع، وباشاغا شخصية معروفة في الأوساط الفاعلة الليبية والدولية المنخرطة في شؤون البلاد، فبعد أن كان طيارًا في القوات الجوية الليبية في عهد معمر القذافي، انتُخب باشاغا ليكون عضوًا في مجلس النواب الليبي الجديد عام 2014، وهو العام الأخير الذي شهد انتخابات وطنية.

ثم قاطع باشاغا مجلس النواب عندما نقله رئيسه الجديد، عقيلة صالح عيسى، من طرابلس إلى طبرق في الشرق، معقل صالح وقاعدته الشعبية، وكانت النتيجة أن غدت ليبيا على موعد مع الجولة الأولى لها من وجود حكومتين متنافستين، الأولى حكومة غربية في طرابلس تمثل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، والأخرى حكومة شرقية مدعومة من صالح وبقايا مجلس النواب الليبي في مدينة البيضاء.

وخلال عامي 2014 و2015، انخرط باشاغا بقوة في عملية السلام التي رعتها الأمم المتحدة، والتي أدَّت إلى الاتفاق السياسي الليبي الذي وُقِّع في مدينة الصخيرات في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2015، وكان من المفترض أن يُنهي فترة الحكومات المزدوجة، وتشكلت على إثر هذا الاتفاق حكومة الوفاق الوطني واتخذت من طرابلس مقرًّا لها. وأصبح باشاغا وزيرًا للداخلية في هذه الحكومة ونظَّم بفاعلية، وبدعم من تركيا، تحالف القوى الذي قاوم جهود أمير الحرب الليبي خليفة حفتر للسيطرة على طرابلس وإخضاع البلاد لحكمه الشخصي في عامي 2019 و2020 وأبطلها.

أعداء الأمس أصدقاء اليوم

ينوِّه الكاتب إلى أنه في أعقاب الهجوم العسكري الفاشل الذي قاده حفتر، وانتهاء الحرب الأهلية المدعومة من الخارج في البلاد، اختلف باشاغا مع رئيس الوزراء الليبي آنذاك فايز السراج، واستقال من حكومة الوفاق الوطني، ثم سرعان ما توافق مع عدوه العسكري السابق حفتر، ومع صالح الذي قاوم باضطراد منذ عام 2015 وحتى 2021 حكومة الوفاق الوطني ورئيس وزرائها آنذاك وأعاق عملها بوصفها حكومة شرعية في البلاد. ودشَّن بذلك المرحلة الثانية من المؤسسات الموازية والمتنافسة في المنطقة الساحلية الشرقية لليبيا.

وبحلول مارس (آذار) 2021، ومع انفضاض الشعب عن حكومة الوفاق الوطني والإنهاك الذي أصاب السراج، والأزمة النقدية التي واجهها شرق ليبيا بعد أن صادرت مالطا دنانير ليبية مزيفة طبعتها شركة جوزناك الروسية؛ ما أدَّى إلى إفلاس عديد من بنوك المنطقة، عقد باشاغا صفقة مع صالح. وبموجب هذا الاتفاق، كان من المفترض أن يكون باشاغا رئيسًا للوزراء وأن يكون صالح رئيسًا للبلاد في حكومة انتقالية بوساطة الأمم المتحدة ومبعوثتها الخاصة آنذاك، ستيفاني ويليامز، وهي حكومة الوحدة الوطنية التي كان من المقرر أن تتولى السلطة حتى انتهاء الانتخابات الوطنية التي كان من المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021.

ولكن بدلًا من جمع باشاغا ما يكفي من الأصوات من إقليم طرابلس في الغرب، وجمع صالح الأصوات من برقة في الشرق من الخمسة وسبعين عضوًا في منتدى الحوار السياسي الليبي الذين اختارتهم الأمم المتحدة للتصويت لاختيار رؤساء حكومة الوحدة الوطنية الجديدة، خطف النصر رجل آخر من مصراتة، وهو الملياردير عبد الحميد دبيبة الذي قيل إنه فعل ذلك بتقديم رشاوي مدروسة بعناية، وأصبح بذلك رئيسًا للوزراء في حكومة الوحدة الوطنية، وبعد أن أكدت عدة مصادر أن الدبيبة قدم رشاوي للفوز بهذا المنصب، أجرت الأمم المتحدة تحقيقًا واتخذت قرارًا أن تبقى نتائجه سرية.

الدبيبة في دائرة الضوء

ويرى الكاتب أنه بعيدًا عن سحابة الشكوك التي أثيرت حول شرعية الدبيبة، ولكونه أول زعيم منذ سبع سنوات لا يواجه حكومة منافسة في الشرق، ومتحلل من أي تهديد مباشر للصراع الأهلي، استخدم الدبيبة ما تبقى من عام 2021 لتوزيع الهبات من عائدات النفط الليبية بحرية وبراعة لدعم مشروعات البنية التحتية الشعبية الجديدة، ثم خرق الدبيبة الالتزام الذي كان مطلوبًا منه كي يصبح رئيسًا للوزراء وهو ألَّا يُرشح نفسه لانتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر، وهو في وضع جيد يسمح له بأن يكون مرشحًا رئيسًا بعد أي جولة انتخابات أولى.

ولم تكن هذه هي الطريقة التي كان من المفترض أن تسير بها الأمور لتصب في مصلحة صالح الذي استخدم منصبه بمهارة ليضمن أن أي عملية أو مؤسسة ليبية لا يسيطر هو عليها يكون مصيرها الفشل، وفي أغسطس (آب) 2021، خطط صالح لسحب مجلس النواب الليبي الثقة من الحكومة الانتقالية برئاسة الدبيبة، وبعد مرور شهر، أجرى مجلس النواب تصويتًا آخر لحجب الثقة وأعلن أن حكومة الدبيبة مخوَّلة للعمل فقط بوصفها حكومة مؤقتة إلى حين عقد الانتخابات، ثم أعلن صالح ترشحه لمنصب رئيس ليبيا في انتخابات ديسمبر المعلقة.

وعندما لم تُجرَ انتخابات ديسمبر، حدث ذلك غالبًا لأن صالح صمَّمها لتفشل حين قسَّمها إلى عدة مراحل لتعزيز قدرته على التحكم في النتائج، أصبحت الخطوة الأخرى، التي سيتخذها صالح للنجاح في سعيه ليصبح رئيسًا مع رئيس وزراء مختار بعناية، أمرًا حتميًّا.

وهكذا، فإن ظهور باشاغا خيارًا لمجلس النواب لتعيينه رئيسًا للوزراء يُعد بعثًا، بعد مرور عام، لما كان يسعى إليه صالح طوال الوقت؛ رئيسًا للوزراء يعتمد عليه وعلى قاعدته في الشرق ولكن له قاعدته الخاصة أيضًا في الغرب، بما فيها المليشيات الكبرى. وفي يوم اختيار باشاغا، نجا الدبيبة من محاولة اغتيال (كان باشاغا نفسه قد نجا من محاولة اغتيال مشابهة العام الماضي)، وأعلن عقبها مباشرةً عزمه الاستمرار في منصب رئيس الوزراء، وعبَّر عن دعمه لإجراء انتخابات ليبية في أقرب وقت ممكن.

وفي الوقت نفسه، طار باشاغا إلى طرابلس ووعد بحرص الحكومة الليبية الجديدة على المصالحة والعمل الشامل مع جميع الأطراف.

الصمت الأجنبي

إن عدم اليقين بشأن وجود حكومة واحدة في ليبيا (وإن كان كذلك، فأيهما؟) أم حكومتين (وفي هذه الحال، أين سيكون مقرها؟)، وهل يجري التوصُّل إلى تسوية سياسية سلميًّا أم بالقوة، قابلته الحكومات الأجنبية، المشغولة الآن بخطر الغزو الروسي لأوكرانيا، بالصمت باستثناء مصر التي أيَّدت باشاغا، على الرغم من ارتباطه الطويل والوثيق بتركيا.

ويوضح التقرير أنه حتى الآن، اقتصر رد فعل الأمم المتحدة، من خلال أمينها العام أنطونيو جوتيريش ومستشارتها هناك ستيفاني ويليامز، على حث جميع الأطراف على الحفاظ على الاستقرار ودعم إجراء انتخابات مبكرة. وقُيدت قدرة ستيفاني على تحقيق ذلك بشدة بعد رفض روسيا تفويض بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى ما بعد 30 أبريل (نيسان)، ما يضيِّق مساحة الوقت أمام ستيفاني لأداء مهمتها ما لم يكن جوتيريش قادرًا على إبرام صفقة مع روسيا.

وفي حين أنه من الأفضل تمكين الشعب الليبي لاتخاذ هذا القرار بنفسه، إلا أن قدرة باشاغا وصالح وحفتر على تشكيل تحالف جديد لا يزال تطورًا مذهلًا في التاريخ الليبي، وذلك أن هذا الأمر يشير إلى إمكانية مجموعة من الأشخاص الذين يتمتعون بدعم من قواعد مختلفة تمامًا إيجاد طريق لتقاسم السلطة والموارد بصورة يمكن أن يتحقق معها الاستقرار في البلاد. وستتعزز إمكانية نجاح هذا التحالف إذا تمكن باشاغا في نهاية المطاف من حشد ما يكفي من القوات العسكرية، بما فيها مليشيات طرابلس، لدعمه كما فعلوا أثناء دفاعهم عن طرابلس ضد حفتر.

وبالمثل، فإن قدرة الدبيبة على استخدام ثروات ليبيا لتأمين دعم مجموعة من الجماهير التي تقف خلفه هي تطور إيجابي بشكل ما، إذ كان استخدام الثروة النفطية الهائلة لشراء الناس من أجل البقاء في السلطة أحد أهم مهارات القذافي، وإذا بقي الدبيبة في السلطة، فسيعكس ذلك قدرته على تأمين الدعم من داخل ليبيا بدلًا من الاعتماد على أي جهة أجنبية.

دور المجلس الأعلى للدولة

يلمح الكاتب إلى أن المجلس الأعلى للدولة في طرابلس من العوامل المهمة في تحديد ما الذي سيحدث في ليبيا، والمجلس عبارة عن هيئة شُكِّلت لتكون هيئة استشارية لاستبدال الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015 بالمؤتمر الوطني القديم. إن دعم حكومة باشاغا من المؤتمر الوطني العام، بوصفه النصف الآخر للسلطة التشريعية في ليبيا، المستقل عن صالح والمعارض لأفعاله في كثير من الأحيان، من شأنه أن يزيد الشرعية المتصورة لعمل مجلس النواب، ومن المحتمل أن يزيد من قدرة باشاغا على تأمين مزيد من الدعم من مجموعة متنوعة من الفاعلين السياسيين والتجمعات الأمنية على الأرض في طرابلس.

وحتى الآن، لم يتَّخذ رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، موقفًا واضحًا حول تعيين باشاغا، ومع أنه دعم هذا التعيين في البداية فإن المجلس الأعلى للدولة لا يحظى بالسلطة الرسمية للموافقة على التعيينات أو رفضها لأن دوره الوحيد استشاري، بيد أن المشري قال إن المشاورات ما زالت جارية.

ويختم الكاتب بالقول: إن غياب الانتخابات يجعل شرعية أي حكومة ليبية موضع نزاع، وهو أمر مبرر، ولكن النبأ السار في خضم هذه الدراما المستمرة هو أن الليبيين اليوم هم مَنْ يأخذون بزمام المبادرة لتحديد مَنْ سيحكم ليبيا وليس الجهات الأجنبية. والخبر السيئ هو أن الاضطراب الحالي يهدد بتجدد الصراع المسلح في طرابلس، مُرجئًا حل المنافسة السياسية والأمنية والمالية إلى فترة أخرى من نزاع الحكومات المختلفة على الشرعية في البلاد.

________________

مواد ذات علاقة